جبل المطابخ
تقع مدينة مكة المكرمة في المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية، وهي منطقة يعرّفها الجولوجيون بالدرع العربي ، وهي من أقدم التكوينات الجولوجية في المنطقة، حيث تسود صخور الجرانيت فيها. وقد أشارت دراسة لدار الهندسة للتصميم والاستشارات الفنية أجريت في منطقة منى أن الصخر المكشوف في المنطقة في غالبيته جرانيت وجراندورايت ودايورايت. وهذه الأنواع من الصخور هي الغالبة في طبيعة أراضي مكة المكرمة.
الباحث المعروف الدكتور عبد الله بن صالح الرقيبة في رسالة هامة قدمها لنيل شهادة الماجستير بعنوان (الحج إلى مكة المكرمة: دراسة جغرافية لمنطقة الحج وأعداد الحجاج) ينقل عن عبد الرحمن صادق الشريف في كتابه (جغرافية المملكة العربية السعودية) قوله: إن مكة المكرمة « تقع وسط تلال صخرية تسمى بالجبال الساحلية هي جزء من الدرع العربي، وهذه الجبال عبارة عن جبال وتلال متقطعة توازي في امتدادها السهل الساحلي. وقد نتجت عن عملية انهدام أحدثت حفرة البحر الأحمر؛ ولذلك كانت تضاريسها معقدة، فهي تتكون من مجموعات من النجود المرتفعة إلى جوار أغوار عميقة، تحولت بفعل عوامل التعرية الى كتل جبلية وتلال مختلفة الأشكال، وقد شغلت الوديان تلك الاغوار وزادت من تعقيد سطحها، ولذلك تتسم بالقمم الحادة والوديان الفسيحة العميقة، ويختلف ارتفاع الجبال اختلافاً كبيراً». ويفسر الرقيبة ذلك بأن معناه « أن المنطقة تتميز بتعقد السطح، فإلى جانب المرتفعات والتلال الصخرية ذات الانحدارات الشديدة، نجد الوديان والأغوار الضيقة بين هذه المرتفعات والتلال»
ويذكر الرقيبة أن مستوى سطح مدينة مكة المكرمة يتراوح بوجه عام بين « 240 م فوق مستوى سطح البحر عند نهاية وادي إبراهيم من الجنوب و 919م عند قمة جبل الأحدب شمال مزدلفة والى الشرق من مدينة مكة المكرمة «. ويضيف إن المسجد الحرام « يقع على ارتفاع 277م عن مستوى سطح البحر... والخرائط الطبوغرافية تبين أن أهم المظاهر التضاريسية في هذه المنطقة هى التلال الجبلية النارية، والوديان والشعاب التي تتخللها، والتي تنحدر نحو الغرب والجنوب الغربي»
ومن هذه الجبال ما يقع حول الحرم المكي الشريف، منها جبل قعيقعان المشهور، والذي يواجه جبل أبي قبيس ، ويفصل بينهما وادي إبراهيم. وقعيقعان هو جزء من سلسلة تلال متشابكة معروفة بأسماء متعددة حسب الموقع المعين، منها جبل هندي، ويصل ارتفاعه (كما يذكر الرقيبة) إلى 427م، وينحدر انحداراً حادا نحو الشرق والجنوب الشرقي والغرب وعلى معظم سفوح هذه التلال قامت أحياء سكنية مكية. ويسمى طرف قعيقعان المشرف على حارة الباب جبل المطابخ
قد يظن القارئ من الوهلة الأولى أن تسمية هذا الجبل بهذا الاسم ربما هي تسمية حديثة العهد، لأن كلمة مطبخ تعني مكان إعداد الطبخ؛ بينما الواقع ان هذا الجبل عرف بهذا الاسم منذ مئات السنين. ولقد ورد ذكر جبل المطابخ في العديد من مصادر التاريخ المتقدمة والمتأخرة
فقد ذكر أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي، من علماء القرن الثالث الهجري، في أحد أهم وأقدم المصادر (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) عن جبل المطابخ ما ننقله هنا بتصرف:
«المطابخ : شعب ابن عامر كله يقال له : المطابخ، كانت فيه مطابخ تُبّع حين جاء مكة، وكسا الكعبة، ونحر البدن، فسمي المطابخ، ويقال : بل نحر فيه مضاض بن عمرو الجرهمي وجمع الناس به حين غلبوا قطورا، فسمي المطابخ»
كما جاء ذكر جبل المطابخ في مصدر مهم آخر من المصادر المتقدمة لأحد علماء القرن الثالث الهجري، هو أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن العباس الفاكهي المكي، في كتابه المشهور (أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه)، والذي قام معالي الدكتور عبد الملك بن دهيش – جزاه الله خيراً – بتحقيقه
يقول الفاكهي – رحمه الله – المطابخ : «شعب عبد الله بن عامر كله يقال لـه : المطابخ. سمي بذلك لتُبّع، لما قدم مكة طبخ فيه ونحر».
