مكتبة الثقافة في مكة المكرمة.. منارة تنوير بشهادة الأدباء والمفكرين

حينما فكرت أن أكتب عن مكتبة الثقافة ودورها التنويري رجعت بي الذاكرة إلى رباع الطفولة، فتذكرت زياراتي الأولى لها عندما كان يصطحبني الوالد -رحمه الله- إلى المسجد الحرام كل يوم جمعة لأداء الصلاة، وكان برنامج هذه الصحبة يبدأ بالذهاب إلى مجلس العم جميل سجيني -رحمه الله- في زقاق خلف مقر مكتبة الثقافة الأخير في القشاشية، ثم النزول للحرم لأداء الصلاة ثم العودة للمكتبة.. ولا أنسى فرحتي بالمرور من الجودرية لشراء حلوى (بيض الكوكو) وهي حلوى مصنوعة من بياض البيض والسكر..

وكون تأسيس مكتبة الثقافة سبق ولادتي بسبعة عشر عاماً فوجدت أن الأنسب والأكثر مصداقية للتعريف بدورها التنويري وما قدمته في خدمة العلم والثقافة والأدب هو نقل ما كتبه من أسسوها وعاصروا انطلاقتها الأولى وخبروا دورها أكثر مني وذلك نقلاً من مقالاتهم التي شاركوا بها في الاحتفال بمرور خمسين عاماً على تأسيس المكتبة والتي جمعها كتاب (مكتبة الثقافة.. تاريخ ورسالة).

فيقول الوالد الشيخ صالح محمد جمال -رحمه الله- حول تأسيس مكتبة الثقافة:
(في جلسة عابرة في أوائل عام 1364هـ كان الصديق محمد حسين أصفهاني في زيارتي بالمنزل الذي يطل على المسعى ومر من أمامنا الصديق عبد الرزاق بليلة ثم الصديق أحمد ملائكة وصعدا إلينا وجلسنا نتحدث عن حاجة مكة المكرمة إلى مكتبة توزع الكتب والصحف فقد كنا نتهافت على مجلتي الرسالة والثقافة اللتين تصلان بكميات قليلة وأحياناً تنفذ قبل أن نحصل عليها. فتطور الحديث إلى سؤال لماذا لا نقوم بإنشاء مكتبة أدبية ثقافية لتحقيق طموحات الشباب بمكة المكرمة؟ ودار الحديث سجالاً وتعهد الصديق أحمد ملائكة بأن يمدنا من مصر -حيث كان يقيم بها يومذاك- بالكتب والصحف والمجلات وقال الصديق عبد الرزاق بليلة بأنه مستعد لإدارة المكتبة وكان لم يتوظف بعد واستعد الصديق محمد حسين أصفهاني بأن يتولى استلام الطرود من جدة وإرسالها إلينا وأن يمدنا هو بما عنده من صحف ومجلات حين كان ذلك عمله بسوق الندى بجدة).

وأما الأستاذ عبد الرزاق بليلة الشريك المؤسس فيقول:
وأطلقنا بعض الشعارات للمكتبة مثل (اربح قليلاً تكسب كثيراً) و(نحن ننشر علماً ولا نريد ربحاً) وظنها الناس بأنها لا تعني شيئاً سوى الدعاية والإعلان وسخر منا البعض.. وفي واقع الأمر كنا جادين بتطبيق هذه الشعارات وحريصين على تنفيذها بقدر المستطاع وفعلاً حددنا للكتب والصحف أسعاراً متدنية ومحدودة بحيث يسّرت لطلاب العلم ومريدي الأدب سبل المطالعة والقراءة واقتناء الكتب بأسعار معقولة مع التيسير في الدفع.

وينقل الأستاذ عبد الرزاق بليلة إجابة الدبلوماسي والشاعر المعروف الأستاذ مقبل عبد العزيز العيسى على سؤال الأستاذ محمد الوعيل عن مدى تأثير مكتبة الثقافة على الحركة الأدبية إذ يقول العيسى: إن مكتبة صالح جمال وعبد الرزاق بليلة أثرت الرعيل الأول وساهمت في خلق جيل مثقف.. وأنها خدمت الأدب والثقافة في المملكة.

وعند سؤاله عن كيفية التعامل مع المكتبة أجاب: في الحقيقة أن الأستاذين صالح جمال وعبد الرزاق بليلة كانا متعاطفين إلى حد كبير مع الشباب وكانا يشجعان على القراءة والاطلاع وفي أحيان كثيرة كانا يسمحان لنا بأخذ الصحف وقراءتها وإعادتها إليهما دون أن ندفع شيئاً.

