غار ثور .. موئل القبس المحمدي.. وساعة التوقيت الهجري
الجبال في رسوخها قائمة أوتادًا على الأرض، شاهقة إذا ما قيست بمعايير الجغرافيا، محفوظة في ذاكرة الأطالس رسمًا محدّد الأبعاد والقياسات.. هي في «العرف» مكان من الأمكنة، لا تستدعيه الذاكرة إلا بمقدار التفاوت بينها في المقارنات والمفاضلات التي تستوجبها دروس «الطبوغرافيا» في مجال المتخصصين.. وهذا مدار كل «مكان» وبقعة جغرافية.. لا ميزة لها إلا بمقدار «الاستفادة» المنظورة منها؛ وحين تفقد هذه الميزة تصبح هملاً في خمول الذكر، و»صحراء» في فضاء النسيان أو المرور العابر.. غير أن بعض الأماكن والشواهد تتعدى مثل هذه القياسات العامة، إلى مقياس أكثر خصوصية متى ما ارتبطت بـ»حادث» ينقلها من كراسة «الجغرافيا» إلى سجل «التاريخ».. عندها تسقط كل الاعتبارات «العادية» ويبقى للمكان حضور آخر، وذكر مرفوع بمقدار ما جرى فيه من أمر جلل..
وأي شرف أكبر للمكان من أن يكون ملاذًا لعظيم، وملجأً لنبي، وصائنًا لدعوة مستقرة بطمأنينة وثقة في فؤاد صاحبها الكريم؛ عمّا قريب ستنثر عبيرها في الآفاق، وتبسط نورها في الدنيا حكمة وسلامًا وخلاصًا إلهيًّا للإنسانية جمعاء..
هكذا إذًا حال «غار ثور».. ليس مغارة من جملة المغارات الكثيرة في جيوب الجبال.. هنا كان موئل نبي الإسلام سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم في مهجره من الطغيان، ريثما تأخذ الدنيا أهبتها لدعوته الخالدة المنيرة في رحاب الزمن المقبل البهي.. هجعة مقدارها في حساب الأيام ثلاث ليال، وحسابها في سجل التاريخ يتجاوز كل مكتوب في هذا السياق، أمر حسب بتقدير إلهي عظيم.. سنأتي عليه تفصيلاً قبل المضي في مساليك الغار وقفة مع النبي صلى الله عليه وسلّم وصاحبه الصدّيق فيه..
إذا نظرت غار ثور بعين الطبوغرافيين، والجغرافيين لما وجدت له ميزة تحمله مكانًا أبعد من غيره ففي الجهة الجنوبية من المسجد الحرام وعلى مسافة تقارب الأربعة كيلومترات ستقف على الجبل الذي احتضن الغار، وإذا ما قسته بالأطوال ستجد الارتفاع يقارب الـ(748) مترًا من سطح البحر، أما من سفح الجبل فالارتفاع يقارب الـ(458) مترًا..
لا تسقط عظمة التاريخ وهيبته الآن، اصحبهما معك عند الدخول إلى حيث يقبع الغار، إنه هنا؛ صخرة مجوفة أقصى ارتفاعه 1.25 وأقصى طوله وعرضه 3.5×3.5 متر وله فتحتان فتحة في ناحية الغرب وأخرى من الشرق.. غار صعب المرتقى، الصعود إليه يستغرق نحو ساعة ونصف من عمر الوقت.
هكذا يبدو الوصف في إيجاز الجغرافيا، لكن في سطور التاريخ متسع لقصة لا تجد لها أوثق رواية غير القرآن الكريم، اقرأ قوله تعالى: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم» (التوبة:40).
