قبل قرن.. ابن مكة المكرمة يصدر صحيفة في إندونيسيا.

د. عبدالعزيز بن صالح بن سلمة

في أواخر شهر أبريل 1995 م، قُدِّرَ لي أن أحضر جلسات اليومين الأخيرين من مؤتمر علمي دولي بعنوان: «حركات الهجرة من الجنوب العربي في المحيط الهندي: الحالة الحضرمية بين عامي 1750 1967 م»، عقد في مقر كلية الدراسات الشرقية والأفريقية التابعة لجامعة لندن. شارك في ذلك المؤتمر الذي علمت عنه بالصدفة قرابة الخمسين باحثاً، من جامعات ومراكز بحوث في إندونيسيا وماليزيا وهولندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا والصين وسنغافورة واليابان وأمريكا...، وإسرائيلي واحد من الجامعة العبرية بالقدس المحتلة. ولم يشارك فيه باحث عربي واحد.

وخلال بعض جلسات المؤتمر سمعت عن صحف عربية أصدرها عرب حضارمة وصحف أخرى عمل فيها عرب؛ أفراد من السودان وتونس والمغرب ما بين عامي 1917 و1939 م أي بين الحربين العالميتين. وحتى تاريخ عقد المؤتمر كنت قد قرأت كتاب الباحث الكويتي الدكتور يعقوب الحجي: “الشيخ عبدالعزيز الرشيد: سيرة حياته”، الذي صدر عام 1993 م عن مركز البحوث والدراسات الكويتية؛ وهو ثمرة جهد جبَّار ومُتميَّز- بمعنى الكلمة لا مجازاً- بذله الباحث على مدى أكثر من خمس عشرة سنة لتقصي أدق تفاصيل حياة الشيخ الرشيد وأعماله، وخصوصاً إقامته في إندونيسيا، منذ سفره إليها مطلع ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي- بتشجيع من جلالة الملك عبدالعزيز- وإقامته فيها وإصداره عدداً من الدوريات فيها وحتى وفاته فيها أيضاً. وأولها مجلة “الكويت والعراقي” بالاشتراك مع الإعلامي والرحالة العراقي الأسطورة يونس الجُبوري، المعروف باسم “يونس بحري”. وأصدر الاثنان منفردين- بعد توقف مجلتهما عدداً من الصحف والمجلات.

صدر العدد الأول من مجلة “الكويت والعراقي” الشهرية بإندونيسيا في جمادى الأولى 1350 هـ، الموافق لشهر سبتمبر 1931 م، في بلدة بوقور الواقعة على مسافة ستين كيلومتراً جنوب جاكرتا، وطبعت في المطبعة العربية في مدينة سورابايا، وأتبعها الشيخ الرشيد بإصدار جريدة “التوحيد” في 5 ذي القعدة 1351 هـ، الموافق 30 مارس 1933 م، ومن جهته أصدر يونس بحري صحيفة “الحق الأسبوعية” في 25 جمادى الثانية 1351 هـ، الموافق 26 سبتمبر 1932 م، وكان يكتب في صحف عربية في إندونيسيا، وكان مناصراً للملك عبدالعزيز كذلك، حيث نوه في العدد الثاني من صحيفته بانتصارات الملك عبدالعزيز وجنوده، الذين وصفهم بـخيَّالة التوحيد” على تمرد ابن رفادة في الحجاز (كتاب الحجي، ص. 436).

ولكي لا أطيل على القارئ الكريم أحيله إلى كتاب الدكتور الحجي، وإلى كتاب “أدب المهجر الشرقي” الذي أصدره الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيِّع، الصادر عن مركز الدراسات الشرقية في جامعة القاهرة عام 1999 م، وإلى عدد من المقالات التي نشرها الباحث المعروف الأستاذ محمد بن عبدالرزاق القشعمي؛ ومنها مقال عن كتاب الربيٍّع، نشرته صحيفة عكاظ في 16 أغسطس 2007 م- وسيشار إليه لاحقاً-، بالإضافة إلى محاضرة لكاتب هذه السطور ألقيت في النادي الأدبي بالرياض مساء الاثنين 26 جمادى الثانية 1431 هـ، بعنوان: “الصحافة العربية في المهجر الإندونيسي”، في إطار الاحتفال بمدينة تَرِيم عاصمة للثقافة الإسلامية ذلك العام.