وأما الأستاذ عبد الرزاق كمال الشريك المؤسس في فرع مكتبة الثقافة بالطائف يرحمه الله فيقول:
لم يكن في المملكة ككل وبالمنطقة الغربية خاصة أي مكتبة بمعنى المكتبة الحديثة، هناك مكتبات قديمة تعتني بالكتب والمراجع العلمية القديمة، ولكن المكتبات الحديثة ما برزت إلا بعد الحرب العالمية الثانية وأول مكتبة أنشئت على هذا الطراز مكتبة الثقافة في مكة المكرمة للأستاذ صالح جمال ومكتبة الثقافة بالطائف لي وللأستاذ صالح جمال.

و أما الشيخ عبد العزيز الرفاعي رحمه الله فيقول:
حقاً لقد كانت هذه المكتبة ولا تزال مكتبة تجارية، وليست مكتبة عامة، وإن الاستفادة منها كانت للقادرين على الشراء، ولكنها مع هذا الاعتبار كانت مكتبة رائدة في فتح الأفق واسعاً للفكر الجديد والأدب الحديث. ذلك أنها كانت مكتبة رائدة بحق فتحت الطريق إلى آفاق من المعرفة، كان الناس في أمس الحاجة إليها لمتابعة الحركة الثقافية المتطورة، وليس في بلدان العالم العربي المتقدمة كمصر والشام والعراق. وإنما في العالم المتحضر، حيث كانت حركة الترجمة نشطة في مصر.. فوجد القراء في هذه الحركة مطلات على الثقافة في الغرب.

وأما الأستاذ أحمد محمد الصائغ فيقول:
كما كان اختيار اسم المكتبة وهو مكتبة الثقافة موفقاً ويرمز إلى معنى له دلالته الشاملة، ويدل على مدى بعد نظر وسمو هدف مؤسسي المكتبة.
وأما الأستاذ عبد الله عمر خياط فكتب يقول:
لست أذكر بالتحديد متى اشتريت أول كتاب في حياتي، ولكن الذي أذكره تماماً وأنا على يقين منه.. أن أول كتاب كان من مكتبة الثقافة بمكة المكرمة.. ومن باب السلام الصغير.. حيث كان موقعها الأول عند إنشائها.

كانت تحرص على توفير كل جديد من إنتاج الأدباء والشعراء والمفكرين في مشارق الأرض ومغاربها لكي يتيسر للقارئ في البلد الحرام الحصول عليه دونما مشقة ولا كلفة. فحتى الأسعار لم يحدث أن غالى فيها المشرفون على المكتبة.. وإنما كانوا يحرصون على طرح الكتب بالسعر المقدور عليه.. إضافة إلى تسهيلات في الدفع بالنسبة للشبيبة من أمثالنا الذين كنا ندفع ما في جيوبنا لشراء الكتب، وعرف عنا ذلك المشرفون على المكتبة وعلى رأسهم مؤسس المكتبة الأستاذ صالح محمد جمال ومساعده السيد محسن العطاس رحمهما الله.. فحرصاً على تزويدنا بالجديد ودفع المتيسر ومن ثم تسديد الباقي لاحقاً. فقد ذهبت إلى مكتبة ذات يوم لشراء ما وصل إليها من المجلات المصرية بما لدي من نقد قليل ووجدت أربعة دواوين جديدة من الشعر هي أول ما أصدر الشاعر الكبير أحمد قنديل رحمه الله.. وأخذت أقلبها وأقرأ بعض قصائدها.. ثم طال الوقت. فسألني السيد العطاس إن كنت أرغب في شرائها، ولما قلت له: بودي ذلك ولكن ليس معي ثمنها!! لم يزد على أن وضع المجموعة مع مجموعة المجلات والجرائد التي اشتريتها وقال: إن تيسرت لك القيمة هاتها.. وإلا فلك أن تعيد الدواوين بعد قراءتها!

أما معالي الدكتور محمد عبده يماني فيقول:
أخذتْ المكتبة على عاتقها منذ البداية أن تعمل على تسهيل اطلاع الشباب على ما فيها من كتب وتيسير التعامل معها، فكانت الكتب تباع فيها بأسعار معقولة لا مبالغة فيه، وكان صاحبها الأستاذ صالح جمال -رحمه الله- من الرجال ذوي الفراسة، فعندما يلاحظ أن شاباً يرغب في الاطلاع على بعض الكتب تنقصه المادة.. كان يبادر من تلقاء نفسه لمساعدته بتخفيض الثمن له أو يعرض عليه تقسيط الثمن بما يتلاءم مع مقدرته المالية، وإذا تعذرت كل هذه الوسائل كان الأمر في أحيان كثيرة ينتهي بالمساهمة الكاملة.

والأستاذ عبد الله القرعاوي يقول:
مكتبة الثقافة كانت مدرسة أخرى لنا، بل كانت (جامعة) فهي تمدنا بأحدث ما كانت تنتجه المطابع وتنشره دور النشر العربية في مصر وسوريا ولبنان والعراق من كتب ودواوين شعر ومجلات أدبية وثقافية..

