الديوان في البيوت المكية .. نبض المكان وهيبة الزمان
الديوان في البيوت المكية .. نبض المكان وهيبة الزمان
في البيوت المكية العريقة يقف الديوان شامخًا بوصفه قلب المنزل وروحه ليس ركنًا معماريًا فحسب، بل مؤسسة إجتماعية تكثفت فيها قيم الضيافة والوقار والمودة والإنسانية. ومن بين كل تفاصيل البيت المكي يبقى الديوان هو الأكثر حضورًا في الذاكرة لأنه المكان الذي تلتقي فيه الحكايات بالوجوه وتنعقد فيه الروابط ويختزن فيه عبق الزمن الجميل.
الديوان .. فضاء تنطق فيه القلوب قبل الألسنة
منذ أن يدخل الضيف إلى الديوان يشعر أنه جزء من البيت وليس غريبًا عنه. هناك تقاس قيمة الإنسان بخلقه لا بمظهره ويستقبل الكبير والصغير العالم والبسيط المسافر والمقيم على قدم المساواة .. فالوقار يمنح والوجوه تبتسم والقلوب تفتح قبل الأبواب. ففي هذا المجلس تجتمع الأرواح قبل الكلمات وتصاغ العلاقات بنقاء وصدق نادر.
الديوان المكي .. مدرسة قيم وحِكم عبر الأجيال
لم تكن دواوين مكة مجرد مجالس جلوس بل حلقات علم وتهذيب. يتعلم فيها الأبناء آداب السلام ويستمعون لحكايات الحرم وقصص الحجاج والزائرين ويكتسبون من كبار السن دروس الحكمة والحنكة. ولأن مكة ملتقى العالم كانت دواوينها تحمل روحًا عالمية في بيئة مكيةٍ خالصة فتسمع لهجات متعددة تتناغم كأنها جزءٌ من ترتيل واحد.
الأصالة تتقاطع مع الجمال
يزدان الديوان بروشان يفتح نوافذ الضوء وبسطٍ يفوح منها عبق الماضي ومباخر يتصاعد منها عود مكي أصيل. كل قطعة فيه تحمل ذكرى وكل زاوية تحفظ حكاية:
بساط شهد أفراحًا ومقاعد احتضنت مجالس صلح
ومبخرة صعد منها طيبٌ كتب بداية صداقة أو نهاية خلاف.
الديوان .. بوابة الفرح وملتقى العيد
وعند حلول عيد الفطر المبارك يتحول الديوان إلى لوحة إحتفال نابضة بالحياة. فهو المكان الذي يستقبل فيه أهل مكة المهنئين من الأقارب والأهل والأرحام والجيران والأصحاب والأحباب. ويظل مفتوحًا طوال أيام العيد السعيد يدخل إليه الزائرون دون موعد وتقدم فيه الحلوى والتمر والقهوة العربية والعصيرات وتوضع فيه قوارير الكولونيا والعطور لتعكس جمال الضيافة ورقيها.
ولحفظ التواصل والمودة أعتاد أهل مكة وضع دفتر لتسجيل أسماء الزوار فإن حضر المهنئ ولم يجد أهل البيت يدون اسمه ليعرف أصحاب الدار من زارهم فيبادلوهم الزيارة. عادة تنضح وفاء وتعكس عمق العلاقات بين أهل الحي. وهكذا كان العيد يبدأ من الديوان .. حيث الفرح يرى في العيون والتهاني تتردد في الأرجاء والمودة تنتشر كما ينتشر عبق البخور في المجلس.
ولحفظ التواصل والمودة أعتاد أهل مكة وضع دفتر لتسجيل أسماء الزوار فإن حضر المهنئ ولم يجد أهل البيت يدون اسمه ليعرف أصحاب الدار من زارهم فيبادلوهم الزيارة. عادة تنضح وفاء وتعكس عمق العلاقات بين أهل الحي. وهكذا كان العيد يبدأ من الديوان .. حيث الفرح يرى في العيون والتهاني تتردد في الأرجاء والمودة تنتشر كما ينتشر عبق البخور في المجلس.
هنا تبنى العلاقات وتصنع المواقف
في الديوان تبارك زيجات وتحل خلافات وتكتب بدايات لصداقات طويلة. هو مكان تعقد فيه العهود وتفتح فيه أبواب الخير وتصنع فيه قرارات تغير مسار العائلات.
ولذلك لم يكن مجرد مساحة في البيت بل ركنًا من الهوية المكية ومرآة لأخلاق أهلها.
اليوم .. حاجتنا لروح الديوان أكبر من أي وقت
مع تسارع إيقاع الحياة تزداد الحاجة لاستعادة روح الديوان: ليلتف الناس من جديد وتجتمع العائلات وتعود القيم التي صنعت أجيالًا كاملة من أهل مكة. الديوان ليس مجرد إرث .. بل علاج اجتماعي ومساحة إنسانية نادرة.
فالديوان المكي ذاكرة لا تشيخ
يبقى الديوان في البيوت المكية جسرًا بين الماضي والحاضر ومشهدًا خالدًا يعكس مكانة مكة ودفء أهلها. ففيه تتجسد قيم الضيافة التي اشتهر بها المكيون وتنبض فيه روح العيد وتحفظ فيه الذكريات التي تظل حية مهما تغير الزمن. إنه ذاكرة المكان وإبتسامة العيد وركن المحبة الذي جعل من البيوت المكية منارات للكرم والإنسانية.

بقلم : أ.د. عصام إبراهيم أزهـر
0 تعليقات