محمد بن لادن.. من «المعلم» إلى باني للحرمين والقصور الملكية
رغم كل التطورات الطارئة لا تزال المباني الحجرية بمكة المكرمة وغيرها من مدن المملكة شامخة بين عراقة الماضي وتقنيات الحاضر، شامخة بالرصانة الهندسية المعمارية ذات الترابط التراثي قامت على أيدي رجال ذوي خبرة ومهارة وهندسة معمارية فريدة، الأمر الذي زاد في اتساع رقعة البناء مدمجة بطرز وبناءات متعددة الأشكال والتصميمات الهندسية الحديثة.
ولا شك أن هذا المزج يتجسد أيضاً بصورة حية في بناية أروقة المسجد الحرام، وما جاوره من المباني على نمط الطراز المعماري القديم.
بهذا كله أخلص إلى أن تاريخ استخدام المواد الحديثة في الطراز المعماري القديم والحديث في المسجد الحرام كانت بدايته على يد معالي الشيخ محمد عوض بن لادن ـ مدير الإنشاءات الحكومية، لينتشر ويمتد البناء لاحقاً بالمواد الحديثة في مكة وليمتد منها إلى ضواحيها وقراها المجاورة، وإلى كثير من مدن المملكة خصوصاً الحجاز ونجد. حيث ولد محمد عوض بن لادن، عام 1326هـ الموافق 1908م.
ووصل إلي جدة في حدود سنة 1930 ميلادية، وكان رجلاً متديناً كريماً متواضعاً رغم ما آل إليه حاله من يسر وغنى، بعد خوضه معارك الحياة كما يذكر لي بعض من عاصره وعمل معه في البداية الأمر (أنه كان يعمل في مطعم (شوربة) في حارة الشام بمدينة جدة، وحمالاً للأمتعة ، (وكان قد احتفظ بالكيس القفة التي كان يستخدمها عندما كان حمالاً وعلقها في مجلس منزله للافتخار بمثابرته ولتذكير نفسه وأبنائه أنه كان أمراً بسيطاً قبل أن يصبح أكبر مقاول في المنطقة.
ويذكر عنه أيضاً من عرفه أنه كان قمة في المثابرة والعصامية والاعتماد علي النفس و لذلك لم تمض سنين قليلة حتى تحول محمد بن لادن من مجرد حمال في مرفأ جدة البسيط إلي اكبر مقاول إنشاءات في المملكة) إضافة إلي مثابرته فقد كان جريئاً ومستعداً للمجازفة حيث تمكن من خلال هذه الجرأة من إقناع الملك سعود أنه الأقدر علي المشاريع الصعبة وذات طابع التحدي و تمكن خلال فترة الملك من بناء علاقة جيدة مع كبار العائلة الحاكمة منهم الأمير فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله.
وأشير هنا إلى أن بداية الإنسان العملية تبدأ تدريجياً في العمل ولو كان هذا العمل صغيراً ومتواضعاً، ولا يعد ذلك من العيب، فإذا كان هو قد باع الشوربة وحمل الأمتعة وركب الدواب وحمل الحجر، وإذا كان الراجحي صاحب المصارف المالية قد عمل طباخاً وباع العملة على الأرصفة، وعمل سالم بن محفوظ مؤسسة البنك الأهلي التجاري (صبياً) في دكان من دكان مكة، وعمل أحمد باقدو صاحب المستشفى (معاوناً) في سيارات الأجرة بالمدينة المنورة، وعمل غيرهم الكثير..
إذا كانت هذه بداياتهم فقد سبقهم إلى مثل ذلك ـ ولا مقارنة ـ من هو خير منهم وخير الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد رعى الغنم في ذراري بني سعد بمكة، وعمل في تجارة السيدة خديجة رضي الله عنها، وحمل الحجر في بناء مسجده بالمدينة المنورة، وركب الحمار تواضعاً منه ورفقاً بالحيوان. وهناك نماذج من سير الأعلام الكبار الذين تغلبوا على داء الكبر والإعجاب بالنفس والنكران للجميل.
أما بداية قصة المعلم محمد عوض بن لادن يرحمه الله في الأعمال البنائية أيضاً إلى عام 1931م كانت إبان السنوات الأولى من حكم الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله للمملكة العربية السعودية حين أسس المؤسسة التي حملت اسمه كشركة متخصصة في مجال المقاولات العامة. وقبل أن يتولى مهمة بناء المنشآت الحكومية، كان قد زاول مهنة البناء منذ الصغر في مباني بعض أهالي مدينة جدة، حيث كان من مقاولي الحجر في مكة وجدة يوم كانت وسائل النقل آنذاك بدائية متمثلة في الإبل والحمير والبغال، ولم تكن السيارات الناقلات الكبيرة قد وفدت إلى المملكة، وقبل أن يخرج بها المعلم بن لادن لاحقاً مستخدماً لها في نقل المواد إلى مكان العمل، ومستعيناً بها على تشييد البناء.
