مقاهي الحجاز مجمع للراحة والثقافة والفن

كان إبراهيم خفاجي أحد أهم كتاب وصناع الأغنية في التاريخ السعودي، مفعماً بالحيوية، مولعاً بالمرور بين مقهى المريعاني في سوق الليل -شرق الحرم المكي-، ومقهى السندي بالفلق -شمال الحرم-، وهي تفيض بالدانات والصهبة، التي كانت بمثابة استراحة لأرواح تقتعد تلك المقاهي بكراسيها المصنوعة من خشب وألياف نباتية، صمدت كثيراً حيال وطأة شمس مكة. 
 
غناء المقاهي الذي كان سائداً كملمح من أشد ملامح الحياة المكية ضراوة طوال حقب التاريخ حتى نهايات السبعينيات من القرن العشرين تقريباً، يمثل درباً من أهم الدروب التي مشاها الخفاجي في طريقه وهو يشيد بناءات الأغنية السعودية، محلقة بحناجر كبار المغنين كطلال مداح ومحمد عبده وعبدالمجيد عبدالله، وموشاة بموسيقى العمالقة الذين سجلوا (نوتة) الموسيقى المحلية، طارق عبدالحكيم وعمر كدرس وفوزي محسون.
 
غير أن خفاجي عملاق الكلمة الغنائية، ما هو إلا شذرة من شذرات امتدت لأنحاء مكة كلها وماحولها من مدن، مستمدة واقع مقاهيها من إرث إنساني كوني واحد يتنوع مضمونه على هامش ثقافة البلد / المكان. إذ لا يمكن القول أبدا بأن (المقهى) يمثل ثقافة مكية أو حجازية، لأن المقهى ببساطة فكرة إنسانية محضة، تعرفها كل المجتمعات والثقافات التي تطوعها وتشكلها طبقاً لما يتوازى مع مكونات الوعي والتفكير وطبيعة القيم الموجودة فيها.
 
في كثير من الأحيان كان الشاعر الخفاجي الملقب بـ(جواهرجي الكلمة)، ينطلق من حيث سكناه في حارة سوق الليل، نحو مقاهٍ أخرى كثيرة تمتد سواء في أطراف مكة أو بين عطفات حاراتها، فالمقهى جزء حيوي من فسيفساء الحياة في المجتمع، وربما يصفها البعض بأنها مظهر من مظاهر مدنية المجتمع، على نحو ما رصده المؤرخ المكي محمد طاهر الكردي حين يقول «حاجة الإنسان ماسة إلى الجلوس في المجتمعات العامة كالقهاوي، لما فيها من أسباب راحته من الطعام والشراب وأنواع المسليات؛ فالقهاوي هي بمثابة النوادي العامة يقصدها الإنسان للاستجمام والراحة هرباً من متاعب البيوت والمنازل.

فوجود القهاوي أمر ضروري، يأوي إليها الناس خصوصاً طبقات العمال والصناع». هنا تستعيد طائفة من الأهالي التابو الاجتماعي الذي كان سائداً إلى ما قبل بدايات الانفتاح منتصف الستينيات الميلادية تقريباً مع وصول البث التلفزيوني، إذ كان ارتياد المقاهي بشكل عام مقتصراً على العمال والمهنيين، ويمثل ارتيادها عيباً من لدن الطبقات المتعلمة والأسر المحافظة، ولعل هذا ما يفسر شهرة مقاهي كانت تعتبر في أطراف مكة حينها، ويرتادها نفر من المتعلمين، والمثقفين، وكأنهم رمزياً يهربون من سلطة المجتمع، ومن أهم هذه المقاهي في مكة (قهوة عبدالحي) في المسفلة التي يرتادها كبار مثقفي المدينة المقدسة، وقهوة الشربيني في العزيزية التي ذاع صيتها مطالع الثمانينيات الميلادية حيث ضمت مركازاً أسسه الصحافي حينها الدكتور إبراهيم الدعيلج، وكان يجتمع شبه يومياً فيه صحافيو كتاب مكة، وبالمقابل، كانت (قهوة الدروبي) في جدة التي أسس فيها الصحافي علي خالد الغامدي مركازاً ملاذاً لمعظم صحفيي عروس البحر الأحمر (جدة)، ومنهم الكاتب محمد صادق دياب -رحمه الله- الذي أورد في كتابه (جدة) «أن المقاهي حظيت قبل شيوع المذياع والتلفزيون بنوعية خاصة من الزبائن يؤثرون الاستماع إلى قصص عنترة بن شداد والزير سالم وأبو زيد الهلالي يقصها عليهم قاري السيرة، إذ اعتادوا أن يتحلقوا حوله كل ليلة يقرأ عليهم فصولاً من تلك الروبات، مقابل قروش بسيطة يجمعها صاحب المقهى من الحضور. ومن أشهر المقاهي التي اشتهرت بقراءة سيرة عنترة قهوة حسنين بجدة». 

