د.حسن باجودة أنتظر خاتمتي على ظهر كتاب .. وسري مدفون تحت إرث زوجتي
يعرف الكثيرون الدكتور حسن باجودة أستاذ علم البيان وحافظ القرآن وصاحب أطول قصيدة نبوية في التاريخ إلا من خلال ترؤسه للجنة تحكيم مسابقة القرآن الدولية لمدة نصف قرن، حيث اعتزل بعدها منكبا في بيته على الكتابة والتأليف ليفاجئني بأكثر من 150 كتابا ودراسة ومخطوطة.. الرجل الذي عاصر بدايات جامعة أم القرى وعاش سنوات عراك كلية الشريعة ما بين المجددين والمحافظين، ظل يمسك بالعصا من الوسط فخرج من الجامعة متقاعدا وعاد لها في نفس اليوم متعاقدا إلى الآن رغم بلوغه الثالثة والسبعين من العمر.. تحدث لي بشفافية رغم زهده في وسائل الإعلام فكشف عن حقيقة أمواله وقال إن سره مدفون تحت إرث زوجته، وأنكر اتهامات التشدد في شريعة أم القرى كما دافع عن موقف الرافضين لقضية الحفاظ على الآثار، وقال بصراحة إن عدم منح سعيد السريحي درجة الدكتوراة كان موقفا من منهج الحداثة وليس منه كشخص.. حوار قال فيه د. باجودة ما لم يقله من قبل مبتدئا بأيام طفولته وتكوين شخصيته في زقاق المهراس:
ولدت في قلب مدينة الطائف في صيف عام 1360هـ وعشت في أهنأ أسرة، وما أن وصلت إلى الخامسة من عمري حتى فجعت بوفاة أمي ــ رحمها الله ــ
فانتقلت إلى مكة المكرمة لأعيش سنوات طفولتي الأولى في منزل والدي ــ رحمه الله ــ في أجياد أمام بازان برحة الطفران على يمين الصاعد إلى السد، وشاء الله أن توجد على بعد مائة متر من المنزل مدرسة السعدية الابتدائية الأهلية التي التحقت بها لندرس فترتين كل يوم مفترشين البسط فقضيت فيها سنتين وجزءا من السنة الثالثة، ثم انتقلت بنصيحة أحد زملائي إلى المدرسة المنصورية الحكومية الفخمة المجاورة للحرم أمام باب علي، ولحرص والدي على قبولي فيها فقد طلب مني أن أحفظ جميع مواد السنة الثالثة غيبا ليختبرني فيها قبل ذهابي للمدرسة الجديدة، وتم قبولي دون اختبار من الأستاذ الفاضل عبدالله مرداد (رحمه الله)، وجاء التحاقي بالمعهد العلمي السعودي ليكون نقطة تحول في حياتي لنوعية الأساتذة الذين تولوا تدريسنا، فوجهونا وجهة صحيحة حببت إلى نفسي اللغة العربية فابتعثت إلى القاهرة كواحد من الخمسة الأوائل، والطريف أن مسؤولي الجوازات رفضوا في البداية منحي جواز سفر لصغر سني، ولكن سويت الأمور بجهد الطيبين، وهناك كانت انطلاقتي من كلية اللغة العربية في جامعة القاهرة ثم اتجهت لإكمال دراساتي العليا في مركز الدراسات العربية والأفريقية في لندن. والغريب أيضا أنني حفظت القرآن في بريطانيا خلال بعثتي التي استمرت ثلاث سنوات، ولم أحفظه في مكة المكرمة، فقد حاولت مع زميل لي في الحرم بباعث شخصي أن نحفظ من العصر للمغرب بدون تجويد ولكن همتنا فترت بعد أسبوع، وفي تلك الفترة لم تكن حلقات القرآن موجودة في الحرم عام 1373هـ .وعندما وصلت إلى لندن وجدت أن الذين يؤموننا في الصلوات من الشبان المجودين للقرآن من غير العرب، فكان باعثا لي للتعاون مع شيخين جليلين في المركز الإسلامي في لندن هما الشيخ عبدالجليل شلبي مدير المركز (رحمه الله) والدكتور محمد الجيوشي الذي تولى عمادة كلية الدعوة مرات عدة في جامعة الأزهر، وعندما كتبت تأملاتي كانت الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم هي التي تشغلني ولم نكن نلتفت لها كمسلمين كثقل، ولكن عندما جاءت من آخرين هاجموا القرآن الكريم ونفوا عنه وجود الوحدة الموضوعية فقرأت في المسرح العالمي كامل أعمال شكسبير وبرنارد شو وسواهم لكي أكتشف الثغرات التي لا يستطيع البشر أن يملأوها ثم أبحث في القرآن الكريم، فأجد أنه ليس هناك شيء مما يقال، ويبدو أننا بحاجة دائما إلى المواقف التي تعيدنا إلى حفظ وفهم كتابنا الكريم.
