محمد عثمان الكنوي ( رحمه الله )

إن التحدّث عن شخصية عامة مرموقة ليس بالأمر الهيّن، فكيف إذا كانت هذه الشخصية من علماء مكة المكرمة، البلد الحرام الذي كان وما زال قبلة للعلماء وموئلًا للمعرفة؟ وقد امتاز علماء مكة عبر العصور بسعة العلم، ورسوخ القدم في الفنون المختلفة، ونفاذ البصيرة، ولم يكن أثرهم مقتصرًا على حدود بلدهم، وإنما تعدّاه إلى أصقاع العالم الإسلامي، حتى إن علم العالم منهم كان يُنقل إلى طلاب لم يروه، وإنما شغفوا بآثاره، فنهلوا من كتبه، واقتفوا أثره.
وتلك الحقبة التي نتحدّث عنها كانت تزخر بكبار العلماء الذين كان لهم تأثير بالغ في مسيرة التعليم والتأليف، ومن هؤلاء الأعلام الشيخ الفقيه العلّامة محمد بن عثمان الكنوي، عالم من علماء البلد الحرام الذين خلّفوا أثرًا لا يُمحى في مسيرة العلم والتدريس.
هو أستاذنا الشيخ الفقيه العلّامة محمد بن عثمان بن علي الكنوي المالكي، أحد علماء مكة المكرمة، وركنٌ من أركان العلم بها. وُلِد في حارة الفلاتة بحي "الطندباوي" بمكة المكرمة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة في بيت علم وصلاح، فتربى على مائدة القرآن والفقه تحت رعاية والده، وتلقى العلم على يد جده الشيخ علي بن إبراهيم الكنوي، وكان أول عهده بالقراءة عند "الفقيهة" والدة الأستاذ عبد الحميد بكر مالي في الحي، ثم أُدخل المدرسة الصولتية، فأقام بها أربع عشرة سنة من القسم الإعدادي حتى نهاية القسم العالي، فنهل من علومها، حتى نبغ وبرز.
قرأ الشيخ على جلةٍ من العلماء في المسجد الحرام، أبرزهم الفقيه القاضي حسن المشاط المالكي (ت1399)، فأخذ عنه الفقه المالكي وأصوله، وقرأ عليه الكتب الستة، ونهل من معين السيد علوي بن عباس المالكي (ت1391) في الحديث والتفسير، وأخذ عنه أيضًا الكتب الستة، وتلقّى النحو والبلاغة على السيد محمد أمين كتبي الحسني (ت1404)، كما أخذ عن السيد محمد العربي التباني الحسني (ت1390)، وقرأ على الشيخ محمد نور سيف بن هلال المهيري المالكي في الحديث (ت1403)، والشيخ زكريا بيلا المكي الشافعي (ت1413) عدة كتب في أصول الفقه والقواعد الفقهية.
ولم تقتصر حلقاته على المسجد الحرام في التلقي، بل شهد مجالس العلم بالمسجد النبوي، فأخذ عن الشيخ محمد بن علي التركي (ت1380)، والشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي (ت1393)، والشيخ عمر بن محمد فلاتة (ت1419)، والسيد محمد المنتصر الكتاني (ت1419) وغيرهم من الأعلام.
وفي هذه البيئة العامرة بالعلماء والأدباء والصالحين نشأ الكنوي، فكان يحمل في صدره تاريخ مكة المكرمة كأنه كتاب مفتوح، يروي أحداثه ببلاغة العارف المطلع على أدق التفاصيل، ويسرد تفاصيله بدقة المؤرخ المتأمل، حتى يخيل إلى سامعه أنه يقرأ من صحيفة مسطورة، أو ينقل من كتاب من كتب التراجم الأصيلة. ولعل ذلك يرجع إلى ما وهبه الله من ذاكرة وقّادة، وحافظة واعية، لم تزِدها الشيخوخة إلا صفاءً، ولم تنل منها الأيام إلا بقدر ما يخفف وطأة الهموم دون أن يمسّ بريقها.
