الْمُلْتَزَمُ | الْجَانِبُ الَّذِي الْتَزَمَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْكَعْبَةِ وَدَعَا عِنْدَهُ

الْمُلْتَزَمُ
الْجَانِبُ الَّذِي الْتَزَمَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الْكَعْبَةِ وَدَعَا عِنْدَهُ (اسمه، فضله، موقعه، مساحته، كيفية ووقت التزامه)
بسم الله الرحمن الرحيم
إن من المسائل التي ذكرها العلماء في كتبهم، وتكلموا عنها وبحثوها، المسائل المتعلقة بالمواطن التي قصدها النبي صلى اللَّه عليه وسلم في البيت الحرام، وخصها ببعض العبادات، والناس في ذلك بهديه سائرون، ولسنته مقتدون، ومن تلكم المواطن التي ذكرها العلماء، ما يُعرف بالمُلتزَم، والذي خصه النبي صلى اللَّه عليه وسلم بالوقوف، والدعاء عنده، وغير ذلك من الأعمال؛ فكانت هذه العبادات من الأمور المستحبَّة، التي يُندب للمسلم أن يأتي بها حال زيارته لبيت الله الحرام.
ولعلَّ مِن الناس مَن يجهل هذه الأحكام التي تُشرع عند المُلتزَم، بل ربما يخفى عليه هذا الاسم، ويخفى عليه موضعه من الكعبة؛ لعدم علمه بالآثار التي وردت في بيان موضع المُلتزَم، وبيان فضله وأحكامه؛ فحسُن بنا أن نعرِّف به للتوضيح، وأن ننقل ما جاء فيه من آثار بعد البحث والتنقيح؛ ليكون ذلك -بعون الله- من الذكرى التي تنفع المؤمنين، وذخرًا لنا يوم يجمع الله الأولين والآخرين، فأقول وبالله التوفيق:
معنى المُلتزَمِ: موضعٌ يُلتزَم الوقوف فيه للدعاء، وهو من مواضع الدعاء( ). والالتزام: الاعتناق( )، والمُلتزَم: اسم مفعول من: التزم، وهو مُفْتَعَلٌ من اللزوم للشيء وترك مفارقته( )، ويُقال له: المَدْعَى، والمُتعوَّذ؛ سُمِّي بذلك بالتزامه للدعاء والتعوُّذ، ويُسمَّى: الحطيم؛ لأن الناس يزدحمون على الدعاء فيه، ويحطم بعضهم بعضًا( ). روى العلَّامة الأزرقي المكي (كان حيًّا: 247هـ) عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس، قال: «المُلتزَم والمَدْعَى والمُتَعَوَّذ ما بين الحجر والباب»( ).
موقع المُلتزَم : لقد وردت روايتان في موقع المُلتزَم عن حَبْر الأمة ابن عباس رضي الله عنه: أولاهما: أن المُلتزَم يقع ما بين ركن الحجر الأسود وباب الكعبة المُشرَّفة( )، فقد قال رضي الله عنه: «هذا المُلتزَم بين الركن والباب»( )، وفي رواية: «المُلتزَم ما بين الركن والباب»( )، وقد ورواها الإمام مالك في «الموطأ» بلاغًا، موقوفًا على ابن عباس، من رواية ابن وضاح، عن يحيى بن يحيى الليثي، عن مالك؛ ورواها أيضًا غيره؛ ففي «شعب الإيمان» للبيهقي، من طريق أبي الزبير، عن عبد اللَّه بن عباس مرفوعًا( ) قال: «ما بين الركن والباب ملتزم»( ).