كما كان يقوم في الأعمال الإنشائية بما يسمى بـ( البعاج) الذي اشتهر به في أوج الصنعة المعمارية، بجدة حتى سنة 1360هـ. حينما كان في حارة العمّارية. والبعاج: نوع من المصطلحات أو التعريفات الخاصة بحالة البناء الذي يبدو عليه عوج أو ميل أو خروج عن البناء المعتدل ويطلقون عليه أيضاً (البعجة والتبعيج) أو يقولون كرش أي خرج عن الميزان. وكانت تتم عملية إصلاح (البَعْجَة) ورد البنيان إلى قوامه عن طريق تعليق السقف بالخشب (المرابيع) أو بعيدان (القندل) مسندة بأخشاب السقف لتحمله وتثبت عليها. ليترفع معلقاً على السقالة إلى أن يتم ترميم وإصلاح ما تلف أو تهدم منه، وكل ذلك يتم وقواعد البيت قائمة على أصولها دون أن تتزحزح شبراً واحدا، وهناك عبارة على لسان الحجارة تقول: (شيليني أبغى أتكي عليك). هكذا كانت فكرة أولئك المعلمين في تقويم البعاج وترميم البناء دون هدم أساسه أو تغير بنيه وتركيبته التراثية الأصيلة المتماسكة والمنقوشة بعبق الزمان.
وعندما اشتد عوده سافر إلى الظهران للعمل في شركة أرامكو في بعض أعمال المباني، وبعد النجاح الذي حققه عاد إلى جدة باستدعاء من وزير المالية حينها الشيخ عبدالله السليمان الذي أمره ببناء بعض القصور الملكية بالخرج ثم أمره ببناء، قصر خزام الخاص بجلالة المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه مع عمل مزلقين لصعود ونزول سيارة جلالته وكان الأولان من نوعهما بالمملكة في ذلك الوقت. بعدها توالت له الأوامر الملكية بتنفيذ عدة مشاريع في منطقة مكة المكرمة، ومنطقة الرياض حيث كانت المباني باللبن وكذلك كامل القصور الملكية بحي المربع بالرياض خصوصا قصر الضيافة بالمربع، كما أنشأ طريق الرياض خريص، وطريق الرياض الدوادمي، بعد كل هذه الأعمال الجليلة والمتميزة والباقية حتى الآن أصدر جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز أمراً ملكياً بتوقيعه بمنح الشيخ المعلم محمد عوض بن لادن لقب المدير العام للإنشاءات والتعمير، وأبلغت بذلك جميع الدوائر الحكومية، كما نشر في الصحيفة الرسمية وباقي الصحف المحلية.
ونجاح المعلم معالي الشيخ محمد عوض بن لادن وبروز صنعته ونموها سبق ذلك مرحلة التطور أو مرحلة الطفرة الاقتصادية العمرانية التي شهدتها المملكة العربية السعودية،فكانت مساهمته بمقومات صنعته هذه نهضة حضارية بانتشار العمران الحديث،الذي شهدته في البداية منطقة الحجاز، ثم منطقة نجد.
لقد أدى الإصرار دوره على ركوب الصعاب والجهود الكبيرة التي عملت على تفعيل المخطط المعنوي والمعماري الذي شَيد به أروقة المسجد الحرام، ليحمل امتياز توسعة الملك عبدالعزيز الأولى للمسجد الحرام.
إلى أن جاءت توسعة الملك فهد ـ رحمه الله ـ التي نفذتها مجموعة بن لادن السعودية بقيادة نجله المهندس بكر بن محمد بن لادن الذي آلت إليه الآن إدارة والده المعمارية ليتوسع فيها بعزم على التمسك أولاً بصنعة الآباء، ثم على الإصغاء إلى ما توليه وتمليه حكومة خادم الحرمين الشريفين في سبيل خدمة الحرمين الشريفين.