إنها قدسية المكان وبركة الزمان التي تنبض بها الألسنة فتصدح بأصوات تستمد قوتها من قلب مكة المكرمة، حيث تهوي الأفئدة إلى البيت العتيق، ومن أرجاء المدينة المنورة، حيث شعَّ نور النبوة وامتد ضياء الرسالة؛ فتلتقي الأرواح على مائدة الوحي، وتتعانق الألسن بلغة الإيمان، في مشهدٍ مهيب يروي قصة تواصل حضاري خالد، هذا التواصل يربط بين قلوب الرجال برباطٍ لا ينفصم، ويجمعها على عهدٍ لا يبلى. وفي رحاب هاتين البقعتين الطاهرتين نشأ هؤلاء العلماء الأجلاء الذين ورثوا علوم النبوة، وصدحوا بالحكمة والموعظة الحسنة، فهم مصابيح الدجى في ظلمات الجهل، وحراس الشريعة من عبث التأويل.
وكثيرًا ما تسلَّط الأضواء في مجال تحقيق التراث على أسماء لم تقدّم إنجازًا يُذكر في فن تحقيق المخطوطات والمعرفة بها، وربما بالغ الأتباع في مدح من لم تتجاوز محاولاته الخطوات الأولى، فجعلوا من التعثر نجاحًا ومن الجهد المحدود مجدًا. وفي المقابل نجد هذا العالم الجليل الذي لم يُعرف عند عامة الناس بخبرته العميقة في معرفة المخطوطات، رغم كونه من أخص تلاميذ الأستاذ الكبير السيد أحمد صقر (ت1410)، فقد تتلمذ عليه في مكة المكرمة، ولازمه ملازمة التلميذ المحبّ، حتى نهل من علومه وتشرّب ولعه بالتراث. وكان يحكي عنه الكثير من القصص والنوادر التي تدل على براعته في تمييز المخطوطات ومعرفة خطوط العلماء، مشيرًا إلى أن تلك الصحبة الطويلة جعلت هذا الفن جزءًا أصيلًا من تكوينه العلمي.
وإنسانٌ كمحمد عثمان الكنوي مع هذه الدراسات الكثيرة والمواهب العديدة لابدّ أن يثمر، وأن يكون في مناصب علمية رفيعة، وهذا ما صدّقه الواقع الفعلي؛ إذ تولى أستاذنا المرحوم رئاسة قسم المخطوطات بالمكتبة المركزية لجامعة أم القرى، فخدم التراث بعناية وتحقيق، وظل في منصبه حتى تقاعده سنة 1412، كما تولى الإمامة والخطابة في مسجد "الربوعي" بحي الطندباوي، وكان له درسٌ رمضاني يُعقد بعد صلاة العصر، يقرأ فيه كتاب "إسعاف أهل الإيمان في وظائف شهر رمضان" لشيخه القاضي حسن المشاط، استمر عليه خمسة وثلاثين عاماً.
وقد كان في الأستاذ "محمد عثمان الكنوي" دماثة في الخلق، وسماحة في النفس، وزهد في المعيشة، وسكينة منزلة من الله تعالى، وعمق حزن عند تذكر أساتذته، وإيثار في الطبع، فلم يكن متكلفًا في حديثه، ولا متصنعًا في سلوكه، بل كان يجري مع الناس على سجية صافية لا يشوبها تصنع ولا تكلف، وليس لديه فروق مصطنعة في معاملة الناس. إذا جالسته لم تشعر بفارق بينك وبينه، رغم مكانته العلمية الرفيعة، فقد كان قريبًا من القلوب، يملك ودَّ طلابه ومحبيه بأخلاقه الرفيعة قبل علمه الواسع.
ومع زهده في الدنيا لم يكن زهدًا يبعث على الانطواء أو يبعده عن الناس، بل كان زهد العارف الذي يرى الغنى في القناعة، فلم يكن يسأل أحدًا حاجة، ولم يكن يُرى إلا متبسمًا، حامدًا لله في كل أحواله.