ورواه الحافظ عبد الرزاق بِإسناد أصح منه، موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنه، بلفظ: «هذا المُلتزَم بين الركن والباب»( ). وجاء عند الحافظ ابن أبي شيبة، موقوفًا أيضًا على ابن عباس رضي الله عنه، بلفظ: «المُلتزَم ما بين الركن والباب»( ). وثانيهما: أنه يقع ما بين ركن الحجر الأسود ومقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد جاء في رواية عن الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «ما بين الركن والمقام المُلتزَم»( )، وقد ورواها الإمام مالك في «الموطأ» بلاغًا، موقوفًا على ابن عباس، من رواية عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي، عن أيه، عن مالك. وقد سُئل الإمام عبدالله الأصيلي (ت: ٣٩٢هـ)، عن صحة الروايتين في الموطأ، فصحح رواية عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي؛ وهي أن المُلتزَم يقع ما بين ركن الحجر الأسود ومقام سيدنا إبراهيم عليه السلام قديمًا.
وقال: «رواية يحيى بن يحيى في هذا صحيحة؛ وذلك أن المقام كان أولًا مُلصقًا بالبيت -أي: الكعبة-، قبل أن يؤخِّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أصل حائط البيت، إلى المكان الذي هو فيه اليوم؛ فكان المُلتزَم حينئذٍ فيما بين الركن والمقام، فلما أُزيل المقام عن موضعه الذي كان فيه، صار المُلتزَم فيما بين الركن والباب»( ). إلا أن الحافظ ابن عبد البر الأندلسي (ت: 463هـ)، قال في شرحه على الموطأ: «مالك أنه بلغه: أن عبد الله بن عباس كان يقول: «ما بين الركن والباب المُلتزَم»، قال أبو عمر -أي: ابن عبد البر-: رواية عبيد الله عن أبيه: «ما بين الركن والمقام المُلتزَم» خطأ لم يُتابعوا عليه، وأمر ابن وضاح بردِّه: «ما بين الركن والباب»، وهو الصواب؛ وكذلك الرواية في الموطأ وغيره، وهو الركن الأسود وباب البيت، كذلك فسر الخزاعي المُلتزَم، وذكر حديث عبد الله بن عمرو( )، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُلصق وجهه وصدره بالمُلتزَم( )، وروى عباد بن كثير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «المُلتزَم والمَدْعا( ) والمُتعوَّذ: ما بين الحجر والباب»( )»( ). وقد علَّق العلَّامة السيوطي (ت: 911هـ)، على خطأ رواية أن المُلتزَم ما بين الركن والمقام، بقوله: «مالك أنه بلغه: أن عبد الله بن عباس كان يقول: «ما بين الركن والمقام المُلتزَم»، قال ابن عبد البر: كذا في رواية عبيد الله بن يحيى عن أبيه، وفي رواية ابن وضاح: «ما بين الركن والباب»، وهو الصواب، والأول خطأ لم يُتابع عليه»( ). وبنفس هذا الأمر أفاد العلَّامة الزرقاني (ت: 1122هـ)؛ حيث قال: «مالك أنه بلغه: أن عبد الله بن عباس كان يقول: «ما بين الركن والباب المُلتزَم»، هكذا رواه ابن وضاح عن يحيى، وهو الصواب؛ وفي رواية ابنه عبيد الله: «ما بين الركن والمقام»، وهو خطأ لم يُتابع عليه؛ فالرواية في الموطأ وغيره: «والباب»»( ).
والصواب في موقع المُلتزَم أنه ما بين الركن والباب، وهو ما عليه أكثر أهل العلم -وقد تقدمت بعض أقوالهم-؛ فقد قال الإمام الشافعي (ت: 204هـ): «وأُحِبُّ له إذا ودَّع البيت -أي: الكعبة- أن يقف في المُلتزَمِ، وهو بين الركن والباب...»( ). ومثل ذلك ما قاله العلَّامة الكاساني (ت: 587هـ)، عن فقهاء الأحناف؛ حيث قال: «...ثم يأتي المُلتزَم، وهو ما بين الحجر الأسود والباب...»( ). ونقل ذلك العلَّامة القُنازعي (ت: 413هـ)، عن فقهاء المالكية؛ حيث قال: «وقد استحب مالك الدعاء عنده، وهو بقرب الركن الذي فيه الحجر الأسود، من ناحية مشرق الشمس، فيما بين الركن وباب الكعبة»( ).