 
بينما يشير دياب إلى مقاهٍ أخرى كانت شهيرة في جدة، ومنها قهوة البنط وهي قهوة البحارة، قريبة من الميناء، وقهوة الجمالة وتقع بباب مكة وهي استراحة قافلة الجمال الآتية من خارج جدة من القرى محملة بالفحم والحطب وبعض المنتج الزراعي، وقهوة الفتيني في حارة الشام ويرتادها بعض الموظفين والكتاب. 
 
والمؤرخون الذين كتبوا عن جدة في مراحل تاريخية مختلفة لفت نظرهم أن لكل طائفة مهنية مقهاها، فهناك قهوة للمقرئين وأخرى للجمالة وثالثة للبحارة ورابعة للبنائين وخامسة للنجارين، ونحوه، وكل هؤلاء تقريباً يجمع بينهم حب (المغنى) والطرب، فكانوا يشعلون جلساتهم بالمجس والدانة والصهبة، ومن هنا امتلأ وجدان الخفاجي، وتكون وعيه، فشع الفن في الحجاز. وحتى هذه اللحظة، لا تزال الذاكرة الاجتماعية على مرور الأيام عبر المستجدات والمتغيرات لشكل الحياة وإيقاعها، تستشعر أجواء ذلك الواقع، دون أن تتذكر كثيراً أن تلك المقاهي كانت أيضاً بمثابة فنادق ومهاجع للمسافرين والعابرين بين المدن، في زمن كان يمكن أن يبيت فيه الفرد ليلة في مقهى بالعراء. 
 
 ومع الاقتراب من طريق المدينة المنورة، يستذكر أهالي جدة، مقاهي الطريق التي نشأت مع فورة الحداثة منتصف السبعينيات، ومنها قهوة كاظم التي تعتبر من أشهر المقاهي الفندقية، ومبيتاً لكثير من عابري الطريق باتجاه المدينة المنورة، والحفرة وبافيل.
 
الأمر نفسه ينطبق على مدينة الطائف من حكاية المقاهي، إذ كانت تتصل هذه المدينة باشتعالات الصيف حين تفيض مقاهيها بالمصطافين من كبريات مدن المملكة، فتعج مقاهي الشرقية، ونجمة، وبورسعيد والغربي، وسواها كثير بالنخب من رجالات الأدب والفن والمال، ما كان يجعل الطائف تتيه في تلك الأيام في كرنفالات الموضة والطرب والفن وبهجة الحياة التي تحفها مساحات زراعية خضراء كانت السمة الأولى والأقوى والأهم لمدينة كالطائف. حين لم يفوت السائحون استكشاف غنج المدينة ودلالها واستكشاف الطرق التي تمر عبر رقة المروج والحقول ودقة الفاكهة.
 
بين تلك المروج كان الخفاجي الذي توج بكتابة كلمات السلام الملكي، يغذي روحه لترق عنده الكلمة، فيدلقها بعذوبة : 
«ياريتني أملك الأفراح 
وأتصرف بها وحدي
وأعرف كم بقيلي جراح 
 وكم ساعة هنا عندي».

المصدر : المجلة العربية | 16 / 11 / 2012م | 
بقلم : محمود تراوري