جوزيف بيتس أول بريطاني يزور مكة المكرمة
كان (بيتس) أول بريطاني وثاني أوربي يزور (مكة المكرمة) في التاريخ الحديث, وقد قدم لأبناء جلدته من الأوربيين معلومات مهمة كانوا يجهلونها عن مدينتي مكة والمدينة المنورة, وقوافل الحج وشعائره, على جانب كبير من الصواب! وهو أيضًا أول من وصف طريق الحج - البري والبحري - من بلاد المغرب مرورًا بمصر.
يقول الرحالة الإنجليزي الأشهر (ريتشارد بيرتون) إن ذكاء بيتس وحبّه للمغامرة والتطلع إلى مزيد من المعرفة دفعه إلى مغادرة إنجلترا عام 1678 وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره, وعمل بحارا على إحدى السفن, وكان حوض البحر المتوسط يشتعل بحروب (الجهاد البحري) التي كان يشنها المسلمون المطرودون من الأندلس وبعض من البربر والأتراك, وفي ظل هذه الظروف وقع بيتس أسيرًا في يد أحد الجزائريين الذي قرر أن يجعل منه مسلمًا, ورافق سيده الجزائري في رحلته إلى الأماكن المقدسة, سالكين طريقا بحريا إلى الإسكندرية فرشيد, ثم أبحرا في النيل إلى القاهرة, ثم برا إلى السويس ومنها إلى الطور ثم رابغ على الساحل الشرقي للبحر الأحمر, وفي جدة استقبلهما المطوفون واصطحبوهما إلى مكة المكرمة.
وبعد أدائه لفريضة الحج, أعتقه سيده واعتبره بمنزلة ابن له, وكتب له ما يفيد عتقه, وعاد بيتس - باختياره - إلى الجزائر وعاش مع سيده السابق سنوات طويلة قبل أن يفكر في الهرب, وهذه المدة الطويلة كانت كافية - فيما يقول الرحالة العالم ريتشارد بيرتون - كي تجعله ملما بكثير من المعلومات عن المسلمين وعن أحوال البلاد التي رآها - بالرغم من أنه لم يحظ بقسط كاف من التعليم, فكتاباته - فيما يقول بيرتون - تخلو من الأحكام المسبقة والتعصب والميل للخرافة, كما أنه ليس ساذجًا - رغم صغر سنه!
ويشير (بيرتون) إلى أن بيتس قد سعى للعثور على وسيلة تمكنه من مغادرة البلاد, فانخرط في سلك الجندية, وأصبح من أفراد كوكبة الخيالة التي أرسلها السلطان العثماني إلى الجزائر, وبعد طول تردد تمكن بيتس من الفرار إلى أزمير, وعاش فترة من العناء في تركيا, حتى أنه فكر في العودة إلى الجزائر, وأن يحيا بها كمسلم بقية عمره, إلى أن أعانه أحد التجار الإنجليز بأربعة جنيهات استرلينية مكّنته من السفر إلى (جنوة) على سفينة فرنسية, ولما وصل إلى هناك سجد لله شكرا على عودته لأرضه المسيحية! ثم جاب إيطاليا وألمانيا وهولندا, وعندما عاد إلى إنجلترا واجه بعض المتاعب, حتى أنه ندم على مغادرته للجزائر, إلى أن استقامت أموره بعد ذلك.
وقد تميز بيتس بدقة التفاصيل ووصف الأشياء دون تنميق وبموضوعية تامة, وبعمق في فهم العقلية الدينية للحجاج في إطار من الاحترام الكامل, بالرغم من أنه لم يؤمن بما يؤمنون!