وهو ما قاله العلَّامة ابن قدامة (ت: 620هـ)، عن فقهاء الحنابلة؛ حيث قال: «مسألة: (فإذا فرغ من الوداع وقف في المُلتزَم بين الركن والباب)، يُستحب أن يقف المُودِّع في المُلتزَم، وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة ...»( ). تنبيه: أورد العلَّامة الصاوي (ت: 1241هـ)، قولًا ثالثًا في تحديد موضع المُلتزَم، ولكن ذكره بصيغة التمريض؛ حيث قال: «وقيل: المُلتزَم: اسم للمكان الكائن بين الكعبة وزمزم»( ).
ولا شك أن هذا القول بعيد عن الصواب؛ لما أسلفناه من الآثار الصحيحة عن سلف الأمة، في بيان الصحيح من تحديد موضع المُلتزَم؛ وعليه، فإن القول بأن المُلتزَم هو المكان الكائن بين الكعبة وزمزم قول شاذ، والله أعلم.
مساحة المُلتزَم: حدد العلماء رحمهم الله مساحة المُلتزَم تحديدًا دقيقًا؛ فقد بيَّنوا أن مساحته هي أربعة أذرع، قال العلَّامة الأزرقي المكي (كان حيًّا: 247هـ): «ذرع المُلتزَم: هو ما بين باب الكعبة وحد الركن الأسود أربعة أذرع»( ).
وهو ما نصَّ عليه العلَّامة المحب الطبري المكي (ت: 694هـ)؛ حيث قال: «وقال -أي: ابن عباس-: المُلتزَم والمَدْعَى والمُتَعَوَّذ: ما بين الحجر والباب؛ وذرعه أربعة أذرع»( ). وأشار العلَّامة البهوتي الحنبلي (ت: 1051هـ) إلى ذلك بقوله: «وهو أربعة أذرع، بين الركن -أي: الذي به الحجر الأسود- والباب»( ). وهذا هو المنصوص عليه عند الشافعية في حاشيتي قليوبي (ت: 1069 هـ)، وعميرة (ت: 957هـ)؛ ونصُّه: «وهو ما بين الحجر الأسود ومحاذاة الباب من أسفله، وعرضه علوُّ أربعة أذرعٍ»( ). وذكر ذلك أيضًا العلَّامة سليمان الجمل الشافعي (ت: 1204هـ)؛ حيث قال: «وهو ما بين الحجر الأسود ومحاذاة الباب من أسفله، وعرضه أربعة أذرع»( ). وبمثل ذلك قال العلَّامة شيخي زاده الحنفي (ت: 1078هـ)، ونصُّه: «وهو ما بين الباب والحجر الأسود، مسافة أربعة أذرع»( ). والذراع = 52 سم. وبهذا يكون مقاس المُلتزَم من الحجر الأسود إلى بداية باب الكعبة: (2،08م) مترين وثمان سنتيمترات، والله أعلم( ).
تنبيه: تحديد المُلتزَم بمسافة أربعة أذرع، إنما هو على القول الأول، وهو أن المُلتزَم: ما بين ركن الحجر الأسود وباب الكعبة المُشرَّفة. أما على القول الثاني، وهو أن المُلتزَم: ما بين ركن الحجر الأسود ومقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، فإن الروايات جاءت بأن مقام إبراهيم كان مُلصقًا بالبيت، وذكر بعضهم أنه كان بين البيت وبين المقام ممرُّ العنز. فأما كونه كان مُلصقًا فقد قال الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ): «وقال موسى بن عقبة( ): ... وأخَّر -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- المقام إلى مكانه، وكان مُلصقًا بالبيت»( ).