كانت الهجرة قدرًا إلهيًّا، وأمرًا ربانيًّا.. بلغ الطغيان مداه في مكة المكرمة، وحشية التعذيب لم تستثني أحدًا من الموحّدين، وكانت المدينة المنوّرة المقصد والملاذ.. خرج المؤمنون إليها في ترقب الحذر المشفق، وبقي النبي حتى اطمأن إلى خروج أصحابه جميعًا عدا صاحبه الصديق الذي نال شرف «الصحبة»، وعلي بن أبي طالب.. وجاء الإذن بالهجرة، وكانت قريش قد أحكمت خطتها الموتورة، ودبّرت مكيدتها للإجهاز والقضاء على الدعوة وصاحبها، فاستنهضت من كل قبيلة فتًى من شديد فتيانها حتى تكون الضربة واحدة ليتفرّق الدم الذكي بين القبائل الممثلة في الفتيان فلا تستطيع قريشًا عند ذلك طلب الثأر – كما جرت العادة – وتكتفي من ذلك بالمستعاض من المال، ، لكن الوحي أنبأ النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمرهم، فأمر عليًّا كرّم الله وجهه أن يأخذ مضجعه في تلك الليلة، ليلة الهجرة العظيمة، وأن يتسجّى ببرده.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد اتفق مع صاحبه الصديق أبى بكر على تفاصيل الخروج من مكة للهجرة إلى يثرب، وتخيرا الغار الذي يأويان إليه، تخيراه جنوبًا في اتجاه اليمن، على غير ما كان منظورًا ومتوقّعًا لمن يريد المدينة المنورة، وذلك لتضليل المطاردين.. خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه، وقد أخذ النبي حسوة من التراب وألقاه في وجوه المتربصين به وهو يقول «شاهت الوجوه»، فعمّى الله عليهم النواظر، وطمس على أبصارهم، فهي كما بصائرهم في عماء وظلمة.. وسلكا الطريق إلى الغار الميمون يحرسهما راعٍ اسمُه عامر بن فُهَيْرَة مع غنمه،.. وجعل سيدنا أبوبكر يمشى مرة أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله، فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذلك فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك.. يا لعظمة الصاحب..
ولما أفاق فريق القتلة والتمس النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يجدوا له أثرًا، فاقتحموا الدار ظنًّا منهم أن المُسجّى في بردته هو النبي صلّى الله عليه وسلّم فإذا علي كرم الله وجهه مكانَه، فأُسقط في أيديهم.
دعنا من حال كفّار قريش في تيههم.. تعال وادخل مع النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم وصاحبة الصدّيق من الفتحة الغربية.. ثلاث ليال هنا غيّرت مجرى التاريخ، وكشفت عن معدن النبوة الخالص، والصحبة العظيمة.. قريش لم تكف عن الطِلاب حتى وقفت عند مدخل الغار، فتعالى إشفاق الصديق على صاحبه الأمين.. اقرأ ذلك في ما رواه الشيخان البخاري ومسلم: فقد ورد في الأثر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار فرأيت أثار المشركين. قلت يا رسول الله: لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما..
الله الله..
شفقة واطمئنان.. وفي الخارج زاد نسيج العنكبوت وبيض الحمامة من تضليل الكفار.. فعادوا بالخيبة من حيث أتوا..
ثلاث ليال هنا ومكةَ في مراقبةٍ شديدة، تبذل الأعطيات والمكافأةٍ الضخمة لمن يمسك بالرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبِه.
وبعد أن انقضت الليالي الثلاث وأخفقت قريش في ملاحقة أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، تهيأ رسول الله وصاحبُه للخروج إلى المدينة المنورة، وكان معهما دليلٌ خبير بالطريق، وبسبلِ التخفي عن عيون قريش.
سلكوا طريقًا متعرجًا ينحرفون مرة بالقرب من جهة الغرب على البحر ومرة ثانية يتجهون إلى جهة الشرق حتى لا يمكن لأي إنسان أن يتعقب ركبهما.. وبسبب هذا الطريق المتعرج، استغرقت رحلةُ الهجرة عشرةَ أيام، ثم وصلا قُباء، يوم الاثنين الثامن من ربيع الأول من السنة الرابعةَ عشرة للبعثة النبوية، وهي السنةُ الأولى من الهجرة، وهذا التاريخ يوافق الثالثَ والعشرين من سبتمبر سنة ستمائة واثنتين وعشرين للميلاد، وخرجت المدينة المنوّرة كلها لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثلَه في تاريخِها، ولن.. فإذا الصوت يعلو فرحًا واستبشارًا:
طلع البدر علينا
من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داعْ
هكذا جاءت فيوض الذكرى من قبس السيرة تترى عند هذا الغار.. الذي من جوفه سطع النور الباهر، وفي مقياته عرف «التاريخ» التقويم الهجري.. بعض الأحداث في تفاصيلها لم يجد متسعًا للحضور في هذه السطور، إنما المقام استشهاد، فإذا وقفنا هنا فما وقفتنا لتقديس مفضٍ إلى «عبادة» المكان.. ولا حاجة بالزائرين إلى «كتابة» الأسماء على صخور الغار، فمحبة المصطفى صلى الله عليه وسلّم التي حملتهم إلى «الزيارة» كافية للتأسي والاعتبار واستدعاء عظمة النبي الكريم، وموجبة للقين بأن شرف المكان مسنود إلى شرف من حلّ به، ولا قيمة له بغير هذا الشرف العظيم إلا بمقدار ما تكون قيم الأشياء الأخرى في قانون الفائدة العابرة
المصدر / جريدة المدينة 5 صفر 1430 هجرى /الطيب برير يوسف
0 تعليقات