• كيف لك أن تكون مسؤولا عن أوقاف وأستاذا محاضرا متعاقدا بعد التقاعد ومشرفا على مسابقة دولية ورب أسرة وشاعرا بهذه الغزارة ومؤلفا بهذا الكم من الكتب؟
- أسأل الله أن تكون هذه بركة الوقت فأنا منظم جدا فبرنامجي يبدأ من الرابعة قبل الفجر إلى اليوم منذ 54 سنة خرجت فيها بهذه الحصيلة، ولا أنسى أن الله وضع لي البركة في زوجتي التي تولت كل شيء في البيت وأنا لكي لا أشغل وقتي لا أحمل الجوال نهائيا ولدي جدول لا يتغير. ومن الأمور التي يبتسم لها الإنسان ويقولها إن خمسة أساتذة في قسم اللغة العربية كانوا يدرسون كل علوم اللغة في كلية الشريعة فيما أدرس أنا عشر مواد وليس عشر ساعات، لأنني أريد وجه الله من وراء هذا العمل وفي تلك الفترة كانت مكتبتي أكبر من مكتبة كليتي الشريعة والتربية معا وكنت أعير الطلاب الكتب، وهذا المجلس في بيتي كان مليئا بالآلاف من الكتب لكنني تخلصت منها خوفا من سقوط البيت، فعبأتها في كثير من السيارات، وملأت بها معهد الدراسات القرآنية للبنات الذي نملكه أنا وزوجتي الدكتورة فاطمة رمضان، وبعثت بجزء كبير أيضا لمكتبة الجامعة وأرسلت جزءا منها إلى أفريقيا، وأبقيت ملء ثلاث غرف فقط منها وأزيدك من الشعر بيتا أنني أشرف على كل رسائل الماجستير والدكتوراة في الجامعة الوطنية في كامبيرا، فأنا أقول إنه الصدق مع الله وليس غير ذلك وأنا أنتظر خاتمتي مطمئنا ولو على ظهر كتاب.
• انطلقت فجأة كشاعر فصحى فما هي البواعث؟
- الشعر يأتيني ولا أستدعيه وهو تجربة شخصية خاصة بالإنسان قد يغيب عنك سنة وقد يأتيك في يوم أكثر من مرة، وكنت أنظمه وأنا طالب جامعي وبدأت في نشر مجموعة رباعيات في الصحف السعودية، لم يلحظها أحد بعد عودتي من بريطانيا، والشعر يجري في دمي فوالدي كان فنانا في كل مظاهر الجمال وقد أكون ورثت عنه شيئا من هذا. وهناك سر لا يعلمه الكثيرون حول بدايات كتابتي عن السيرة النبوية، فقد عكفت خمسة شهور أقرأ في السيرة النبوية من الصباح إلى المغرب دون أن أفكر أن أبحث أو أدون، ومر بي شيء يتعلق بواثلة بن الأصقع الذي روى حديثا ورد في صحيح مسلم في قول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله اصطفى كنانة من العرب وقريشا من كنانة وبني هاشم من كنانة واصطفاني من بني هاشم) فوجدت أن واثلة من الذين أسلموا والنبي يتهيأ إلى تبوك فشرح الله صدره فأتى للنبي وصلى معه الفجر، فالنبي بخلقه الكريم كان يصافح كل المصلين بعد الصلاة فرأى واثلة فقال له: من أنت، فأخبره بنفسه وكان من البكائين الذين لم يستطيعوا أن يذهبوا إلى تبوك (الأية) فأخذ يبكي وإذا بكعب ابن عجرة الذي نزلت فيه آيات سورة البقرة بشأن الأذى في الرأس يقول له: أنا أحملك، فقال له واثلة: وفي المقابل فأنا أعطيك كل ما يأتيني من غنائم، ولم يكن كعب يريد منه شيئا وإنما ليرفع عنه