وقد نقل العلَّامة الأزرقي (كان حيًّا: 247هـ) بسنده، عن عروة بن الزبير: «أن المقام كان عند سُقْع البيت»( ). وسُقْع البيت: هي ناحية من البيت( ). كما روى العلَّامة الفاكهي (ت: 275هـ) بسنده، عن سعيد بن جبير أنه قال: «كان المقام في وجه الكعبة، وإنما قام عليه إبراهيم حين ارتفع البنيان، فأراد أن يُشرف على البناء؛ قال: فلما كثر الناس خشي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يطؤوه بأقدامهم، فأخرجه إلى موضعه هذا الذي هو به اليوم، حذاء موضعه الذي كان به قدَّام الكعبة»( ). ونقل العلَّامة الفاكهي (ت: 275هـ) بسنده، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن المقام كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى سُقْع البيت»( ). وأما ما يتعلق بالآثار التي ذكرت أن ما بين البيت -أي: الكعبة- وبين المقام، كان بمقدار ممرِّ العنز؛ أي: أن مساحة المكان الذي بين جدار الكعبة وبين مقام إبراهيم، بقدر ما يتَّسع لتمُرَّ من خلاله أنثى المَعْز؛ فقد قال العلَّامة الفاكهي (ت: 275هـ): «قال بعض المكيين: كان بين المقام وبين الكعبة ممرُّ العنز»( ). وممرُّ العنز هو بقدر ممرِّ الشاة، والذي قدَّره العلماء -على الصحيح- بما لا يزيد على نصف الذراع، بل قدَّره بعضهم بنحو شبر( )؛ وممرُّ الشاة قد يصل إلى (40 سم) أو ما يقاربها( ). وذكر بعض العلماء أن نقل مقام إبراهيم كان في زمن عمر؛ فقد نقل العلَّامة السيوطي (ت: 911هـ)، عن الأخباري ابن سعد (ت: 230هـ) في أوليات عمر رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي أخَّر مقام إبراهيم إلى موضعه اليوم، وكان قبل ذلك مُلصقًا بالبيت( )؛ لأنه كان يشغل الطائفين( )، أو خشية أن يطأه الناس بأقدامهم( )، كما سبق. قال الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت: 774هـ) في حوادث سنة 18هـ: «قال الواقدي وغيره: وفي هذه السنة في ذي الحجة منها حَوَّلَ عمرُ المقام - وكان مُلْصقًا بجدار الكعبة - فأخَّره إلى حيث هو الآن لئلا يشوِّشَ المصلون عنده على الطّائفين»( ).
وأخرج الحافظ البيهقي (ت: 458هـ) عن عائشة رضي الله عنها: «أن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمان أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه»( ). ورجح هذا القول العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ) قال: «لِمَا ثبت بأسانيد قوية عن عائشة أم المؤمنين، وأصحاب ابن جريج وعطاء وغيره، ومجاهد، وسفيان بن عُيَيْنَة، وبعض مشايخ مالك، وابن سعد، والواقدي، وغيرهم من أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه اليوم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم تصح الرواية عن السلف بما يخالف ذلك»( ). إلا أن العلَّامة الأزرقي (كان حيًّا: 247هـ)، قد روى بإسناده عن ابن أبي مليكة أنه قال: «موضع المقام هذا الذي هو به اليوم، هو موضعه في الجاهلية، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ إلا أن السيل ذهب به في خلافة عمر، فجُعل في وجه الكعبة، حتى قدم عمر فردَّه بمحضر الناس»( ).
لكن يخالف ذلك ما رواه ابن أبي حاتم (ت: 327هـ) عن سفيان بن عيينة قال: «ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه»( )، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت: 795): «وقال مالك: كان المقام في عهد إبراهيم عليه السلام في مكانه الآن، وكان أهل الجاهلية ألصقوه إلى البيت خيفة السيل، فكان كذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما ولي عمر وحج رده إلى موضعه الذي هو فيه اليوم، بعد أن قاس موضعه بخيوط قديمة كانت في خزائن الكعبة، قيس بها حين أُخِّر»( )، والله أعلم.
