المجس الحجازي

 

الجسيس في العرف الحجازي هو شخص ذو صوت ندي جميل يقوم بالغناء في المناسبات والحفلات، كما يقوم بإلقاء كلمات معينة للاحتفال بالعريس في حفل خطوبته، وهو في المناسبات الدينية حاضر دائماً ليلقي أجمل القصائد والابتهالات والأدعية بصوت ندي، هذا التقليد التراثي العريق عاد مرة أخرى لا ليزين مناسبات الأفراح والمناسبات الخاصة فقط، ولكن ليصبح ركناً أساسياً في جمالية المناسبات العامة وفعاليات القطاع الخاص المختلفة مستفيداً من عودة الناشئة وصغار السن إلى التراث الحجازي بقوة.

ويعرف الجسيس بأنه بحسب الجسيس عبد العزيز بخاري «المنشد الذي كان يؤدي أناشيد الزيارة للمدينة المنورة، أو الذي يقوم بالإنشاء في المولد النبوي، أو منشد الأعراس والتي تسمى بعقود القران والتي تسمى (بالمِلكة الشِهري) والمأخوذة من الإشهار حيث يقوم فيها الجسِّيس بمديح العروسين والدعاء لهما في ليلة عقد القران أو ليلة الزواج وهذا هو المعنى المتعارف عليه لكلمة «جسَّاس/ جسِّيس».

ويختار الجسيس عادة قصائد رقيقة وسهلة ذات معانٍ لطيفة تأسر القلوب ليخطف الأنظار ويعلق أسماع وأفئدة الحاضرين معه في الهواء وهو يصدح بها، ومن أشهر هذا القصائد في مناسبات الموالد والمدائح النبوية مجس يقول «بلغ العلا بكماله كشف الدجى بجماله ** حسنت كل خصاله صلو عليه وعلى آله ** لساني يمجدك يا رسول الله وقلبي يحبك** ومـا رأت عـيـنـي مـلـيحـا سـواكــا** فقت يا طه كل الأنبياء فسبحان الذي سواكا. وإذا كانت المدائح النبوية هي البداية المفضلة والمعتمدة لدى كل الجسيسين في كل المناسبات فإن اختيار القصائد التي تليها تمليه طبيعة المناسبة.

ومن المجسات الرائجة في حفلات الزواج والأعراس مجس حجازي يقول «على بركات الله فليدرك القصد ** ويهناك يا عريس أن زفك السعد** إلى الدين والدنيا وبالعز والمنى** تسير وبالأفراح يدرؤك المجد** ومن حولك الأهل والأصحاب كلهم** على سنة الرحمن جمعهم وعدو** أيا دلنا من آل العروس** لأصهارهم بالوصل ظللها الورد** وللسنة الغراء يا آل العريس** سيتم وبالإيجاب كان لكم ردو** فشكرا لمن وافا وشكرا لمن اتى** وأوقاتكم بالبشر والسعد تمتدو** وصلو على المختار ما لاح بارق** وما هلت الجوزاء أو أينع الوردو.

الجسيس مختار السيد،37 عاماً، بدأ بممارسة الفلكلور الحجازي منذ سن صغيرة جداً يقول «منذ كنت في الخامسة وأنا استمع كثيراً وألقي القصائد والمجسات أحياناً، وكان إلقائي ركيكاً في البداية لكنه تطور وأول مناسبة ألقيت فيها بحضور رسمي كانت في سن الثالثة عشر، ويؤكد السيد بأنه لم يواجه أي معارضة من قبل ذويه رغم عزمه التخصص في هذا الفن والتفرغ له بالدراسة والعمل منذ وقت مبكر، ربما لأن الجسيس أصلا شخصية محترمة من جميع طبقات المجتمع.

ويقول السيد بأن الجذر اللغوي لمفردة الجسيس وهو من جس يجس نبضاً، يشي بطبيعة عمله التي تقضي أن يعالج أرواح الناس وينثر الفرح والبهجة والسرور فيها عن طريق الأبيات الجميلة، التي تمس الروح وتسمو بها، ويضيف هي مهنة ليست متوارثة مثل الأذان مثلاً ربما لأنها تعتمد على حلاوة الصوت أصلاً وهي ليست متوارثة بالضرورة.

ويتحدث السيد بشغف كبير يشاركه فيه معظم الجسيسين الشبان الناشئين عن معلميهم الكبار فيقول «استمعت إلى أساطين فن المجس في مكة مثل عبد العزيز محضر ومحمد أمان، وعم عبد الله شرف وغيرهم، ودرست لدى الموسيقار غازي علي أيضاً، وتعلمت فن المقام، وأردت التمكن منه في البداية لأن مقام الحجاز ليس خاص بالحجازيين فقط، ولكن لهم نكهة خاصة يقومون بتركيبها على هذا المقام».

ويبرر السيد العودة القوية للفلكلور الحجازي والفنون الشعبية بين الشبان بشكل خاص بجمالية هذا الفن وعمقه ويضيف «عندما أستمع إلى الفلكور أحس بأنه يخصني وأحس أنه لغة الأنسب للتعبير عن فرحي أشعر بالانتماء والرابط بين المناسبة وبين الفن المقدم فيها، ولهذا أحاول تطعيم القصائد بكلمات تراثية، وأحاول جذب الشبان إلى هذا التراث الجميل«.