الحرج، فالنبي عليه السلام كان يعطي لكل اثنين في غزوة تبوك تمرة فكان كعب يؤثر واثلة فيعطيه النواة ليمصها طوال اليوم، فبعد نصر تبوك غنم كل واحد منهما ست نياق فنام كعب وإذا بواثلة يأتيه بعد الظهر يجر نياقه الست ليعطيها إياه على ضوء ما وعده به قبل الغزوة فقام كعب بضمه وقال له: كلنا فقير إلى الله وإنما أردت بكلامي أن أرفع عنك الحرج ورد إليه نياقه.. فهذا الموقف هزني من الداخل فكتبت قصيدة من أربعين بيتا في هذا الموقف، ثم كتبت أول رباعية، «وأسأل الله أن يبارك في العمر لأنظم في المختار عقدا من الزهر فإن غذاء الروح في سور الذكر وفي سيرة المختار تعبق كالزهر» ثم توالت الأبيات فكتبت 11760 بيتا في 38 قصيدة وختمتها برباعية «يكون إلهي قد أجاب دعائي لأنظم في الهادي عقود ثنائي وما كتبت تلك العقود بماء ولا بدموع العين بل بدمائي» ثم توالت بعد ذلك فكتبت البكرية والعمرية والعثمانية والعلوية والمصعبية والرواحية والخالدية إضافة إلى إنتاجي النثري الذي وصل إلى أكثر من 50 ألف صفحة. ولا أخفيك أنني عانيت في بداية الأمر من عدم وجود جهة تحمل عني عبء تكاليف الطباعة فعبرت عن معاناتي شاكيا لزوجتي أم عبدالرحمن في هذه الرباعية قائلا:
وأكتم حبوب الفؤاد مسرتي
لطبع كتاب أنه شر ضرة
ولست ألوم اليوم أكرم حرة
فقد زهدت في العلم أكرم أمة
ولماذا لا تكتب إلا بالفصيح؟
- لا أعترف إلا به وما عداه كلام فارغ وللعلم فأنا أكتب بخط يدي كل شيء وأستخدم الكمبيوتر في التوثيق فقط.
• لكنك تبحر وتطيل في النظم؟
- أنا أكتب أحداثا من وجهة نظري كشاعر فلا رقيب علي ولا ينبغي أن أحاسب على خلاف لو كنت مؤرخا أومحققا.
لماذا تخصصت في اللغة العربية تحديدا؟
- لأنني درست على يد فحول أساتذة اللغة العربية والتفسير والحديث في مكة المكرمة في المعهد العلمي فاحتككنا بهم وكان لهم أثر فينا، وحينما ذهبت إلى جامعة القاهرة حصلت على تقدير جيد جدا مع مرتبة الشرف ولم يحصل على هذا التقدير سوى ثلاثة طلاب هم طبيب وتولى إدارة مستشفى العيون في الرياض وآخر في الحقوق وأصبح وزير دولة وحسن باجودة.
لم تتأثر بمرحلة الزخم الثقافي في مصر الستينيات؟
- هناك فرق بين أن أتأثر بالفحول وبين أن أنجرف في أوحال الحقول. وإذا نظرنا بكل أسى إلى أعلامنا ــ ولا أريد أن أسمي ــ فالقليل منهم الذين نجوا، فمنهم من ألحد ثم عاد وآخر يعيش حياة أبي نواس وهكذا؛ فطه حسين في غنى مثلا عن آرائه التي ألحد فيها، وأرجو أن يكون قد تاب لأنه لا تزال آثاره في الشعر الجاهلي موجودة، وربما أنه قد تعجل الشهرة لكنه يظل شخصية عظيمة وأسلوبه في اللغة العربية في هذا العصر ليس له نظير، وفي شروحه للزوميات أثبت أنه ليس هناك شخص يفهم أبو العلاء المعري كما يفهمه طه حسين وليته أكمل شرح اللزوميات، وكذلك فلان وفلان فأين هي النقطة البيضاء؟!