الآثارُ الواردةُ في ذِكْر المُلتزَمِ: أصحُّ ما جاء في المُلتزَم من آثار، هو ما ورد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: «طُفتُ مع عبد الله، فلما جئنا دُبُر الكعبة قلت: ألا تتعوَّذ؟ قال: نعوذ بالله من النار؛ ثم مضى حتى استلم الحجر، وأقام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفَّيه هكذا -وبسطهما بسطًا-، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله»( ). ويؤيده ما رواه الحافظ عبد الرزاقِ، عن ابن جريج، قال: قال عمرو بن شعيب: «طاف محمد جده مع أبيه عبد الله بن عمرو، فلما كان سَبْعهما قال محمد لعبد الله حيث يتعوَّذون: استعذ؛ فقال عبد الله: أعوذ بالله من الشيطان؛ فلما استلم الركن تعوَّذ بين الركن والباب، وألصق جبهته وصدره بالبيت، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يصنع هذا»( ). وجاء بِلفظ: «رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يُلزق وجهه وصدره بالمُلتزَم»( ). وعن عبد الرحمن بن صفوان، قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قلت: لألبسن ثيابي -وكانت داري على الطريق- فلأنظرن كيف يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فانطلقت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه، وقد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم»( ). وعن هشام بن عروة، عن أبيه -أي: عروة بن الزبير-: «أنه كان يُلصق بالبيت صدره ويده وبطنه»( ). وعن مجاهد، قال: «جئت ابن عباس وهو يتعوَّذ بين الركن والباب...»( ). وأخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» أيضًا، لكنه قرن مع ابن عباس: ابن عمرو، وابن عمر رضي الله عنهم؛ فعن مجاهد: «أن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر؛ كانوا إذا قضوا طوافهم فأرادوا أن يخرجوا، استعاذوا بين الركن والباب، أو بين الحجر والباب»( ). وكان هذا مشهورًا من فعل السلف، والآثار عنهم كثيرة في ذلك، قال مجاهد (ت: 104هـ): «كانوا يلتزمون ما بين الركن والباب ويدعون»( ).
تنبيه: أشار العلَّامة الألباني (ت: 1420هـ)، إلى ما رواه الحافظ عبد الرزاق في «المصنف» بسند صحيح، عن نافع: «أن ابن عمر كان لا يلزم شيئًا من البيت»( )، وأجاب عن هذا الإشكال بقوله: «لكن رواية مجاهد أولى؛ لأنه مثبت، والمثبت مقدم على النافي، كما هو مقرر في علم الأصول»( ).
أقوال العلماء في استحباب الدعاء عند المُلتزَمِ: استحب جماعة من العلماء الدعاء عند المُلتزَم، منهم: التابعي الحسن البصري (ت: 110هـ)، والإمام أبو حنيفة (ت: 150هـ)، والإمام مالك (ت: 179هـ)، والإمام الشافعي (ت: 204هـ)، والإمام أحمد (ت: 241هـ)، والحافظ إسحاق بن راهويه (ت: 238هـ)، وغيرهم( ). فقد نقل الإمام النووي (ت: 676هـ) وغيره، عن الحسن البصري، أن المُلتزَم موطن من مواطن الدعاء، فقال: «وحُكي عن الحسن رحمه الله، أن الدعاء يُستجاب هنالك في خمسة عشر موضعًا: في الطواف، وعند المُلتزَم...»( ). كما نقل العلَّامة الكاساني (ت: 587هـ)، عن الإمام أبي حنيفة (ت: 150هـ)، استحباب الدعاء عند المُلتزَم، فقال: «وذكر الطحاوي في مختصرِه عن أبي حنيفة، أنه إذا فرغ من طواف الصدر -أي: طواف الوداع- يأتي المقام فيصلي عنده ركعتين، ثم يأتي زمزم فيشرب من مائها، ويصب على وجهه ورأسه، ثم يأتي المُلتزَم... »( ).