كان جوزيف بيتس أول أوربي يتحدث عن قوافل الحج - الأربعة - ومكانة أمير الحج, والظواهر التي تميز كل قافلة والطرق التي تسلكها, فيقول:
(....وهناك أربع قوافل حج تصل لمكة قادمة من غرب العالم الإسلامي, من فاس ومراكش, حيث يتجمع الحجاج في هذه القافلة ويلتحقون بها من سائر بلاد المغرب, وهي قافلة برية في الأساس, وعندما يصل الحجاج لمصر يدبرون أمر وصولهم إلى مكة المكرمة والعودة لمصر مرة أخرى. ويصدر أمير الحج أمرا للقافلة بالتوقف في كل مدينة يمر بها ليتيح الفرصة لمن يرغب للالتحاق بالقافلة, ويستقبل أهل المدن التي تتوقف عندها القافلة أمير الحج ببهجة بالغة لمكانته الدينية, فسعيد هو مَن يستطيع تقبيل يده, فإن لم يستطع فعباءته, ويمضي أمير الحج في موكب فاخر تصحبه الأعلام والطبول, ليس هذا فحسب, بل إن النسوة يتزاحمن فوق أسطح المنازل التي يمر أمامها موكب أمير الحج لرؤية المشهد البهيج, وتضع الواحدة منهن أربعة من أصابعها على شفتيها برقة ثم تزغرد في مرح وبهجة.
أما قافلة الحج الثانية فتنطلق من (ميسير - Misseer), ومن الواضح أنه يقصد (مصر) وقد كتبها وفقا لنطق الحجاج المغاربة الذين صحبهم, ويلتحق بهذه القافلة جمع كبير جدا من الحجاج, لأنها أفضل تسليحا, وبالتالي فإن الحجاج الملتحقين بها يكونون في وضع أكثر أمنا, بالإضافة إلى أن هذه القافلة أكثر مدعاة للسرور, لأنها منظمة ويعرف كل فرد فيها مكانه, فليس ثمة عراك أو مشاكل البتة أثناء الطريق لمحاولة فرد أو جماعة إحراز السبق أو التقدم, وتحمل هذه القافلة معها كسوة الكعبة. East Indies وتحمل معها بضائع قيمة ومختارة يشتري منها الحجاج من مختلف الأجناس في مكة. Arabic Quarban and Turkish bairam) وهو عيد الأضحى - بستة أيام أو سبعة. Royal Exchange في لندن. لكنه (أي المسجد الحرام) أوسع منه بعشر مرات. وكل أبوابه تفضي لممرات مغطاة بالحصى ما عدا بعض الممرات التي رصفت بأحجار عريضة, وهي الممرات المؤدية للكعبة المشرفة والأروقة المحيطة بالصحن - حيث الكعبة المشرفة - مرصوفة بأحجار عريضة جميلة, ولها عقود (مقنطرة) وعلى الجدران الداخلية للأروقة توجد غرف صغيرة تدور مدار كل الأروقة, وقد أعدت هذه الغرف الصغيرة (الخلوات) للذين وهبوا حياتهم للقراءة والدراسة والتعبد, وهذه الطائفة تشبه إلى حد كبير طائفة الدراويش. Sultane وهو يوازي تسعة شلنات أو عشرة, ليس هذا فحسب, بل إن الحبل القطني الذي يربط به الجزء الأسفل من الكسوة, يقطع أيضا إلى قطع صغيرة ويتم بيعه. ويشتري كثيرون قطعا من الكسوة القديمة لوضعها فوق صدورهم عندما يوافيهم أجلهم, وهناك من يحملها معه دائما كتعويذة ضد الخطر, وأعتقد أن السلطان الشريف (يقصد شريف مكة) يجمع أموالا كثيرة من هذه الكسوة القديمة, تساوي ما تكلفه الكسوة الجديدة, بالرغم من أنهم يقولون إن العمل في الكسوة يستغرق عاما كاملا...)!
والقافلة الثالثة تسمى قافلة الشام وتضم الحجاج القادمين من تتاريا وما حولها وتركيا والأناضول وأرض كنعان, وتصل هذه القافلة للديار المقدسة دون المرور في مصر.