لماذا تشددت في موقفك من القومية؟
- لأنها نعرة جاهلية وتدخل في باب (اتركوها فإنها نتنة)، وقل عنها: العنصرية أوالأشورية أوالفرعونية أوالفينيقية. والعرب ليس لهم قيمة إلا بالإسلام.
• لكن كثيرا من العرب ما زالوا يدندنون عليها؟
- يجب أن نفصل بين شيئين: العرب كقوم هم مادة الإسلام الأولى والله شرفهم ببعثة النبي محمد منهم والقرآن الكريم والسنة المطهرة وكل ما يبقي على هذا الكيان فنحن نقاتل عنه.
• البعض يقول إن كلية الشريعة التي كانت نواة التعليم العالي في المملكة اختطفت نحو التيار المتشدد؟
- عندما عينت معيدا في كلية التربية للغة العربية عام 1382هـ ثم عملت معيدا لمدة سنتين وسافرت إلى بريطانيا مع أن هنالك من سافر قبلي بسنة لكنني عدت قبل أسرع واحد بسنة، وفي هذا الوقت تحول القسم إلى كلية الشريعة وعينت رئيسا للقسم ومدرسا بقرار من الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ عام 1388هـ ، والحقيقة أنه ليس هناك أي تشدد مطلقا في الكلية وأنا لأول مرة أسمع هذا الكلام.
ومن الطلاب الذين درسوا عندي من كليات أخرى من عجب للانفتاح الفكري الموجود في الكلية وأي رأي لهم يقدر حتى لو خالفوني وكنت أشجع على هذا الأمر، ومن ألطف الأمور أن أحد طلابي واسمه محمد بن بشير الخارجي أخذ أحد دواويني التي جمعتها بعد ثلاثين سنة من أخذي للرسالة فقام بتحقيق الديوان بشكل أفضل مني فوجد ثلاثين بيتا قد سقطت مني في كتب لم تكن قد حققت، وهذا ما جعلني أطمئن إلى عمله فكنت أشجعه على أن يخالفني، لكن البعض قد يزيد في العيار أحيانا.
• الكثير قال إن الجامعة في فترة الدكتور راشد مالت إلى اليمين وفي فترة الدكتور سهيل قاضي مالت إلى أقصى اليسار؟
- يجب أن نفهم بأن لكل شخصية منهما رأيه وكل منهما وجه للدينار، والدكتور راشد عندما كنت أريد أن أناقش رسالة الدكتوراة جاء إلى لندن كي يدرس، فحملناه إلى كمبريدج لكي يبدأ فهو أخ حبيب وصديق ورجل فاضل وله وجهته وآراؤه التي كنت أتفق مع بعضها وأختلف مع الكثير منها معه ولا أزال، وكذلك مع الآخرين وعندما يكون الاختلاف في وجهات النظر فيجب أن نكون واسعي الأفق، فأنا أعطي لطلاب يخالفونني في الرأي نفس الدرجة كما لو كانوا يقولون برأيي لأنني أتفهم وجهة نظره المخالفة، ويجب أن نبني الشخصية التي تفكر ويجب أن نناقش أي نص ومن الجائز أن تجد النص في مائة مصدر لكن هذا لا يعني أنه نص صحيح وخاصة في تراثنا، رغم ما فيه من خير كثير إلا أن فيه هفوات، وأنا ليس من طبعي أن أشير لهذه الهفوات إلا على استحياء فيجب أن تكون لدينا أخلاق. وعندما كنت أتحدث في أستراليا عن إعجاز القرآن الكريم جاءني الدكتور محمد علي العريان مدير المؤتمر ــ رحمه الله ــ وهو رجل فاضل لا أدري كيف اتسعت له أستراليا ببحث الغرانيق فأعددت عليه دراسة وألحقتها بكتابي (تأملات في سورة الحاقة) وأطلعت عليها المستشرق فغير رأيه بعد أن تبين لي أنها واهية السند والمتن، فلم تأت بحديث صحيح وتصطدم بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم كما أن الزيادة في الآيات لا تنسجم موسيقيا وصوتيا مع سورة النجم من جميع النواحي، بل إن بعض هذه الزيادات شعر والله سبحانه وتعالى يقول: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) وهناك عشرة أسباب تقول إن هذا الكلام غير صحيح وجاءت فيه وموجودة في كثير من مصادرنا التي نثق فيها فهل هذا يفسد العمل الآخر. لا طبعا ولأجل هذا فأنا لم أشر في أعمالي إلى هذه الآراء ولكنني أضع البديل، والحال كذلك بالنسبة للمستشرقين فأنا لم أشر إلى رأي واحد منهم مع أنني أستضيفهم في مؤتمراتنا على حساب الرابطة وجامعة الملك عبدالعزيز لأسمع منهم وأعرف كيف يهاجمون الإسلام لأرد عليهم، وعندما أقرأ كتبهم لا أفهم ما وراء السطور لكن عندما يتكلم الإنسان فأنت لا تصغي فقط لما يقول وإنما تنظر إلى ملامحه فتستفيد أكثر مما تقرأ .