وبمثل ذلك ما نقله العلَّامة القُنازعي (ت: 413هـ)، عن الإمام مالك (ت: 179هـ)؛ حيث قال: «وقد استحب مالك الدعاء عنده...» ( ). بل صرَّح الإمام الشافعي (ت: 204هـ)، بالوقوف عند المُلتزَم للدعاء؛ حيث قال: «وأُحِبُّ له إذا ودَّع البيت -أي: الكعبة- أن يقف في المُلتزَمِ...»( ). وقد نصَّ الحافظ البيهقي (ت: 458هـ) على المُلتزَم، عند ذكر مواطن إجابة الدعاء، فقال: «وأما المواطن فالموقفان، و الجمرتان، وعند البيت، والمُلتزَم خاصة، وعلى الصفا، والمروة»( ). كما أشار العلَّامة الحجاوي الحنبلي (ت: 960هـ)، إلى استحباب الدعاء عند المُلتزَم، فقال: «ومَن كان خارجه فعليه الوداع، وهو على كل خارج من مكة؛ ثم يصلي ركعتين خلف المقام، ويأتي الحطيم -وهو تحت الميزاب- فيدعو، ثم يأتي زمزم فيشرب منها، ثم يستلم الحجر ويقبِّلُه، ويدعو في المُلتزَم...»( ).
كيفية التزام المُلتزَم: هي بوضع الإنسان صدره ووجهه وذراعيه وكفيه عليه، ودعاء الله تعالى بما تيسر له مما يشاء؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: «طفتُ مع عبد الله، فلما جئنا دبر الكعبة قلت: ألا تتعوَّذ؟ قال: نعوذ بالله من النار؛ ثم مضى حتى استلم الحجر، وأقام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفَّيه هكذا -وبسطهما بسطًا-، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله»( ).
وقتُ التزامِ المُلتزَم: لا خلاف بين الفقهاء، في أنه يُستحب أن يلتزم الطائف المُلتزَم بعد طواف الوداع؛ اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لحديث عبد الله بن عمرو المتقدِّم( )؛ ونصَّ الحنفية( ) والمالكية( )على استحباب التزام المُلتزَم بعد طواف القدوم أيضًا، وأطلق الشافعية( ) استحباب التزام المُلتزَم بعد الطواف مطلقًا، وعند الحنابلة يُستحب له أن يقف في كل طوافه عند المُلتزَم، والميزاب، وكل ركن؛ ويدعو( ). وقد اختلف الفقهاء في وقت التزام المُلتزَم بعد الطواف؛ فذهب المالكية( )، والحنابلة( )، والحنفية( ) في الأصح والمشهور من الروايات؛ إلى أنه يُستحب أن يأتي المُلتزَم بعد ركعتيِ الطواف، قبل الخروج إلى الصفا. وقال الشافعية: يُندب أن يلتزم قبل الصلاة( )؛ وهو قول ثانٍ عند الحنفية( )، قال ابن عابدين: «وهو الأسهل والأفضل، وعليه العمل»( ). وقال العلامة أبو بكر ابن المنذر (ت: 319هـ): «وإذا أراد المرء طواف الوداع بالبيت، فطاف به سبعًا ليس فِيهِ رمل وَلا اضطباع، ثم يقف بالملتزم بين الباب والركن الأسود، يدعو ويسأل اللَّه قبول حجه، ثم يأتي المقام فيصلي خلفه ركعتين ويجزئه حيث صلاهما، ويشرب من ماء زمزم استحسانًا، ثم يرجع إِلَى الملتزم، ويدعو، ثم يستلم الركن ويمضي متوجِّهًا إِلَى بلده»( ).
خاتمة: وبهذا نكون قد أتينا على المقصود من كتابة هذه المقالة اللطيفة، والتي حاولنا أن نقدم فيها صورة مكتملة، لكل ما يحتاج إليه المسلم من معرفة، فيما يتعلق بالمُلتزَم وأحكامه، والحمد لله على الإعانة، وبه التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
كتبه: إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
4 رجب 1446هـ 4/1/2025م مكة حرسها الله
0 تعليقات