وعودة إلى مؤتمر لندن عن الهجرة استرعى اهتمامي بحث ألقته الباحثة ناتالي موبيني من جامعة ملبورن، وعنوانه: “التحديث الإسلامي في جاوة: السنوات الأولى لجمعية الإرشاد 1914-1922 م” تطرقت فيه إلى الحراك التعليمي والثقافي الكبير الذي شهدته مدينة بوقورBogor جنوب جاكرتا، وهي مدينة أطلق عليها الهولنديون الذين فًتِنوا بجمالها اسم بويتنزورج Buitenzorg.

وفي بوقور هذه أو بويتنزورج أصدر محمد بن محمد الفتَّة صحيفة أسبوعية أسماها “الوفاق”. وقد تطرق إلى اسم هذه الصحيفة أكثر من باحث، ومنهم الأستاذ محمد القشعمي الذي أورد بعض المعلومات الثمينة عنها في مقاله المشار إليه أعلاه، وأرفق مقاله بصورة من العدد 25 من الصحيفة- وحالة العدد متهالكة على ما يبدو- وذكر في مقاله أنه “بالبحث بمقتنيات مكتبة الملك فهد الوطنية وجد (ت) العدد (25) من (الوفاق) الصادر يوم الخميس 5 محرم الحرام 1343هـ الموافق 8 اغسطس 1924م وقد كُتب في أعلى الصفحة الاولى الآية الكريمة (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) والحديث الشريف (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)”، وأورد الأستاذ القشعمي- نقلاً عن الدكتور الربيع- اسم الفتَّة على أنه الغثة، ويبدو أن ذلك خطأ مطبعي.

كما أورد القشعمي في مقاله مقتطفات مهمة مما نشرته الصحيفة من تعليقات سياسية هامة عن حالة النزاع والشقاق بين العرب في إندونيسيا- وقد استعرض الباحث الحجي هذا النزاع منذ نشأته في كتابه- بالإضافة إلى تطورات الوضع في الحجاز وتصرفات الشريف حسين الذي انتقده الفتة في أكثر من موضع، إلى جانب انتصارات الملك عبدالعزيز والثناء على سلامة توجهاته وحسن تدبيره للأمور وتحذيره من خداع الإنجليز وغدرهم.

إذاً فذلك العدد من جريدة “الوفاق” الأسبوعية- العدد 25- الصادر باللغة العربية في مطلع شهر محرم 1343 هـ، الموافق 8 أغسطس 1924 هـ، يدل على أن عددها الأول صدر في عام 1342 هـ، الموافق- ربما- لأواخر عام 1923 أو بدايات عام 1924 هـ، ولا نعرف للأسف تاريخ صدور العدد الأول من الصحيفة على نحو قاطع. لكن الذي أثلج صدري هو تلك المفاجأة السارة التي وافاني بها الأخ الدكتور عبدالحميد بن عبدالله الفتة، وهو قريب لصاحب هذه الصحيفة، والذي أمدني بصور الأعداد العشرة الأولى من صحيفة “الوفاق” التي صدرت باللغة الإندونيسية- أو المالاوية-؛ وتاريخ العدد الأول من هذا الإصدار باللغة المالاوية مؤرخ في 1 سبتمبر 1924 م، الموافق 11 صفر 1344 هـ، وتزينه صورة للحرم المكي الشريف والكعبة المشرفة، والعدد العاشر مؤرخ في 6 يناير 1926 م، الموافق 20 جمادى الآخرة 1344 هـ، مع فجوات زمنية بين بعض الأعداد تدل على عدم انتظام صدور الجريدة التي كانت تنشر بعض الصور في صفحتها الأولى، وربما يعود ذلك إلى انشغال محمد الفتًّة بالعمل أو بالتدريس في مدرسة الإرشاد في بوغور، أو لأسباب أخرى، فهو كان وثيق الصلة بجمعية الإرشاد ونشاطاتها.