• ولهذا وقفت في موضوع رسالة الدكتور سعيد السريحي ضد أعضاء اللجنة؟
- هذه الرسالة طبعت في صورتها في المملكة فقبلت في مكان ولم تقبل في مكان آخر، وأنا أحترم الذين اعترضوا عليها وأعتقد أنهم أرادوا الوقوف أمام اتجاه وليس أمام فرد لكن أحيانا تظهر الأمور في صورة الفرد، ولا أستطيع أن أقول أن الابن سعيد ذهب ضحية هذا الاتجاه، ولكن قبل أن يبدأ الرسالة سعيد أصر على موضوع رسالته فأخبرته بأنه موضوع صعب وسألته عن الجديد الذي سيأتي به وقلت له: عليك أن تتحمل، ولعله يذكر هذا الكلام عندما التقينا في مدخل المبنى. والحقيقة أنه كان يريد أن يأتي بشيء جديد بخصوص مذهب الصنعة لأبي تمام وصادف حدوث نوع من الاختلاط بين هذه النية وبين الحداثة وبين انحراف الحداثة، ولو أننا فصلنا بين رغبة سعيد بشأن الجانب الجديد فهو أهل أن يأتي به، لكن الذي حصل أن موجة الهجوم على الحداثة كانت في أوجها وكان هو أحد أعلام هذا الاتجاه، وأنا لا أدافع عن شخص وإنما أدافع عن رسالة نوقشت وأجيزت وحذف منها كل ما يظن أنه مؤذ، ولكن للأسف طغى الجانب الآخر كما أن سعيد أيضا عنيد.
• هذا يعني أنك لست مع تيار الحداثة كمنهج؟
- مذهبي أن أقرأ كل شيء يمكن أن يرد في بالك سواء كان صحيحا أم غير ذلك وفي جميع الفنون لكنني لا أكتب إلا الشيء الذي أقتنع به. ولا أقتنع بأي شيء فيه تطرف أو تجاوز.
• هناك من يرى أن جامعة أم القرى من الجامعات التي استفادت من فضل الأزهر على التعليم وتضررت أيضا مما جاء به الإخوان؟
- الله سبحانه وتعالى يقول: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) والإسلام دين واحد في حالة قوة المسلمين وضعفهم وليس دينا انتهازيا، فحينما أكون ضعيفا أجاملك وحينما أكون قويا أغير مبادئي، والله يقول: (لا إكراه في الدين) فهذا مبدأ، ويقول: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين أو يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) فهذا مبدأ وكل ما يخص أهل الذمة فهي مبادئ لا تناقش، فلا ينبغي أن يتجاوز بعضنا تحت أي اسم وراية هذه القضايا. وفي الأندلس حيث تكون قرطبة التي تبعد ثماني ساعات بالجامبو نسخة من المدينة المنورة لأن الذين فتحوها من تابعي المدينة المنورة ومن أصحاب مذهب الإمام مالك وكل أعمال أهل قرطبة صورة طبق الأصل من أعمال أهل المدينة المنورة لدرجة أن سلوكهم حجة فقهية بالنسبة لعلماء الدول المجاورة خصوصا شمال أفريقيا، فأنا قلت عن قرطبة:
تكاد تسأل: هل أنتم مهاجرة أم أنكم لرسول الله أنصار؟
فعظمة هذا الدين هي السماحة والصدق، وأنا لا أسمي أحدا لأنهم كلهم على طريق صحيح لكن ينبغي تجاه أمور معينة أن نكون أمة وسطا، وإذا كان غوستاف لوبون يقول: «ليس هناك فاتحون أرحم من العرب» فمن باب أولى أن نكون رحماء بين بعضنا البعض.
