عبدالله محمد رواس : جابر القلوب
عبدالله محمد رواس : جابر القلوب
بقلم : خالد محمد البيتي
إذا كان الموظفون ينتظرون نهاية الشهر بفارغ الصبر لاستلام الراتب ، فإن المراسلين والعمال تتعلق قلوبهم بقدومه في ذلك اليوم ، فقد جعل لكل منهم نصيباً مفروضاً في راتبه يدور عليهم صبحاً ومساءً لينال كل منهم حصته التي لا تنقطع .
إنه المخرج الكبير الأستاذ عبدالله رواس رحمه الله الذي ضرب أروع الأمثلة في سخاء النفس واليد وكانت خلة الكرم هي الباعث لكل سلوك يسلكه في الحياة .
كانت تتجلى شخصيته في أبدع صورها في علاقته مع المساكين وذوي الحاجات فما كان يدخر من راتبه شيئًا في سبيل الانفاق عليهم ، لذلك كان محل حفاوتهم في بيئة العمل وخارجه متى كان في رفقة الأصدقاء في المقاهي والمطاعم ، وأكثر من ذلك كان لا يتأخر بالعطاء عن حراس المباني القريبة من دار أخيه التي كان يقيم فيها في بعض الأحايين .
لم تشغله في يوم من الأيام رفاهية نفسه لا في الملبس ولا في المأكل ولا في المركب ، ولم يفكر حتى فى بناء دار له في الدنيا ، لقد كان بالإحسان إلى المحتاجين يبني له داراً في الآخرة وتلك هي عقبى الدار .
وإذا أردت أن تعرف الكثير عن شخصية الاستاذ الرواس فلابد أن تسأل أولئك العمال والمراسلين الذين عملوا معه في مركز تلفزيون جدة ، فإن أقدر الناس على معرفة معادن الرجال وكشفها هم أولئك البسطاء الذين تكشف لك عيونهم وتوحي لك تصرفاتهم مدى رضاهم وسخطهم على الشخصيات التي تعاملوا معها ، لأن سؤال الأنداد قد لا يقود إلى معرفة الحقيقة بقدر سؤال هؤلاء فما أكثر التهم الملقاة على قارعة الطريق والتي يلتقطها بعض الأنداد لوصف بعضهم البعض نكاية وحسدا .
ولربما قال قائل إن باعث رضا البسطاء عليه مرده إنفاقه عليهم وهذا قول ناقص لأن الكرم خلق شامل لا يقتصر على الإنفاق كما أن البخل لا يقتصر على الإمساك وإنما يتعداه إلى منع الجاه وقول المعروف وحسن التقدير .
كان شعار الرواس الإتقان مذ كان مذيعاً حتى تعلق قلبه بالإخراج فهجر تقديم البرامج والأخبار .
لقد ألزم نفسه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه . فإذا قُدِّر لك أن تكون شريكاً في أحد برامجه مقدماً أو مصوراً أو فنياً تحت أي مسمى فعليك أن تروض نفسك على القبول بما يقول وإلا فلن تسلم من ثورة قد تخلع فؤادك إذا تورطت في خطأٍ بسبب التقصير في تنفيذ تعليماته لكنها ثورة في فنجان ما تلبث أن تزول، فإذا بادلت ثورته بالقطيعة تلقاك بالقول : سلام لله يا هاجرنا ، متبوعاً بالأحضان لإزالة مافي النفوس .
لقد كان نسيج وحده في طيبة قلبه وصفحه وتسامحه حتى مع أولئك الذين تمادوا عليه وظنوا أنهم يحسنون إليه وهم يسيئون من حيث لا يشعرون . فما قيمة الجدول أمام النهر وما قيمة اليد السفلى أمام اليد العليا وما قيمة العطاء المحدود المتبوع بالمن أمام من لا يخشى الفاقة .
كان الرواس كفتيلة المصباح يضيء ما حوله فلا يتوانى عن نصح المحتاج من زملائه من المذيعين والمخرجين والفنيين ولا عن الإجابة على اسئلتهم من خلال مخزونه المعرفي الذي اكتسبه من طول صحبة الشيخ على الطنطاوي رحمه الله الذي كان يصطحبه بسيارته من مكة المكرمة إلى جدة ذهاباً وإياباً لما يزيد على عقدين ، وكذلك من خلال قراءاته الخاصة فقد كان قارئاً نهماً لا يفارق المكتبات ولا معارض الكتاب ، وله موعد ثابت لا يتغير بعد صلاة الفجر في مكتبة سوق الراية يجمع فيه مايحلو له من الصحف والمجلات .