ومن أهم الذين تطرقوا إلى جوانب من نشاطات الفتة الدكتور مايكل فرانسيس لافان Michael Lafan في كتابه باللغة الإنجليزية بعنوان: “Under Empire: Muslim Lives and Loyalties Across the Indian Ocean World: 1775-1945”، “تحت حكم الإمبراطورية: حياة المسلمين وولاءاتهم عبر عالم المحيط الهندي...” الصادر عن مطبعة جامعة كولومبيا بنيويورك عام 2022 م، وهذا الكتاب بحث علمي استقصائي ضخم أتى في 468 صفحة، وتطرق فيه المؤلف إلى محمد الفتة والسِّجال الذي كان يدور بينه وبين المنتمين إلى جمعية الإرشاد مع خصومهم من العرب الذين كانوا مستبسلين في تصنيف العرب- الذين استوطنوا في الملايو (اندونيسيا وسنغافورة وماليزيا...)- على أساس طبقي؛ مبني على تميز وعلو مكانة من يقال انهم من الأشراف المنتسبين إلى نبينا محمد- عليه أفضل الصلاة والسلام- على غيرهم. وقد أسس الشيخ السوداني محمد السوركتي، أحد الشيوخ الذي كانوا يدرسون في الحرم المكي الشريف في بدايات القرن الهجري الماضي وأول وأهم من حمل لواء الدعوة إلى المساواة بين العرب في إندونيسيا “جمعية الإرشاد” في مدينة سورابايا عام 1914 هـ، بعد بضع سنوات من هجرته إليها، وسرعان ما نمت تلك الجمعية وانتشرت فروعها عبر اندونيسيا، وحسب البحث الذي قدمته ناتالي موبيني في المؤتمر المشار إليه في بداية هذه السطور بلغ عدد أعضاء الجمعية عام 1922 قرابة خمسين ألف عضو، وبلغ عدد فروعها المنتشرة في جزر أرخبيل الملايو أكثر من 100 فرع. وكان الهدف من انشائها محاربة البدع والخرافات والتصدي لمعتقدات ومقولات من كانوا يرون أنهم أعلى قدراً وأسمى مكانة من الآخرين بحكم انتسابهم إلى آل البيت، بالإضافة إلى إنشاء المدارس الإسلامية وتثقيف المسلمين في إندونيسيا. وقد وصل النزاع بين الطرفين مراحل خطيرة ووصل الأمر إلى التقاضي أمام المحاكم الهولندية في عدد من المدن الإندونيسية.

صَاحِبُ جريدة «الوفاق» محمد الفَتَّة من أسرة علمية وأدبية؛ ولد في مكة المكرمة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري، وجده كان من كبار العلماء المتخصصين في الفقه الحنفي بمكة المكرمة وتولى أمانة الفتوى والقضاء فيها. المعلومات المتاحة عن الفتة في مكة المكرمة قليلة- حسبما ذكر موقع “الرواق المكي” على الانترنت- والذي يفيد بأنه بدأ حياته مع الكتابة الصحفية في جريدة “القبلة” التي كان يصدرها الشريف حسين بين عامي 1916 و1924 م، وكان له فيها زاوية بعنوان “نظرات”، كانت تعنى بالمواضيع الاجتماعية والتربية والأخلاق. وعمل إلى جانب ذلك ناظراً على أوقاف في الشبيكة في مكة؛ ويبدو أن خلافاً دب بينه وبين الشريف حسين فنزعت منه إدارة الوقف، وعلى أثر هذا الخلاف غادر الفتة مكة المكرمة إلى إندونيسيا- ولا يعرف لماذا إندونيسيا بالذات- واستقر فيها في مدينة بوغور جنوب جاكرتا؛ على الأرجح عام 1919 م. وذكرت جريدة “القبلة” في أحد اعدادها، الصادر عام 1339 م- 1920 على الأرجح- أن الفتة أرسل إليها خطاباً من مدينة سوكابومي جنوب جاكرتا ينتقد فيه الشريف حسين.