• لماذا تركت مسابقة القرآن الكريم بعد 25 سنة؟
- هذه سنة الحياة وجزى الله المسؤولين أن صبروا علي لمدة ربع قرن من الزمن في تحكيم المسابقة.
• وكيف تقيم تجربتك فيها؟
- المسابقة حققت أهدافا أبعد مما كنا نخطط له ونتوقعه فمنذ إنشائها عام 1399هـ كمسابقة محلية ثم امتدادها لتكون دولية وهناك سيل من الطلاب الجدد كل عام، فالعالم كله يعمل من أجل هذه المسابقة التي بدأت من تونس كفكرة فتبناها قادة هذه البلاد. وهناك جانب خفي في المسابقة قل من يتقنه في الدنيا وهو الوقف والابتداء الذي يعتمد على التفسير وفهم اللغة وذوق القارئ، وكنا نعنى بهذا الجانب الذي يحدث الفارق بين المتسابقين كثيرا، وقد نتج من وراء ذلك أن دولا مثل بنغلاديش أقامت دورات لأئمة المساجد وأحسسنا بارتفاع مستوى طلبتهم في المسابقة.
• لك موقف من مطالبة البعض بالحفاظ على الآثار الاسلامية في بلادنا؟
- إذا نظرنا إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة ثم قارنا الإسلام بغيره من الديانات فبالنسبة للإسلام فالعبرة في العقيدة ولأجل هذا غطى المسجد النبوي الشريف في عهد الرسول مساحة أكبر من حجم المدينة وأكبر منها، ولا تتسع للمسلمين الذين يأتون ليعبدوا الله ويوحدونه. فمكة والمدينة على خلاف روما لأن الناس لا يقصدون الكنائس ولا يعرفونها في هذه الأمور وتعلقهم دائما في الأمور المحسوسة. ثم إن هناك أمورا متفق عليها لا يمكن أن تمس مثل مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، كما أن هناك أمورا خلافية يقارن بشأنها بين هذه الأماكن التي تتحول إلى مسجد وبين بقاء الأشياء التي قد تكون مضايقة، وهنالك مقولة تقول إن كثيرا من الدول الإسلامية مزاراتهم زاحمت مساجدهم ونحن أمة وسط فالأمور الثابتة لا نمسها وأهم شيء عندنا هذه العقيدة ولا قيمة للأمور الشكلية والبنائيات وهناك شيء أولى من شيء ومساجدنا لا ينبغي أن يزاحمها شيء وأن تكون هناك توعية لكي لا يقع المحظور.
• هل كنت مؤيدا لقرار ربط تخرج طلبة الدراسات العليا في جامعة أم القرى بحفظ سور البقرة وآل عمران والنساء والذي عارضه البعض؟
- نعم.. وهل هناك فضل أعظم من ذلك، لكن يمكن أن نتسامح مع طالب أعجمي فنساعده لكنها فكرة عظيمة ويجب أن نقوم عليها وأن نشجعها ونعممها على كل الجامعات.
• دكتور.. هل ما زلنا نواجه خطر الكتابة بالحروف اللاتينية؟
- طبعا، بدءا من الأرقام ومعذرة إن قلت إنني أقرأ في جريدتكم في تغطية وفاة الرجل الفاضل الدكتور غازي القصيبي ــ رحمه الله ــ كتابة التواريخ بالميلادي وهذا خطأ وهناك حروب توجه للأمة العربية والإسلامية كالأرنب الذي يحفر على بعد كيلو متر واحد من أجل أن يهوي البناء وهذا الذي يحدث فنحن نستعمل الآن الأرقام الهندية والتي استعرناها من الغرب الذي سماها العربية وكتبوها بطريقة تريحهم وجاءت إلينا فصدقنا أننا مفكرون وعباقرة والتاريخ الهجري مهدد الآن.
• وما هو دور مجمع اللغة العربية؟
- المجمع شخصية اعتبارية مفكرة وليس عنده أدوات التنفيذ.