فالطالب الذي لا يتيسر معه ثمن الكتاب، أو المجلة يمكنه أن يرجئ دفع المبلغ إلى الأسبوع القادم والشهر القادم فهو يتمتع بالميزة التي يتمتع بها زملاؤه القادرون دون أن يضيع الفرصة للحصول على كتاب ثمين أو دورية نادرة أو مجلة أدبية رائعة.

مكتبة الثقافة كانت فريدة في (باب السلام) كانت (جوهرة) في وسط عقد الثقافة حينما كان باب السلام مليئاً بالمكتبات الثقافية التي كان أغلبها، بل كلها تهتم بالثقافة العربية وأمهات المراجع في كثير من العلوم العربية والتاريخية ولكن مكتبة الثقافة أصبحت لنا شيئاً جديداً، إذ فتحت أعيننا على عالم حديث.

وأما الأستاذ عبد المقصود محمد سعيد خوجة فيقول:
مكتبة الثقافة شكلت الجزء المكمل لاطلاعي واطلاع كثير من أبناء الوطن، إذ كانت تستورد الكتب من مصر في أوج عطائها الفكري والأدبي وظلت منذ ذلك الحين نبراساً في عالم الكتاب والثقافة والمعرفة. وقد كان للأستاذ صالح جمال -رحمه الله- فضل كبير عليّ وعلى كثير من الحريصين على الكتب، حيث اهتم باستيراد كتب المازني والعقاد وطه حسين، والحكيم وغيرهم من العمالقة.. ولفقيدنا عليّ شخصياً فضل كبير ولقلة اليد كان -رحمه الله- يعيرني بعض الكتب الثمينة.. وقد تعلمت عن طريقه الكثير من المعارف الإنسانية المعاصرة، ونهلنا من الثقافة العصرية مما كان يتفضل به علينا من إعارتنا بعض الكتب التي لم نتمكن من شرائها.. ويدرك الكثيرون الآن ما أفاضه علينا من فضل رحمه الله.. بالإضافة إلى دوره البارز في إثراء الحركة الثقافية لجيل كامل من أبناء مكة المكرمة.

وأما اللواء علي زين العابدين رحمه الله فيقول:
وانتشرت الثقافة بين شباب ذلك الجيل وذلك تحقق شعار المكتبة (المكتبة التي أنشئت لنشر الثقافة والعلم)
حقاً ودون شك كان لمكتبة الثقافة اليد الطولى في نشر الثقافة والعمل في ذلك العهد الذي يمكن أن نسميه عهد الإخصاب الفكري بعد القحط الذي امتد زمناً طويلاً انتهى بازدهار مكتبة الثقافة التي بدأت شمعة خافته ثم تحولت إلى مشعل وضّاء يغمر العقول الناشئة الناضجة أيضاً بنوره الباهر.

وأما الأستاذ محسن باروم رحمه الله فقد قال:
مكتبة الثقافة منذ إنشائها في عام 1364هـ رائدة في استجلاب كتب الثقافة العربية من مصادرها الأصلية في مصر وبلدان المشرق العربي الأخرى لكي تقدم لزبائنها ومرتاديها الإنتاج الفكري الأدبي لجيل الرواد من كبار أدباء العالم العربي.
وهكذا استقطبت مكتبة الثقافة أجيال الشباب المثقف الطامح إلى متابعة التيارات الأدبية الفكرية الحديثة في بلدان عالمنا العربي، فكانت هذه المكتبة همزة الوصل بينهم وبين ما يطمحون إليه من الإنتاج الأدبي والثقافي الرفيع الذي تصدره دور النشر المصرية أو العربية المتعددة.

و الأستاذ عبد الله بغدادي رحمه الله فيقول:
مكتبة الثقافة قامت لتنشيط الحركة الثقافية وبيع أشهر الكتب الأدبية لمشاهير الأدباء من مؤلفات العقاد وطه حسين وسلامة والرافعي والزيات والمازني مع بيع أمهات الصحف المجلات التي كانت تصدر في الوطن العربي وعلى الأخص المجلات المصرية كمجلة المصور ومجلة الهلال الشهيرة والتي مضى على صدورها قرابة المئة عام..