والقافلة الرابعة هي قافلة الهند وتنطلق من جزر الهند الشرقية
وتصل هذه القوافل الأربع إلى مكة في وقت واحد تقريبا, فلا يفصل بين وصولها إلا ثلاثة أيام أو أربعة, فلابد أن تصل هذه القوافل جميعا قبل عيد القربان, أو كما يقول الترك عيد البيرام (وبمجرد وصولنا إلى مكة, سار بنا الدليل في شارع واسع يتوسط البلدة ويؤدي إلى الحرم, وبعد أن أنخنا الجمال, وجهنا الدليل إلى حوض الماء للوضوء, ومن ثم ذهب بنا إلى الحرم فدخلناه من باب السلام (وقد تركنا أحذيتنا عند شخص موكل بها قبل الدخول), وبعد اجتيازنا مدخلا استغرق اجتيازه خطوات قليلة وقف الدليل (المطوف) ورفع يديه صوب بيت الله الواقع وسط المسجد الحرام, وحذا الحجاج حذوه ورددوا وراءه الكلمات التي يقولها. وعندما وقع نظر الحجاج للمرة الأولى على الكعبة فاضت عيونهم بالدموع ثم طفنا بالكعبة سبعة أشواط, ثم صلينا ركعتين, ثم قادنا الدليل للطريق مرة أخرى, ورحنا نهرول وراءه تارة, ونمشي تارة أخرى من أحد طرفي الطريق إلى طرفه الآخر (يقصد السعي بين الصفا والمروة). ولا أملك إلا أن أعجب من هؤلاء الحجاج الذين يبدو عليهم التأثر الشديد والعاطفة الجياشة, وهم يؤدون هذه المناسك... ولم أستطع إلا بالكاد أن أكبح دموعي من الانهمار عند رؤية حماسهم...!
وصف المسجد الحرام
وبعد أن تحدث بيتس عن مكة المكرمة: موقعها وسمات أهلها والأساطير التي تروج عن جبالها, وفاكهتها ومناخها... قدم بيتس بعض المعلومات عن الكعبة والمسجد الحرام, ويشير إلى أن عدد أبوابه نحو 42 بابا, يغلق بعضها أحيانا. ويضيف بيتس: (وهو قريب الشبه من دار المقاصة والكعبة القائمة وسط المسجد الحرام مبنى مكعب يبلغ ارتفاعه حوالي أربعة وعشرين قدما, ويبلغ طول كل ضلع من أضلاعها حوالي أربع وعشرين خطوة. والكعبة مشيدة من أحجار ضخام مصقولة, وليس بها أي عقود, وهي مغطاة بكسوة من حرير سميك, ومزخرفة من فوق وسطها بشريط من حروف من ذهب, ولا أذكر مضمون الكلمات المكتوبة بهذه الحروف, وإن كنت أظن أنها تشير إلى عبارات دينية, ويبلغ طول الحرف قدمين, أما عرضه فيبلغ بوصتين, وبالقرب من الطرف السفلي للكعبة توجد حلقات نحاسية مثبتة به تمر منها حبال قطيفة تربط بها الأطراف السفلية للكسوة, وعتبة باب الكعبة مرتفعة, بحيث لا يصل إليه من يريد الدخول, ومن هنا فثمة سلم متحرك يتم إحضاره لهذا الغرض (أي عند الرغبة في تمكين أحد من الدخول) وباب الكعبة مغطى كله بالفضة وثمة ستارة معلقة عليه تصل للأرض, وتظل هذه الستارة مرفوعة طوال أيام الأسبوع فيما عدا ليلة الثلاثاء, ويوم الجمعة وهو يوم تعبّدهم, وقد زينت ستارة الباب بزينات ذهبية ثقيلة, تزن حوالي عشرين رطلا, وسطح الكعبة مسطح من جير ورمل, وثمة ميزاب لتفريغ الماء من فوقه عند هطول المطر, وفي هذه الأثناء يجري الناس نحو الميزاب لينزل ماء الميزاب عليهم معتقدين أنه نفحة من السماء, ويسعدون سعادة فائقة إذا نزل ماء الميزاب عليهم, بل ويحاولون الشرب منه, وإن حدث ذلك غمرتهم السعادة, ويلجأ بعض الفقراء لجمعه وتقديم جزء منه للحجاج, لقاء منحة مالية!