ألسنا بحاجة إلى مجمع في المملكة؟
- نحن بحاجة إلى معهد لترجمة التراث ترجمة صحيحة إلى اللغة العربية لأنها لغة الخلود ولا تشيخ، وكمثال فعندما ترجمنا كتاب الشعر لأرسطو فقدت منه أجزاء ورغم ذلك أكمل وصوب بالترجمة العربية؛ لأن اللغات الأخرى سريعة الحياة والموت وهي أشبه بنهر قابل أن يوضع له سد وبقدر ما يأتي إلى هذه اللغات يذهب إلى النهر أوالمحيط أوالبحر، فاللغة الإنجليزية من سنوات لم تصل إلى مليون لفظة وهي تستعير من كل حدب وصوب في المقابل فاللغة العربية من القديم وهي ستة ملايين لفظة ولا تكاد تعرف موت الألفاظ.
هناك من وقف في جامعة أم القرى في فترات سابقة ضد تدريس اللغة الإنجليزية لدرجة أخذت تعهدات على بعض أعضاء هيئة التدريس؟
- الحالات الفردية لا تعنيني لأن تعلم اللغة الإنجليزية ضرورة ليس من أجل التباهي وإنما لتوظيفها لخدمة اللغة العربية.
• مع أن القرآن حافظ للغة العربية إلا أن المتخصصين يخطئون فيها؟
- اللغة العربية تعيش انفصاما نكدا عند دارسيها في جميع البلدان العربية وليس في المملكة تحديدا وآخر ما لاحظته قبل أيام عندما كنت في مصر وأنا أقرأ مجلة حورس مقالا صغيرا، فيه من الأخطاء وكأن اللغة العربية ليست لغتنا، أما الصحف والمجلات ففيها الكثير من الملاحظات ومنذ سنوات وأنا أقول إن اللغة العربية الفصحى بحاجة لمن يفجر عبقريتها فيبتسم الناس ولا نجد إلا الانحدار في كل شيء خصوصا الشعر.
• تقصد طغيان النبطي على الفصيح؟
- كان عندنا شعر لابن سما بالنبطي وكنت من المشجعين لطلابي على جمع هذه الدواوين وعندي مجموعة منها على أساس أنها ظاهرة يمكن أن ترقى إلى الفصحى لكن حدث العكس.
• هل توقفت عن إدارة مشاريع الأوقاف في مكة في ظل انشغالك بالكتابة الآن؟
- عندي مجموعة من الأوقاف وقد سلمت وقف أبانمي لخادم الحرمين الشريفين الملك فهد ــ رحمه الله ـ وكنت قد استلمته ودخله 15 ألف ريال فقط عام 1407هـ وعندما سلمته عام 1429هـ كان دخله أكثر من 15 مليون ريال وما زال معي أوقاف أخرى، والحقيقة أنني وفرت للأوقاف ملايين الريالات كانت تذهب في المصاريف الإدارية وتمكنت من بناء ناطحات سحاب في كل مكان والحمد لله أنني أنام قرير العين لأنني أخاف الله في كل حركاتي وسكناتي.
• وما هي قصة شكوى الأشراف؟
- هم أناس كرام وأفاضل ورأوا الخير، وكل واحد عندما يرى شيئا من أملاك جده فإنه يرغب في الإشراف عليه، وقد اشتريت لوقف أبانمي 100 ألف متر من المباني المسلحة واشتريت ما يزيد على 16500 متر في أحسن المواقع في مكة المكرمة، وكل هذا بمائة وخمسين مليون ريال، فيما أرض المعابدة لوحدها الآن تصل قيمتها إلى 200 مليون ريال فقط كأرض خام وأنا أحتسب كل هذا عند الله فهم أرادوا الوقف وأنا جاءني أمر بإمساك الوقف فراقبت الله فيه والبقية سلمته ونحن الآن حبايب والحمد لله.
• وهناك من يقول أيضا من أين له بهذا؟
- الله أكرمني بزوجة تحمل عني كل شيء ولا أستطيع أن أوفيها حقها فقد أعطتني كل ما ورثته من أبيها بدءا من هذا البيت الذي بنته وكتبت عليه اسمي في الخارج وكذلك معهد الدراسات القرآنية للبنات وأشياء أخرى فأنا لا أعرف مالي ولا هي تعرف ما لها ولا أحد يسأل منا عن ذلك.
عكاظ 10/9/1431هـ - حوار : بدر الغانمي
0 تعليقات