حلويات مكة الشعبية..
«كل شيء حلو في مكة بيت الله!»، بصوته المغسول بترتيل القرآن والأوراد الدينية يحكي عم خليل المكي وهو متكئ على مركازه الخشبي في حي الشبيكة القديم والقريب من الحرم المكي عن الحلويات الشعبية. يقول «هنا.. الكلمة حلوة، والإبتسامة حلوة، وحلوياتنا الشعبية تنطق بلسان السكر والعسلية وهي أحلى من الحلو نفسه!».
في ليالي عقود القران ومناسبات الأفراح تخرج المعاشر (وهي طاولات خشبية مشغولة ومزخرفة بالأصداف وأحجار شبه كريمة) محمولة فوق الرؤوس تجللها زغاريد النساء المختلطة مع صوت الجسيس الندي في طريق توزيع قسم منها على الضيوف، فيما يبقى بعضها خاصاً ببيت العروس وهي مغطاة بقطع من الأقمشة المزخرفة تخفي تحتها حلويات اللدو المصنوعة من الحمص الأصفر واللبنية. ويصف عم خليل طرق تقديم الحلوى الشعبية في الحارات القديمة بقوله «كان تقدم اللبنية وحلاوة النارجين (المصنوعة من الحليب وجوز الهند) ملفوفة في قماش التل الأبيض المزنر بشرائط الساتان المزينة بتاج من الأكليل الذهبي». الحلويات الشعبية المكية مغلفة بقصص وحكايا تتراوح بين الفرح والحزن ليحولها أصحابها الى حلوى للمناسبة. يقول عم خليل «في كل شيء هناك جانب حلو في الحياة.. وعلينا أن نغتنم الفرصة لنصنع حتى من الحزن حلاوة». وأضاف «في الحلويات رائحة الحارات القديمة بما فيها قصص العشق التي نسج خيوطها أبناء الزمن الجميل لتبادل الفرح والمسرات بينهم».
بين خطوط حلوى المشبك (حلوى يتم تشكيلها على هيئة أقراص بخطوط متشابكة ومتداخلة) تتقاطع أفراح أهل الحجاز الذين استطاعوا أن يجعلوا لكل مناسبة حلوى تعبر عنها، وهو ما يفسر تداخل العلاقة بين الحلويات والمناسبات الاجتماعية فمن مشبك الموالد النبوية المصنوع من القمح والسكر والذي كان يوزع في شهر شعبان على قراء المولد النبوي والحاضرين له.
وتتذكر الخالة لطفية وهي سيدة في العقد الخامس من العمر كيف كانت تصطف الفتيات على عتبات منازلهن في الأحياء القديمة المجاورة للحرم المكي في انتظار حجي (طرغل) بقبعته التي تعلوها صينية مملوءة بالحلوى الملونة. وتضيف «كنا نتدافع نحو باب الشارع في سباق محموم لنشتري حلوى البتاسا والمسكة وحلاوة شمسة وكل ذلك لا يكلفنا سوى بضعة قروش». تقول كانت حلويات مصنوعة من السكر والطحين ملونة بألوان طبيعية.
وبين من يربط ظهور الحلويات الشعبية وتنوع أشكالها وألوانها بمرور قوافل الحجيج بأرض الحرمين القادمة من الهند وشرق آسيا والآخرين الذين ينسبونها إلى أهل البلد الحرام تظل الحلويات الشعبية هدية الحجيج والمعتمرين المعجونة بماء زمزم المقدس.
وتقول الخالة لطفية «قديما كان الحاج يقبل على شراء الحلويات من محلة السوق الصغير في مكة المكرمة كنوع من البركة وهدية للأهل والأحباب عند عودتهم من الحج». فيما يرى عم خليل أنها تعكس التنوع الثقافي والعرقي للمنطقة، يقول «لم تكتف القوافل بنقل الحجيج الى مكة بل كانت تحمل معها العادات والتقاليد التي تأثر بها أهالي مكة بما فيها عادات الطعام ونوعيته والتي كان جزء كبير منها متعلقاً بصناعة الحلويات». وما يفسر بقاء الحلويات الشعبية حية في ذاكرة أهالي مكة إلى اليوم، هو حضورها على موائدهم في الوجبات الثلاث اليومية، فلا تخلو سفرة إفطار الا وكانت الحلاوة الطحينية حاضرة. فيما احتفظت سفرة العشاء بتسجيل الحضور اليومي لحلاوة اللدو واللبنية إلى جانب الهريسة، التي يحرص كثيرون على شرائها بجانب خبز الشريك المصنوع من الحمص أو الكعك الفتوت والحلاوة الطحينية والتي تصنع من السمسم أو حلاوة الشعر كما يحلو للبعض ان يسميها نسبة إلى الطريقة التي يتم بها تصنيع هذه الحلوى.
وتبقى «طبطاب الجنة» وهي نوع من الحلوى المصنوعة من السكر المحروق بالطحينة تزينها المكسرات الموضوعة بتشكيل هندسي يعكف على تنظيمه أنامل فنان، وهي صنف يرغبه الحجيج ويتسابقون في الإقبال عليها كحلوى لها طعم الجنة تختزنها ذكرى أيام وليال افترشوا فيها طبطاب البلد الحرام.
سمير بدرة هو سليل عائلة مكية تخصصت في صناعة الحلويات والمخابز بأنواعها يقول «كان يتم عمل الحلاوة الطحينية عن طريق ماكينة المكت اليدوية التي تسحب من خلالها الحلاوة على شكل جدايل وخصل ولذلك سميت حلاوة شعر». وفي الوقت الذي ارتبط به مسمى الحلوى بالصغار استطاعت الحلويات الشعبية أن تخرج من إطار التسالي لكي تكون ضمن طقوس بوفيه الأفراح والمناسبات السعيدة من خلال ركن التعتيمة ولم تكتف الحلويات الشعبية بركن الذكريات في حفلات الزفاف، بل ذهبت لتؤكد حضورها في طاولات قصور الأفراح كبديل للشوكولاته الفاخرة وتحتلها عن طيب خاطر. ويوضح سمير بدرة «رخص ثمن الحلوى البلدي الذي لا يتجاوز سعر الكيلو جرام منه عن 30 ريالا ساهم في زيادة الطلب عليها بدلا عن الشوكولاته غالية الثمن».
إلا أن انتشار محلات الكوفي شوب التي تقدم قهوتها مصحوبة بطبق من الحلويات الأوروبية كاملة الدسم لم يغن المكيين على وجه الخصوص، والسعوديين بشكل عام عن الحلويات الشعبية كونها تعتمد في طريقة صنعها على قيمة غذائية كبيرة. وبحسب بدرة «الحلاوة البلدي تعتمد في صناعتها على مادتين اساسيتين هما السكر والحليب والسمن الحيواني ولا تحتمل فترة تخزين طويلة لأنها خالية من المواد الحافظة، لذلك يفضل أكلها بشكل يومي»، هذا الحضور القوي للحلويات الشعبية شكل بداية لتأسيس صناعتها التي برع فيها كثيرون عملوا على ترسيخ أسمائهم في تاريخ صنعة الحلوانية وكأنها علامات مسجلة يحرص كثير من الناس على الشراء منها كـ (أبو نار)، و(شهاب بدرة)، وغيرهما كثير.
جريدة الشرق الاوسط / الجمعـة 03 جمـادى الثانى 1427 هـ / أميمة الفردان
0 تعليقات