داخل الكعبة
وخلال فترة مكوثه بمدينة مكة - نحو أربعة شهور - أتيح له أن يلج داخل الكعبة مرتين (وهو حظ سعيد لم يتح لآلاف الحجاج)...ويخصص يومان في الأسبوع لدخول الكعبة, يوم للرجال ويوم للنساء, وعن وصف داخل الكعبة وكيفية الصلاة فيها وعملية غسلها يقول بيتس: (عندما يدخل أي مسلم الكعبة, فإن عليه أن يصلي ركعتين, وهم يؤدون صلواتهم في جوف الكعبة بخضوع كامل واستغراق شديد, فهم لا ينشغلون بالتطلع والحملقة حولهم, لأنهم يعتبرون ذلك إثما, بل إنهم يقولون إن من يتطلع حوله في جوف الكعبة يصاب بالعمى لتطفله وحبه للاستطلاع, ولم أضع هذه الأقاويل في اعتباري, فرحت أنظر حولي غير واضع في اعتباري هذه المحاذير الأسطورية, فلم أر سوى عمودين خشبيين في الوسط لمساندة السقف وقضيبا حديديا مثبتا فيهما, علقت عليه ثلاثة مصابيح فضية أو أربعة, أعتقد أنه من النادر إضاءتها, وأرضية الكعبة (المشرفة) من رخام وكذلك الجدران الداخلية, وثمة كتابات على هذه الجدران الداخلية لم يكن لدي الوقت الكافي لقراءتها, ومع أن الجدران الداخلية مغطاة بالرخام فإنها مغطاة بالحرير على ارتفاع قامات الحجاج. ولا يمكث الحجاج في داخل الكعبة إلا لحظات قليلة, فنادرا ما يمكث أحد أكثر من ثُمن ساعة, لأن هناك آخرين ينتظرون دورهم للدخول, وبينما يخرج بعض الحجاج يدخل آخرون ليحلوا محلهم, وبعد أن ينتهي الجميع, فإن سلطان مكة (الشريف) لا يعتبر نفسه أهلا لتنظيف البيت, فيقوم بعض أتباعه بغسل الكعبة وتنظيفها, فيبدعون بغسلها بماء زمزم, ثم بماء عذب, ويتم إبعاد السلم المتحرك الذي يوضع للصعود إلى باب الكعبة, فيتزاحم الناس أسفل الباب ليتلقوا ماء غسيل الكعبة, أما المكانس التي ينظف بها بيت الله الحرام, فيتم تكسيرها إلى قطع صغيرة, وتنثر فوق الحجاج المتجمعين, ويحتفظ من يحصل على عصا صغيرة من هذه المقشات, بها كذكرى مقدسة!
موكب الكسوة الشريفة
ويشير بيتس إلى الكسوة الجديدة للكعبة التي تعد كل عام بالقاهرة, بأمر من السلطان العثماني, حيث ترسل محملة على جملين مع قافلة الحج المصرية, ولا يكلف هذان الجملان بأي عمل آخر طوال العام. ويصف مظاهر وداع واستقبال الكسوة وحرص الحجيج للحصول على قطع من الكسوة القديمة للتبرك بها, مهما غلا ثمنها! فيقول بيتس: (...ويتم إرسال الكسوة من مصر بفرح غامر ويتم استقبالها في مكة بفرح غامر أيضا, لدرجة أن كثيرين يبكون من الفرح, ويقوم بعض الناس بتقبيل كل جزء من الجملين حاملي الكسوة, وآخرون يرددون عبارات الترحيب ويلمسون الكسوة بأيديهم ثم يمسحون وجوههم, إنهم يفعلون ذلك وأكثر منه لإظهار مدى توقيرهم للكسوة, بالرغم من أنها لم توضع على الكعبة بعد, وهذا يبين لك مدى توقيرهم لبيت الله الحرام.