أشار الفاكهي في موضع آخر من كتابه إلى الشعب التي كانت في أسفل الجبل، والتي تسمى (شعب المطابخ) في قوله: «لآل سمرة بن خبيب دار بأسفل مكة، ولهم دور عبد الله بن عامر التي في الشعب، التي يقال لها شعب المطابخ». الدكتور عبدالملك بن دهيش فرّق في هامش تحقيقه لكتاب الفاكهي بين (شعب عامر) و(شعب بني عامر). وخالف البعض في هذه التسمية بقوله: «إن اللوحات التي علقت على بعض جدران بيوته كتب عليها (شعب بني عامر)، وهذا خطأ، فبنو عامر بن كعب بن لؤي ما كانت هذه منازلهم». ويتفق هذا الرئي مع ما ذكره الشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي - رحمه الله - في كتابه (مكة المكرمة في شذرات الذهب) في قوله: شعب (عامر) وذلك لأن منزل عامر والد عبد الله بن عامر، صاحب الولايات في العهد الأموي، كان فيه؛ بينما (شعب بني عامر) سميت بذلك لأن منازل بني عامر بن لؤي من القرشيين كانت فيه، والتي يُطلق عليها شعب ( المطابخ) لأن تُبّع عندما قدم مكة طبخ فيه.
جاء في (معجم البلدان) لصاحبه شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي (المتوفى سنة 626هـ) أن المطابخ : موضع في مكة مذكور في قصة تُبّع وينقل ياقوت قول بعضهم:
أطوف بالمطابخ كل يوم
مخافة أن يشردني حكيم
ويذكر ياقوت أنه يريد حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور. وقد ذكر الأزرقي أن قريش كانت قد أمرت حكيماً هذا على سقائها، وأن من قال ذلك البيت هو الحارث بن أمية الأصغر
ويقول البلادي أنه « يعني حكيم ابن أمية السلمي» الذي كانت قريش قد أمرته على سقائها.
ورد ذكر جبل المطابخ أيضاً في أحد المصادر المتأخرة المهمة، (أودية مكة المكرمة) للعلاّمة المعاصر الشيخ عاتق بن غيث البلادي، إذ قال: إن جبل المطابخ: كجمع مطبخ : هو أحد متون جبل قعيقعان المشرفة على حارة الباب من الشمال. وفي موضع آخر يقول البلادي: إن طرف جبل قعيقعان المشرف على حارة الباب يسمى جبل المطابخ. وفي كتابه الموسوم بـ ( معالم مكة التاريخية والأثرية ) توسع في ذكر جبل المطابخ ما ننقل منه هنا بتصرف :
المطابخ: بمكة بجنب حارة الباب جبل يسمى جبل المطابخ , وهو أحد نعوف قعقيعان الجنوبية. والمتقدمون قالوا : سمي بذلك لأن تُبّعا هم بهدم البيت الحرام ، فسقم. فنذر إن شفاه الله أن ينحر ألف بدنة، فعوفي، فوفى بما نذر؛ وجعلت المطابخ هناك, ثم أطعم الناس.
وبيّن البلادي أن بمكة أماكن أخرى تسمى المطباخ، إذ نقل عن الأزرقي قوله عن خبر قتال جرهم وقطوراء: « إن القوم تداعوا للصلح، فساروا حتى نزلوا المطابخ ، شعباً بأعلى مكة، يقال له شعب عبد الله بن عامر بن كريز. ونحر مضاض بن عمرو – ملك جرهم – للناس وطبخ فسمي المطابخ. وأضاف البلادي أن هذا الموضع: «يعرف اليوم بشعب عامر».
هذا هو جبل المطابخ أحد جبال مكة المكرمة الذي يعدّ تاريخه جزء من ذاكرة تاريخ البلد الحرام. وهو معلم من معالم هذه المدينة المقدسة، وقصته تحكي جزئاً من تاريخ وطننا الحبيب المملكة العربية السعودية .
المصدر : جريدة المدينة 22 شوال 1429 هـ - الأربعاء . بقلم د.عدنان عبدالبديع اليافي .
0 تعليقات