وعودة إلى صحيفة “الوفاق” التي ذكر الباحث مايكل لافان- وهو أستاذ تاريخ متخصص في تاريخ منطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي في عدد من الجامعات الأمريكية وخريج جامعتي كينبرا بأستراليا وبرنستون بأمريكا-، ذكر في ص. 302 من كتابه أن محمد الفتة كان في صحيفة الوفاق التي تصدر بلغتين من أشد المناصرين للتعديلات التي أجراها الملك عبدالعزيز آل سعود في توحيد إمامة الصلوات في الحرم المكي الشريف، وأنه وقف لوحده منافحاً عنه وعن الإجراءات التي كان يتخذها في مكة؛ إلى حد جعل المناوئين لتلك المواقف من أصحاب الصحف الأخرى وكتابها يطلقون عليه اسم “النجدي” أو “الوهابي”. وأضاف لافان بأن صحيفته العربية التي أصدرت نسخة بالمالاوية فيما بعد بدأت ضعيفة وأشتد عودها سريعاً وأصبحت من بين أقوى الصحف آنذاك.

ونتيجة لتلك المواقف المؤيدة للملك عبدالعزيز، وبسبب مناصرته للشيخ أحمد السوركتي و”جمعية الإرشاد” أيضاً وخصوصاً في مواجهة الهجوم المتواصل الذي كانت تشنه صحيفة “حضرموت” على الملك عبدالعزيز، تعرض محمد الفتة إلى محاولة اغتيال أدت- على الأرجح- إلى توقف صدور صحيفته في أوائل عام 1926 م.

وقد أشار الدكتور لافان إلى أن الصحيفة قد نشرت خبراً بعنوان “محاولة اغتيال مدير الوفاق”، في عدد النسخة العربية الصادر في 29 أكتوبر 1925 م. وتُذَكِّر محاولة الاغتيال هذه بمحاولة اغتيال الصحفي العراقي يونس بحري في مدينة سورابايا بإندونيسيا أيضاً بعد ذلك التاريخ بسبع سنوات؛ بعد نشره للعديد من المقالات الساخرة عن بعض الشخصيات العربية الحضرمية التي كان الناس يحيطونها بهالة من التقديس ويؤمنون بأن لها كرامات، ومناصرته لأحد طرفي الصراع بين العرب في إندونيسيا آنذاك ضد الطرف الآخر. وقد ربط كاتب اسمه عبدالحق الجيلاني مقالاً في صحيفة “الحق”- العدد الثامن في 22 أكتوبر 1932 م- ربط فيه بين محاولة اغتيال الفتة صاحب صحيفة الوفاق في سورابايا في جاوة الشرقية عام 1925 م والاعتداء على يونس بحري في بوقور بجاوة الغربية، وكلا الاعتداءين وقعا في شهر أكتوبر وبينهما سبع سنوات، مما جعل الكاتب يختم مقاله بالقول: “لك الله يا شهر أكتوبر، يا شهر الوقائع والمعارك. إنك تسجل يا شهر أكتوبر الخزي والعار على الفئة الباغية الخارجة على القانون”؛ يقصد الرابطة العلوية التي كانت جمعية الإرشاد على خلاف معها. وتزامن ذلك الاعتداء على الفتة مع ما نشرته “الوفاق” في عددها الصادر في 29 أكتوبر 1925 م بعنوان: “وشاية لدى حكومة هولندا ضد الوفاق”.

الموضوع يستحق الإطالة بالطبع، وهو مما لا تسمح به هذه العجالة، وأغبط من سيتسنى له البحث فيما كتبه الفتة في صحيفة “القبلة” وفي جريدة “الوفاق”، فالموضوع مهم جداً ومفيد، وممتع في الوقت ذاته.


المصدر : مجلة اليمامة | 28 / 11 / 2024م | بقلم
د.عبدالعزيز بن صالح بن سلمة

28/11/2024