ويقول الأستاذ مصطفى عطار:
لقد تتلمذت الحشود من شباب هذه البلاد على مكتبة الثقافة حيث كانت المكتبة العصرية الوحيدة في البلاد التي استطاعت أن تذلل كل الصعاب، وتضع بين يدي عشاق الفكر، وشداة الأدب الإصدارات الجديدة من الكتب والمجلات بل الصحف المصرية واللبنانية وأصبح شبابنا وشيوخنا يقفون كأبناء مصر في المعارك النقدية التي كانت تنشب بين أنصار القديم والجديد -كما كانوا يسمون آنذاك- وكان يمثل القديم المفكر الكبير مصطفى صادق الرافعي ومن شايعه وقبله شوقي وأنصاره، ويمثل الجديد جماعة العقاد التي عرفت بمدرسة الديوان، العقاد والمازني وشكري رحمهم الله. الأمر الذي جعل الأدباء المصريين والأساتذة الوافدين للتدريس في المعهد العلمي السعودي، ومدرسة تحضير البعثات وكليتي الشريعة والمعلمين. ومدرسة دار التوحيد الثانوية بالطائف كانوا يُدهشون من الحضور الثقافي الواعي الاطلاع الواسع والمتابعة لما يدور في بلادهم على الساحة الثقافية للشباب السعوديين وزملائهم المعلمين السعوديين.
 وأما الأستاذ محمد سعيد طيب فيقول:
مكتبة الثقافة كانت أول مكتبة حديثة تعرّف عليها جيلي في مكة المكرمة فقد كانت مصدرنا الوحيد لكافة الكتب الجديدة في ذلك الوقت وشكلت نقطة مضيئة في تاريخ الحركة الثقافية في هذا الجزء العزيز من بلادنا.. ففي الستينات من هذا القرن أتاحت مكتبة الثقافة الفرصة لجيل الكتاب والمثقفين من الشباب، ومنهم الأستاذ محمد عمر العامودي والأستاذ عبد الله جفري والأستاذ محمد صالح باخطمة والأستاذ أسامة السباعي والدكتور زهير السباعي، فنهلوا مما كانت تتيحه لهم.. أحدث الأفكار وأعمق الرؤى ما ساهم في تكوينهم الفكري، وساعدهم على أداء دور بارز في حياتنا الثقافية.

والأستاذ علي محمد الرابغي يقول:
مكتبة الثقافة رائدة الفكر والعلم والثقافة والأدب في بلادنا، ولا أكاد أذهب بعيداً عن الحقيقة، وإنما أنا أقرر واقعاً شهوده الآلاف بل الملايين من جيل بل أجيال التنوير.. الذين كان لهم السبق من جيل الأوليات إن جاز التعبير. أولئك الذين سمت بهم ملكاتهم فارتفعت بهم شأواً عالياً وبعيداً في دنيا الثقافة ما جعلهم نجوم المجتمع.

والأستاذ حماد السالمي قال عن فرع المكتبة بالطائف:
كانت ملتقى الأدباء والمفكرين، ومنطلق الكتاب والصحفيين ومنطلق انتشار المطبوعات التي تأتيها من كل مكان، وكان الشيخ صالح جمال -رحمه الله- حصيفاً في انتقاء الرجال والمعاونين الذين منهم السيد حسين علي مصطفى المحضار مدير مكتبة الثقافة بالطائف وهو الأب الروحي لمعظم الصحفيين والكتاب في صحافتنا، الذين انطلقوا من الطائف.

أما الأستاذ محمد علي قدس فيقول:
لقد كانت مكتبة الثقافة من أهم مصادر التثقيف والتنوير في بلادنا. وحين تُذكر الكتب وتُذكر الثقافة نذكر الشيخ صالح جمال -رحمه الله- ومكتبته الشهيرة (الثقافة) كما نذكر مكتبة الأصفهاني في جدة الشقيقة الكبرى للثقافة بل حين يُذكر الكتاب القيم والمجلة المنوعة لابد أن يتبادر إلى الذهن مكتبة الثقافة، كنور في ظلام الجهل يستضاء به.

ويقول الأستاذ محمد عمر العامودي:
مكتبة الثقافة باعتبارها مكاناً تنويرياً مركز استقطاب وجذب الكل من رواد الأدب وطالبي المعرفة وكنا نفرح برؤية أديب كفرح جيل اليوم حين يشاهدون لاعب كرة أو فناناً أو مهرجاً في سيرك وسبحان مغير الأحوال.

وأما بعد:
فهذه جملة من الشهادات -وليس كلها- في حق مكتب الثقافة ومؤسسيها ودورها التنويري المهم والمؤثر في بلادنا المملكة العربية السعودية، فجزى الله مؤسسيها والعاملين فيها خير الجزاء على ما قدموه في سبيل نشر الثقافة والعلم سواء من خلال جلب الكتب الثقافية والأدبية والعلمية أو من خلال تيسير حصول الناشئة عليها وقراءتها بخفض الأسعار أو تقسيطها أو بنظام الإعارة أو حتى مجاناً لغير القادرين.

المصدر : المجلة العربية | 7/4/2016 | بقلم : فائز صالح جمال