ويشير السيد إلى أنه قبل 5 سنوات فقط كان يتفاوض غالباً مع الأب أو أحد كبار السن في العائلة بشأن أحياء ملكة أو عرس، لكنه الآن يتفاوض مع العريس الشاب بنفسه وهو في الغالب بين الـ20 والـ25 ويطلب أشياء معينة، ويطلب قصائد خاصة أو فنونا شعبية أخرى تقدم خلال السهرة مثل فن المزمار أو فن الدانة وغيرها من الفنون الشعبية، ومن اللطيف أن الجسيس عادة لا يشترط تسعيرة معينة لإحياء المناسبة لكنه يبقي باب التفاوض مفتوحاً وهو مستعد لتقدير كل حالة ومراعاتها إذا استدعى الأمر فهو ملتزم بمهنته الأساسية وهي ترقيق القلوب ونشر الفرح والتسامح والاستمتاع بالفن الأصيل فيها.

الانتعاشة التي أحدثها ازدياد الطلب على الفنون الشعبية ساهم في زيادة أعداد الفرق المتخصصة في هذه الفنون وفي إحياء الليالي، وباتت تتنافس عن طريق أشرطة الكاسيت إلى جانب حفلات الأعراس والمناسبات العامة والخاصة على حد سواء، ويقول السيد بأن هناك سوق كبيرة وطلب عالٍ على جلسات الجسيسين وهناك فرق ناجحة جداً، وإن كان هو شخصياً ليست لديه فرقة خاصة أو محل معللاً ذلك بأنه عضو في جمعية الثقافة والفنون ولم يدخل إلى المجال التجاري بقوة وليس راغباً بذلك لأن مثله الأعلى محمد أمان والجسيسين الكبار اللذين لم يكن لديهم أبدا شركات خاصة. ويبدأ الجسيس عادة بالتحضر للمناسبة عن طريق تحضير القصائد الشعرية التي سيلقيها، وهي إما قصائد قديمة لكبار الشعراء، أو قصائد خاصة تكتب للمناسبة وإن كانت إحدى مشكلات سوق الغناء الحجازي الشعبي الأكثر حداثة هي عدم وجود شعراء شبان قادرين على إنتاج قصائد ذات المفردة الرقيقة المعبرة والمحتوية على أحرف المد التي يحتاج إليها الجسيس، وهو ما يدفع بعض الجسيسين إلى الاعتماد على أنفسهم في كتابة القصائد.

ويحرص معظم الجسيسين على ارتداء الزي الشعبي وهو عبارة عن عمة الغبانة والكوفية الصندقة، والصديري، والشال الذي يوضع على الكتف، وبهذا المظهر التراثي يستكمل الجسيس حلته ليبهر الحاضرين بقوة وطلاقة لسانه وحلاوة صوته.

ولم تعد تقتصر المناسبات التي يحييها الجسيس على الملك والأفراح والجلسات الدينية، لكنها تعدتها لتشمل الإعلانات التجارية، وافتتاح المراكز التجارية والفعاليات الوطنية والاجتماعية، وفعاليات القطاع الخاص، والمهرجانات العامة، والمراكز الترفيهية.

ويقول الجسيس مختار السيد بأنه من خلال هذا التواجد المكثف يحاول إيصال هذا الفن والفلكلور إلى الأطفال والشبان والناشئة من خلال التواجد خلال في الأماكن العامة، وهو يتمنى أن يجد الدعم لإظهار هذا الفن التراثي الجميل للناس، ويعتب على أبناء مكة لابتعادهم عن فنهم الأصيل. ويأمل السيد أن يجد يداً تعينه هو وعدد من زملائه في إنجاح مشروعهم الخاص بتوثيق التراث المكي، خاصة من قبل أبناء مكة وفنانيها الكبار، مشيراً إلى أن الإذاعة السعودية وإذاعة البرنامج الثاني بشكل خاص هي آخر حصون وقلاع المحافظة على هذا الفلكلور الجميل الذي يخشى عليه من الضياع أو الاستغلال لأهداف تجارية محضة.

أما الجسيس مصطفى جستنية الذي يتابع دراسته الجامعية إلى جانب هوايته في «الجس»، فيؤكد أن الجسيس هو إنسان موهوب بداية يتعلم شيئاً فشيئاً وبدافع المحبة الخالصة كيف يلقي ويمسك زمام الأمور في الليالي الكبيرة والمناسبات الهامة، على الرغم من أن هذه الهواية لا تصلح لتكون مهنة للكسب وإن كانت هواية متجذرة في نفوس كل الجسيسين.

وتتشابه خطوات الجسيسين كثيراً، فهم دائماً موهوبون بجمال ونقاوة وحلاوة الصوت، وغالباً ما تكون لديهم أذناً حساسة وذاكرة تعشق السماع وتقتات بسماع إلقاء كبار الجسيسين رغم سنوات عمرهم القليلة، وأحياناً تكون لديهم المقدرة لكتابة القصائد المرهفة، وأخيراً لديهم متسع من الوقت ومن المناسبات السعيدة في العائلة والمعارف لاختبار قدراتهم على الإلقاء والطرب كما يقول جستنية، وهم وإن طالتهم عداوة الكار أحياناً إلا أنهم متفقون على حب هذا الفلكلور وتقديره حق قدره.

المصدر : جريدة الشرق الاوسط الخميـس 14 جمـادى الثانى 1429 هـ - منال حميدان .