وكل هذه التوسعات العظيمة عمّرت وشيدت بمواد البناء الحديثة ـ الحديد والأسمنت الأسود والأبيض والرخام والبلاط وغيرها من مواد البناء الحديثة التي جلبت من الخارج، هذا إلى جانب البناء الحجري العثماني القديم الذي أصرّ الملك فيصل ـ رحمه الله على بقائه، ويكون البناء الحديث حوله دون المساس بجزء من أجزاء البناء القديم.
ومن هنا أيضاً برزت هندسة وبراعة المعلم بن لادن سابقاً في سعيه لا يجاد ما يتناسب ويتناسق مع طراز العمارة القديمة التراثية للمسجد الحرام، بحيث لا يبدو بناءً لا يمت إلى الأصالة والعراقة المعمارية بصلة.
وكذلك هو الحال بالنسبة إلى توسعة المسجد النبوي الشريف الأولى في عهد الملك عبدالعزيز وما تم لاحقاً ـ من توسعة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز ـ رحمه الله. وأعمال معالي الشيخ محمد بن لادن المعمارية والهندسية في بناية الحرمين الشريفين توقفنا أيضاً على منشآت الطرق كـ(الكر والهدا)، الطريق الذي كان شبه معجزة في أذهان الناس، ولكن الاستعانة بالله والعزيمة وإعمال الفكر والاستفادة من الخبرات المحلية والخارجية كانت بمثابة جزء من إنجاز هذه التحفة الجغرافية الجيولوجية الكبيرة في أجزاء جبال الكر.. ثم واصل إنجازاته الرائعة من مشاريع للطرق والمطارات أبرزها طريق الطائف أبها/ جيزان/ يمتد مسافة 750كم خلال أشدّ السلاسل الجبلية وعورة في العالم ونفذ عبر هذه السلاسل الجبلية الوعرة بعد نسف ملايين من الأمتار المكعبة من الصخور وأنشأ عشرات الجسور وشق أول نفق في المملكة.
وبحق إن جميع تلك الأعمال المعمارية التي شيدها المعلم بن لادن ومن ساهم معه في تلك الحقبة في كتشييد القصور الملكية والمباني والمنشآت الحكومية ذات الطرز المعمارية المميزة القديمة والحديثة، كانت بلا شك نقطة بداية وانطلاقة جبارة في انتشار رقعة البناء التراثي المعماري، سواء للقصور الملكية أو المنشآت الأخرى الحكومية والخاصة في مكة المكرمة والرياض وجدة وسائر مدن المملكة الرئيسة.
بن لادن في أهازيج أهل الحارة:
لقد ذاع وشاع من صيت المعلم محمد بن لادن آنذاك المدى الاقتصادي والجغرافي والاجتماعي وكان من نصيبه لدى المطاليق من رجال الحارة أن ألفوا عنه مقطوعات وأهازيج رددوها في ألعاب المزمار والقشاع في أحواش وبرحات الحارة متضمنة بعض صفاته وأعماله المهنية الفريدة، وإنجازاته المميزة، منوهين بها نجاحه واجتيازه العقبات والصعاب، وهي:
(إيه يا بن لادن .. تبع الفن
معلم وتاجر .. تبع الفن
لا بس مناظر .. تبع الفن
شغله على القِدة ..تبع الفن
ما سك طريق جدة .. تبع الفن
إيه يا بن لادن .. تبع الفن)
في عام 1387هـ الموافق1967م توفي معالي الشيخ محمد بن عوض بن لادن أثناء قيامه بالإشراف على أعماله في جنوب المملكة. وقيل: سنة 1970م في حادث سقوط طائرة يقال أنه كان يتفقد فيها مشروع طريق الهدا المشهور. وهاهو اليوم يعيد التاريخ نفسه بشاهد آخر هو ابن شاهد وشهيد صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة، هاهو يُعلن تجديد الطريق كتوسعة ثانية مزدوجة للطريق من تنفيذ مجموعة بن لادن بعد البناء الأساس الأول في عهد مؤسسها الأول الذي ساهم في القضاء على كثير من المعاناة التي كانت تواجه كثيراً من المارة والمصطافين القاصدين أجواء الهدا ونسمائه العليلة. إنه المعلم محمد عوض بن لادن تحفة المعلمين والمقاولين في الأعمال البنائية في تاريخ المملكة العربية السعودية، بما شيده من أعمال بنائية، وما تركه من ثروة بشرية متمثلة في أبنائه الذين ارتقوا (سقالة) والدهم للبناء للوطن .. ليبقى ذلك شاهداً للتاريخ.
المصدر / جريدة المدينة 15/7/1430هـ لـ عبدالله ابكر
0 تعليقات