حمزة شحاتة قمة الحجاز الشعرية

لم يكد يصل إلى منتصف الثلاثينيات من عمره حتى قرر أن يهجر الشعر والأهل والأصدقاء والوطن ليعيش عزلة طالت، بحثا عن الكمال فيما يحب، إلى أن عاد أخيرا إلى الوطن جثمانا محمولا على أكتاف الأهل والأصدقاء، على هامش من شعره الذي ضمن له أن يبقى دائما قمة الحجاز الشعرية.

          إنه حمزة شحاتة، الشاعر الحجازي الذي ولد في مكة العام 1908م، (وفي روايات أخرى العام 1909، أو العام 1910، أوالعام1911م)، وتوفي في القاهرة العام 1972م، مكتفيا بالنصف الأول من عمره ميدانا لشعريته الفذة والتي جعلت منه أحد أهم الأسماء الشعرية في ديوان شعراء الجزيرة العربية في القرن العشرين. ولم يكن الشعر، على أهميته القصوى في رسم ملامح صورته النهائية لدى مريديه إلا جناح من أجنحة كثيرة حلق بواسطتها شحاتة في سماء الإبداع بقدرة وتميز وفرادة.

          وقد توالت شهادات عارفيه من المثقفين عنه بعد رحيله في كتب ومقالات ودراسات ظلت قاصرة - على الرغم من أهميتها- عن سبر غور ذلك الشاعر الذي بدا غريبا في وطنه ومهجره .. ليس على صعيد أفكاره وآرائه ورؤاه وحسب بل أيضا على صعيد تصرفاته التي يشهد على غرابتها إقدامه على حرق كل ما بقي بين يديه مما كتبه من شعر ونثر، واجتهاده لاحقا في منع نشر أي كلمة بقلمه، فقد وبخ ابنته التي خصها بمجموعة من الرسائل الشخصية عندما علم بنيتها في نشرها في كتاب. لكن الابنة التي لم تجرؤ على ذلك في حياته أرادت أن تساهم في تخليد اسم والدها المبدع بعد مماته بواسطة نشر تلك الرسائل، فتعرف القراء على قطع فنية إنسانية فريدة من نوعها في كتاب عنوانه «إلى ابنتي شيرين» وحسنا فعلت شيرين.

          نشأ حمزة شحاتة في حواري مدينة جدة يتيم الأب فتعلم في مدارس الفلاح النظامية، حيث لقي الدرس هوى عظيما في نفسه الطموح، فأقبل على مختلف القراءات مما ساهم في انفتاحه على الكثير من التيارات الفكرية التي كانت سائدة آنذاك وخصوصا التيارات التجديدية. لكن مدرسة شعراء المهجر كانت قد سحرته بأجوائها التي قادته إلى جبران خليل جبران، فأعجب به شاعرا مختلفا، ولعله أراد أن يكون كذلك من ذلك الحين. وسرعان ما تحققت إرادته فقد كان يشار له باعتباره أحد أهم شعراء الحجاز وهو في بداية العشرين من عمره، وعندما عاد من الهند التي قضى فيها عامين للعمل والعلم، كان قد تحقق له الجزء الأكبر من حلمه الرابض فوق قمم الشعر والنثر والخطابة والموسيقى، وهي المجالات الإبداعية التي أحبها حمزة شحاتة وبرع فيها.

          وإذا كان ديوانه الشعري ظل شاهدا أبديا على تلك البراعة، فإن في رسائله الشخصية ومقالاته وخطبه الكثير من الشواهد على براعته النثرية والخطابية. وبلغ من براعته على هذا الصعيد أنه ألقى محاضرة، وهو في الثلاثين من عمره، أفصح فيها عن مضامين فلسفية وفكرية ولغوية طليعية وجادة وجديدة العام 1938م في جمعية أهلية في مكة ، وقد استغرق إلقاؤه لهذه المحاضرة أكثر من أربع ساعات متواصلة، وقوطعت بالتصفيق أكثر من ثلاثين مرة، وسارت بأخبارها كل الصحف التي كانت تصدر آنذاك متنبئة للفتى بمستقبل أدبي مشرق. لكن الفتى زهد بكل هذا، ولم تكد تمضي سنوات قليلة حتى اصطحب أسرته المكونة من خمس بنات وحسب، متجها بهن إلى القاهرة. وهناك كرس نفسه لتربيتهن وتربية نفسه على العزلة والترفع والسمو والقراءة والكتابة، التي بقيت بعيدة عن أعين القراء، والموسيقى التي أثرت عزلته وظلمة أواخر أيامه - بعد أن فقد البصر - بفيوضها الساحرة، ولعله وجد فيها تعويضا عن متطلباته الجمالية البالغة الدقة والكمال، وهي المتطلبات التي ربما بقيت عصية عليه شعريا كما رأى، فتخلص من كل محاولاته في سبيلها حرقا وتمزيقا وإصرارا على عدم النشر. لكن على الرغم من محاولاته العدمية تلك بقيت آثاره خالدة على رفوف المكتبة العربية، ومن عناوينها الشعرية والنثرية والفلسفية؛ «الرجولة عماد الخلق الفاضل»، «رفات عقل»، «حمار حمزة شحاتة»، «ديوان حمزة شحاتة»، «غادة بولاق»، «شجون لا تنتهي»، «إلى ابنتي شيرين». وغيرها من العناوين المنشورة والمخطوطة الأخرى.

المرجع : مجلة العربي الكويتية العدد 617-بقلم سعدية مفرح