من نادي الوحدة الرياضي في مكة المكرمة الذي لم تطل فيه فترة انضمامه لفريق كرة القدم انطلق إلى عروس البحر الأحمر جدة ليلقي رحاله في مبنى التلفزيون زمن البدايات الأولى لنشأته . بدأ العمل مساعداً فنياً ثم مصوراً وبعد ذلك تقدم للعمل مذيعاً واجتاز الاختبار ، شارك في تقديم الأخبار وعددٍ من البرامج كان من أبرزها مايطلبه المشاهدون ، حتى ترك مهنة المذيع إلى غير رجعة ليعمل مخرجاً ارتبط اسمه ببرامج الشيخ علي الطنطاوي ( رحمه الله ) نور وهداية وعلى مائدة الإفطار في شهر رمضان المبارك ، كما شارك لعدة سنوات في إخراج إفاضة الحجيج من عرفات إلى مزدلفة ، و أخرج عدداً من البرامج والمناسبات .
كان مشواره المهني على مدى أربعين عاماً حافلاً بالعطاء ومحفوفاً بالألم بسبب الجمود الوظيفي الذي عانى منه طيلة سنوات خدمته ، فالأنظمة الصمَّاء لا تؤمن بالكفاءة والإبداع سبباً للترقية ولا تنظر للولاء والإنتاج للأخذ بيد الموظف للدرجات العُلى ، و إنما قوامها الشهادات الدراسية والدورات التدريبية التي قلَّ أن تصنع مبدعاً في ميدان العمل .
فخلال مشواره الوظيفي على مدى أربعين عاماً لم يتجاوز المرتبة الثامنة في سلم الدرجات الوظيفية وهي دون مايستحقه بكثير . لقد كان الأستاذ الرواس رحمه الله حلو المعشر تشتاق إليه المجالس ، حتى أشدَّ مخالفيه تجدهم يسألون عنه ويتوقون للقائه فالكل مُجمع على نقاء سريرته و صفاء نيته مهما علا شأن الخلاف .
وكان مدافعًا شرساً عن قيم الدين وتاريخ الإسلام ولا يقبل المزايدة عليهما . ويزداد شراسة عندما يدور الحديث حول مكة المكرمة وأهلها فتلك حدود ملغومة لا يقبل الاقتراب منها ولا المساس بها وربما انفجر بسببها فأسكت النقاد والمتطاولين .
أما مع الأصدقاء فله قصة أخرى لا يحسنها إلا قليلون ، فأينما ذهب يسأل عن أصدقائه ويتواصل معهم ويدعوهم للحضور بإلحاح ، و كان حريصًا على جمع الشمل والسعي لتكوين صداقات جديدة له و لأصدقائه .
والأستاذ الرواس له قاموسه الخاص في المفردات التي يرددها بين الحين والآخر والتي يرددها أصدقاؤه من بعده ضاحكين ، فإذا اقبل إلى مجلس تفقد أصحابه فان غاب عنه احدهم قال : ( مالي لا أرى الهدهد ؟ ) ، وإذا أنكر مقولة احدهم قال ( يا باش بزق ) ، وإذا لم يعجبه ثناء شخص على آخر لا يستحق في نظره كل هذا الثناء قال له ( يا نفعي ) ، وإذا تقبل هذا الثناء على مضض قال ( هو طيب لكن لسلوس ).
ومن جميل خصاله محبته للأطفال فما يزور صديقًا له إلا ويحمل لأطفاله أصنافًا من الحلوى تكفيهم لأيام . لقد عاش الرواس الشطر الأكبر من حياته لوالدته وكان يقيم معها في مكة المكرمة ويعمل في جدة ، ورفض الزواج بسببها رغم إصرارها عليه للزواج ، كانت ككل أم تتمنى أن ترى أحفادها ، لكنه كان يخشى من زوجة تجرح مشاعر والدته بكلمة أو تؤذيها بصنيع ، لقد آثر حسن صحبتها على الزواج فلزم رجليها وهو اللزوم الذي يقود للجنة ، وعندما انتقلت والدته إلى رحمة الله واصل إضرابه عن الزواج مردداً (لقد فات القطار ).
في 12 شعبان 1444 هـ رحل الأستاذ عبدالله رواس عن دنيانا خالي الوفاض كما جاء إليها إلا من حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وحب المساكين وذلك خير الزاد .
0 تعليقات