ويظهر لي أن حياة الأستاذ لم تكن سهلة كما هي لأهل مكة، رغم أنه لم يظهر أبدًا حاجته أو شكواه. ولكن ما كان يؤلمه أكثر من أي شيء آخر هو العزلة التي فرضها عليه الزمن وأمراضه التي لازمته. فقد كان يشعر بالألم العميق بسبب ابتعاده عن ساحة التدريس، وكان يشتاق إلى مجالس العلم التي كانت يومًا ما مملوءة بالحضور. وكان من أصعب ما يواجهه انصراف الكثير من الطلبة عنه، مما جعله يشعر بوحدة قاسية في أيامه الأخيرة. وكان يشتكي من هذا الفراغ في قلبه، وبكى بحرقةٍ أمامي في أحد الأيام وهو يذكر أن الطلبة لم يعودوا يتوافدون عليه للقراءة والتعلم.
حين رأيته يبكي عمَّ الصمت بيننا لحظة طويلة، وكان الموقف صعبًا بشكل يفوق الوصف. لم أكن أتحمل أن أرى هذا الرجل العظيم الذي طالما عرفته مرفوع الرأس وقد حلَّ به هذا الضعف. كان قلبه الكبير يتألم من شعور الوحدة، ومن غربة العلم التي أوجدها بعد أن ابتعد عنه طلابه. في تلك اللحظة خفق قلبي بالأسى؛ لأنني أعرف كم أن هذا البكاء كان مؤلمًا عليه، فما اعتاد أن يظهر ضعفه، ولم تكن هذه عادة له، ولكنه كان يحترق من الداخل بسبب الوحدة التي فرضتها عليه ظروفه، وكأنما تقطع خيوط الروح عن عيشه.
وبينما كان يعبر عن حزنه وجدتني أخفف عنه بالكلمات التي أعرف أنها لن تروي عطشه للأمل، ولكنني قلت له: "أنت أيها الأستاذ الكبير، علمك لا يزال حيًا بيننا. والجميع من عامة الناس إلى الخاصة يتذكرونك بخير، ويعرفون فضل علمك الذي لم يكن في يوم من الأيام إلا شرفًا لنا، وعلمك هو الأثر الباقي الذي تركته فينا، ولن يطويه الزمان".
لكنني كنت أعي أن الكلمات مهما كانت لطيفة فلن تستطيع أن تمحو الألم الذي كان يخالج قلبه. كان يبدو وكأن كل لحظة من الصمت كانت تعبر عن حزن لا يقدر على التعبير عنه. ومع ذلك، كان لزامًا عليّ أن أكون بجانبه في تلك اللحظات التي كان فيها في أمسّ الحاجة إلى أن يعرف أن هناك من يقدر جهوده أعظم تقدير، وأنه سيظل حيًا في قلوبنا مهما تباعد الزمان.
كان الوفاء جزءًا أصيلًا من شخصية أستاذنا، فلا يمر مجلس من مجالسه إلا ويذكر أساتذته بحب واعتزاز. يصورهم بأقلام التلميذ المحب، ناقلًا إلينا ذكرياتهم وحكاياتهم كما لو كانوا بيننا، ولا يقتصر في حديثه على نقل العلوم التي تلقاها منهم، إنما يُحيي نوادرهم وطرائفهم التي تحمل بين سطورها دروسًا عميقة عن العطاء والتفاني في العلم، وتُظهر هذه الحكايات جوانب إنسانيتهم ونبلهم، وتمنحنا دروسًا وتجارب كثيرة في كيفية السير على دربهم.
يحمل حديثه عن أساتذته مشاعر من التقدير والامتنان، ويجعلنا نعيش لحظات من الصحبة معهم، ولا تتجسد في كلماته فقط تقدير العالم للعلماء، وإنما دعوة للطلاب لأن يكونوا مثلهم، متفانين في العلم، مخلصين في العمل، مما يجعله يروي لنا في كل مرة قصصهم، حتى شعرنا بأننا نسير معهم على نفس الطريق، نتعلم منهم بطرق لم يقتصر العلم عليها فقط، وإنما امتدت لتعليمنا عن الحياة والمثابرة.