وعند نزع الكسوة القديمة يضع شريف مكة - بمساعدة آخرين - الكسوة الجديدة, ويأخذ الشريف الكسوة القديمة لتكون تحت تصرفه, فقد يخص بها نفسه فيقطعها قطعا يبيعها للحجاج الذين لا يبالون بما يدفعون لقاء الحصول على قطعة منها, إنهم شغوفون جدا بهذه الكسوة القديمة, فقطعة منها قد تساوي (سلطاني)
ويذكر بيتس مزيدا من التفاصيل في وصف المسجد الحرام والطواف بالكعبة, وعن مقام إبراهيم وبئر زمزم فيقول:
(وعلى بعد حوالي اثنتي عشرة خطوة من الكعبة, يوجد مقام إبراهيم الذي بنى الكعبة - كما يقولون - بأمر من الله, ويحيط بهذا المقام شبكة حديدية وهي مغطاة بكسوة مزركشة جميلة, ويرنو الناس إلى هذا المقام بحب. وعلى مسافة قصيرة منه تجاه اليد اليسرى توجد بئر زمزم ويعتبرون ماءها مقدسا, ويقدرونه تقديرا فائقا. كما يقدس الكاثوليك ماءهم, , وفي شهر رمضان يفطرون به ويقولون إنه حلو كالحليب, أما بالنسبة لي, فلم أر أنه يختلف عن أي ماء آخر إلا أنه يميل إلى الملوحة شيئا ما. ويشرب منه الحجاج بكميات هائلة عند وصولهم إلى مكة أول مرة ليس فقط ليطهروا أنفسهم, وإنما لتنفض أجسامهم كل الخطايا وليخلصوا أرواحهم من كل الآثام. وفي شهر رمضان, يتم ملء مئات من أباريق المسجد الحرام بماء زمزم, وتوضع أمام الناس - ومعها أكواب - قبيل أذان المغرب, وفور أن يؤذن المؤذن من فوق المئذنة - يشربون من هذا الماء بنهم قبل أداء الصلاة. وتوجد بئر زمزم وسط غرفة من الغرف الصغيرة القائمة إزاء كل جانب من جوانب الكعبة, وتبعد عنها حوالي اثنتي عشرة خطوة أو أربع عشرة خطوة, ويقف عند البئر أربعة رجال لسحب الماء منها دون مقابل, ويستخدم كل رجل من هؤلاء قربتين من جلد مربوطتين بحبل إلى عجلة صغيرة, وبينما تدور العجلة ترتفع قربة مملوءة وتهبط قربة فارغة لتملأ من جديد. والمسلمون لا يشربون من هذا الماء فقط بل إنهم - أحيانا - يستحمون به بعد أن يخلع الواحد منهم ملابسه ما عدا قطعة قماش رقيقة يغطي بها نصفه الأسفل, ويقوم ساحبو الماء بإفراغ خمسة أوان (جرادل) أو ستة فوق رأسه, ويجوز من الناحية الشرعية أن يغسل المرء نصفه العلوي بماء زمزم, ولا يجوز غسل نصفه السفلي به, فهذا لا يليق, فبعد غسل النصف العلوي يترك الماء ليتخذ سبيله إلى الأرض لا إلى موضع العورة (لم يرد في السنة ما يمنع استخدام ماء زمزم في أي غرض, وهذا لا ينفي قداسته أو مكانته الخاصة لدى المسلمين, فماء زمزم (لما شرب له) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فوق جبل عرفات
ويشير بيتس إلى أهمية (الميقات والمكان) اللذين يصبح فيهما المسلم (حاجا حقيقيا)...حيث يتوجه المسلمون بملابس الإحرام في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة إلى جبل عرفات, وقد سمي بهذا الاسم لأن آدم قد تعرف فيه مرة أخرى على حواء, ويزعمون أن حواء مدفونة في جدة! ويضيف بيتس: (...ويصلي المسلمون الذين يصلون مكة عن طريق البحر الأحمر - ركعتين عند قبرها, ولم أملك إلا الابتسام عند سماعي حكاياتهم, فقد لاحظت أنهم وضعوا حجرًا عند رأسها, وحجرًا آخر عند قدميها, وبين الحجرين مسافة طويلة تقرب من رمية سهم, وفي الوسط مصلى صغير, حيث يصلي الحجاج.
وجبل عرفات ليس ضخما ضخامة تجعله يستوعب الأعداد الهائلة من الحجاج الذين لا يقلون - كما يقال - عن سبعين ألفا كل عام, وفي اليوم التاسع من شهر ذي الحجة يعوض الله هذا العدد بملائكة من عنده ينزلون على هيئة بشر - إن كان عدد الحجاج أقل من العدد آنف الذكر! لقد كان عدد الحجاج في عرفات كثيرا جدا, لكنني لا أظنه يصل إلى سبعين ألف حاج. وثمة أحجار دالة تحيط بالجبل لتحديد حدود ما يسمى عرفة أو عرفات, وتعتري الحماسة بعض الحجاج فيأتون إلى هنا قبل الميقات وينصبون خيامهم, منتظرين يوم عرفة أو يوم الوقفة. ولم أر فوق عرفات أي معالم يمكن وصفها, إلا قبة صغيرة فوق الجبل.