وحين حدَّثني أستاذنا عن الكتب التي قرأها على مشايخه؛ كمتن ابن عاشر ورسالة ابن أبي زيد ومختصر خليل، مرورًا بكتب النحو والبلاغة، وانتهاءً بالكتب الستة وكتب الأصول، أدركتُ وقتئذٍ أن نبوغ ذلك الجيل لم يكن وليد ذكاء أو حرص، وإنما كان ثمرة منهج متين قائم على ركنين راسخين:
أولهما: ملازمة العلماء ملازمة طويلة، حتى تُشرب العلوم على أيديهم مشافهة، فتنتقل المعارف بروحها ومقاصدها، لا بألفاظها وحروفها فقط.
وثانيهما: الانكباب على المتون الجامعة وشروحها، دون التشتت بين الفروع والتفريعات، حتى ترسخ الأصول في الذهن، وتصبح قواعد العلم في القلب قبل أن تكون في الأوراق. فقد كانوا على يقين أن من أتقن الأصول ملك زمام الفهم والاستنباط، ومن تشاغل بالفروع قبل ضبطها تفرّق ذهنه وضاع بين المسائل، فلا هو أدرك الغايات، ولا حفظ المبادئ.
ثم هو قد أخبرني عن مجلسٍ حافلٍ لا ينساه، يملأ السمع والبصر والفؤاد حضره وهو طالب صغير بالمدرسة الصولتية. كان ذلك في مجلس ختم "صحيح البخاري" الذي حضره المحدث الشهير عمر بن حمدان المحرسي "محدث الحرمين" (ت1368) وفيه أجاز الشيخ جميع الأساتذة والطلبة بعموم مروياته على عادة أهل الإسناد، وحسب هذا المجلس من العظمة أنه كان يضم لفيفًا من كرام العلماء والصالحين، وكان كما حدثني من أرفع مجالس العلم وأجملها التي شهدها في حياته.
ولا أدلّ على عناء "الكنوي" في سبيل العلم وتعبه في تحصيله من أنه لم يكن يفلت من يديه كتاب من كتب الفنون المختلفة إلا قرأه واعتنى به، ثم في آخر عمره وقد فقد كثيرًا من قوة نظره، فلم يكن يقدر على القراءة بنفسه، فلم يتوقف عن مواصلة التعلم بواسطة بعض طلابه وعارفيه الذين كانوا يفدون عليه من حين لآخر، فيشغلهم بالقراءة عليه.
رجلٌ هذا بعض فضله جعلني دائمًا أتذكر كلامه عن أساتذته، وأشعر أنه كان يوصيني بوصية خفية وهي "أن أظل دائمًا وفيا لأساتذتي، ذاكرًا لهم" وعسى أن أكون قد وفيت ببعض حقوق بعضهم عليّ، والله يغفر تقصيري؛ فالكتابة أمر صعب، والفكر يتبدد أحيانًا، وعناء الحياة يستمر. ولسنا متفرغين لهذا الأمر، فبذل الوقت والجهد لتحصيل القوت يستنزف منا وقتًا أكبر مما نتمنى، ومع ذلك نسعى في الكتابة، نواجه التحديات، ونسعى أن نُقدم شيئًا يظل أثره، رغم ما نمر به من صعاب.
ظل الشيخ على حاله من الإفادة حتى وافاه الأجل عام 1433، بعد عمرٍ حافلٍ بالعلم والتعليم، وصلي عليه بالمسجد الحرام عقب صلاة العصر، ودفن بمقبرة المعلاه، فرحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
وإذا كنتُ اليوم أعيد ذكرى هذا العالم المكي إلى الأذهان فإنما أردّ بعض الجميل لرجلٍ كان لا يفوته أن يردّ الجميل، وأن يلهج لسانه ليل نهار بذكر فضائل أساتذته، ويحيي فضائلهم بين طلابه. رحم الله أستاذنا وختم لنا بالحسنى وجعلنا معه في مستقر رحمته!
بقلم د.علي زين العابدين الحسيني
بقلم د.علي زين العابدين الحسيني
0 تعليقات