لقد كان مشهدا يخلب اللب حقا أن ترى هذه الآلاف المؤلفة في لباس التواضع والتجرد من ملذات الدنيا, برءوسهم العارية, وقد بللت الدموع وجناتهم, وأن تسمع تضرعاتهم طالبين الغفران والصفح لبدء حياة جديدة)!
في منى
(وفي منى ينصب الحجاج خيامهم, فثمة سهل واسع, ويقضون يوم عيد الأضحى, وبعد ذلك يذهب كل حاج في اليوم الأول ليرمي سبع جمرات على العمود الأول, ويقصدون بهذا رجم الشيطان وأفعاله, لأنهم يقولون أثناء الرجم: (إنني أرجم الشيطان وحزبه), وثمة عمودان آخران متقاربان يرجمون أحدهما في اليوم الثاني, والآخر في اليوم الثالث, وأثناء توجهي للرجم قابلني حاج وقال: (لابد أن ترجم بسرعة من فضلك, لأنني قد فقأت عيني الشيطان لتوي)!
ويجب أن تلاحظ أن أهل البلاد يجلبون إلى هذا المكان قطعانًا كثيرة من الأغنام لبيعها, فيشتري كل حاج خروفًا ويضحي به, ويقدمون بعض أضحياتهم لأصدقائهم وبعضها للفقراء, ويأكلون ما تبقى, وبعد ذلك يحلقون رءوسهم ويخلعون لباس إحرامهم ويلبسون ملابس أخرى ويحيي بعضهم بعضا قائلين: (عيدكم مبارك), ويتبادلون القبلات!
ويقضون هذه الأيام الثلاثة في فرح واحتفالات, ويصبح الليل نهارا بسبب وفرة المصابيح المضاءة, ويطلقون البنادق, وتمتلئ السماء بالألعاب النارية, لأنهم يعتقدون أن كل ذنوبهم قد ذهبت أدراج الرياح, وأنهم - إذا ماتوا - دخلوا الجنة مباشرة (بغير حساب) - إذا لم يرتدوا عن دينهم - وخلال الأيام الثلاثة التي يقضونها في منى - يفكر الواحد منهم, إذا لم يكن واهنا ضعيفا, في زيارة الكعبة مرة واحدة على الأقل. إنهم يشدون الرحال إلى هناك بحماس فائق لإلقاء نظرة جديدة على بيت الله الحرام, فإذا ما رأوه انفجرت عيونهم بدموع الفرح, وبعد الطواف والصلاة يعودون ثانية إلى منى وبعد انتهاء أيام عيد الأضحى الثلاثة يعودون جميعا حاملين خيامهم إلى مكة مرة أخرى.
ويقال إنه بعد مغادرة الحجاج منى إلى مكة ترسل السماء زخات من المطر لغسل القذر والروث المتبقي من ذبح الأضاحي, كما تأتي الملائكة لتحمل الحصى (الجمرات) التي رمى بها المسلمون رمز الشيطان, وتعيدها إلى أماكنها قبل موسم الحج التالي!!
وبعد العودة لمكة, يمكثون هناك زهاء عشرة أيام أو اثني عشر يوما, حيث تعقد سوق كبيرة تباع فيها كل بضائع الهند, كما تباع فيها أحجار كريمة للخواتم والأساور....إلخ, المجلوبة من اليمن, وكذلك بضائع الصين والمسك وغيرها من الأشياء الغريبة, إنه الوقت الذي ينشغل فيه الحجاج بالشراء لأنهم يعتقدون أنه من الأمور غير الشرعية أن ينشغلوا بالبيع والشراء قبل إتمام الفريضة. ويقوم كل حاج الآن بشراء (كفن), وهو عبارة عن قطعة كتان رقيقة ليكفن فيها, وهم يغمسونها في ماء زمزم, وتلك ميزة قد لا تتاح لهم في الجزائر أو غيرها, ويحرصون على حمل هذا الكفن معهم أينما ذهبوا, بحرا أو برا, فإذا ماتوا كفنوا به.
وفي المساء السابق لمغادرة مكة المكرمة, لابد من طواف الوداع, فيدخل المرء من باب السلام, فيطوف قدر ما يستطيع وبعض الناس يظلون يطوفون حتى يعتريهم التعب (طواف الوداع, كطواف القدوم, كطواف دخول المسجد: سبعة أشواط) وتفيض عيونهم بالدمع لأنهم يودعون بيت الله, ويبدون حقيقة غير راغبين في مفارقته, ويشربون من ماء زمزم حتى الامتلاء, ويتراجعون إلى باب الوداع ووجوههم صوب بيت الله, وباب الوداع هذا مواجه لباب السلام.
وعند خروجهم من باب الوداع, يعقدون أيديهم تجاه بيت الله, فمن غير اللائق أن يولوا ظهورهم للبيت عند الوداع, ويظلون في حال بكاء وهم يدعون ويتوسلون إلى الله حتى يصلوا بيوتهم.
ويحدثنا بيتس عن أنهم دفعوا أموالا كثيرة لاستئجار جمال النقل لدى مغادرتهم مكة, في طريقهم إلى المدينة المنورة, خمسة أو ستة جنيهات استرلينية للجمل الواحد, (كما لو كنا نستأجره من مكة إلى مصر)! ويحضر (الجمالة) عددا احتياطيا من الجمال, حيث وعورة الطريق تؤدي إلى موت كثير منها, فإذا سقط جمل أثناء الطريق, فإنه يفقد قدرته على مواصلة السير, فيرفعون عنه حمله ثم يذبحونه فيأكل لحمه الفقراء في القافلة, (...وقد أكلت أنا نفسي لحم الجمل فوجدته حسن المذاق ومفيدا للصحة)!... ثم حدثنا بيتس عن اليوم الأول لخروجهم من مكة, وقد سادت القافلة حال من الهرج والمشاحنات وعدم النظام, إلى أن انتظمت الأمور حتى وصولهم إلى القاهرة, وعن ترتيب القافلة, يقول بيتس: (وهم يجعلون أربعة جمال في المقدمة ويربطون بعضها ببعض والحملة تتكون قطارا ويسمون الحملة كلها قافلة, فالقافلة إذن مقسمة إلى قطارات, ولكل قطار اسمه, وهو يتكون من آلاف الجمال, ويسير كل قطار وراء قطار آخر, وكأنهم في حملة عسكرية, وعلى رأس كل قطار قائد مسئول يجلس في تختروان يحمله جملان, أحدهما أمام الآخر, والتختروان مغطى بقماش شمعي وفوقه قماش سميك, وإن كانت زوجة هذا القائد معه جعلوا لها هي الأخرى تختروان على شاكلة تختروان زوجها, وعلى رأس كل قطار جمل يحمل أموالها (كنوزها), ويضعون لهذا الجمل جرسين, جرس على كل جانب من جانبيه, وهو - أي الجرس - في ضخامة جرس السوق عندنا, بحيث إن صوته يسمع من مسافة بعيدة. وثمة جمال أخرى يضعون حول رقبتها أجراسا, وبعضها حول أرجلها, كتلك الأجراس التي يضعها الحمالون عندنا حول رقاب خيول المقدمة, فتظل هذه الأجراس تدق طوال الليل بالإضافة للأجراس التي يحملها السائرون على الأقدام والجمالون, ويكون لرنينها صوت محبب يجعل الرحلة تمضي بهيجة. وهم يقولون إن هذه الموسيقى تجعل الجمال نشطة, وبهذه الطريقة تسير الأمور منتظمة حتى يصلوا إلى القاهرة, ودون هذا الانضباط يمكنك أن تتصور الفوضى التي يمكن أن تحدث لهذه الجموع الهائلة.
المصدر : مجلة العربي العدد 554
0 تعليقات