مكة.. قلب العالم

 

كنا جميعا نتوجه إلى مكة, ولكنها لا تتبدى لنا بسهولة, ولا نستطيع رؤيتها عن بعد, تبقى أشبه بمفاجأة كامنة وسط قفر من الأرض, تبدو أمامنا سلاسل من المدرجات البركانية التي تأخذ شكل السبحة, ترتفع تدريجيا لتتحول إلى سلسلة من جبال الجرانيت المتجهمة, يمتد بينها طريق الإسفلت ناعما كأنه نهر جاف, نفس الطريق الذي سارت عليه القوافل منذ آلاف السنين, ووطئت عليه قدما الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.  

          نعبر نفق (كدي) الذي يخترق حصار الجبال, لتبدو مكة أخيرا, متألقة بالضوء, مفعمة بالحياة, هاجعة في واديها الضيق تحيط به المرتفعات الجبلية من كل جانب, نتوقف لنلتقط أنفاسنا في انبهار, هاهي أم القرى, حيث لا يوجد مكان في تلك الأرض إلا وهناك قلب يهفو إليها, ولا توجد مجموعة بشرية غير معزولة ولا يوجد فيها من يتجه إليها وجدانا وعقلا في كل يوم, إنها قلب هذا العالم الذي لم يكف عن الوجيب على مدى آلاف السنين, فمن خلال توسل أب واستغاثة أم دبت حياة مفاجئة في واد مجدب لم ينبت فيه زرع ولم يرو ضرع من قبل, وعلى مدى الرحلات التي قامت بها التجمعات البشرية كان الأمر ينتهي بها إلى أرض تعيد إليها الحياة, أما هنا فإن استقرار الإنسان هو الذي منح هذه الأرض ديمومة الحياة.

          لا يمكن أن تكون إلا معجزة سماوية تلك التي قادت نبي الله إبراهيم إلى هذا الوادي الخفيض وسط جبال (السروات) بكتلها السوداء التي تبعث بالرهبة في النفس, ولا بد أنه منطق المعجزة نفسه الذي يتخطى المنطق البشري هو ما جعله يترك زوجته ورضيعها في هذا المكان المقفر, ربما لأنه المكان الوحيد الذي لايطمع فيه أحد حتى الذئاب, إنها لحظات غريبة تعطلت فيها كل قوانين الصحراء, فالماء قد انفجر في عين سيالة من تحت قدمي الأم الولهانة, كما أن قبيلة (جرهم) المهاجرة قد توقفت مذهولة أمام هذه المرأة الوحيدة, لم تحاول أن تستولي على البئر بالقوة كما يقتضي منطق الوجود, ولكنها استأذنت لتبقى في جوارها, وكانت السيدة (هاجر) تتوق إلى حمايتهم بقدر ما هم عطشى إلى مائها, وظلت قوانين الصحراء معطلة تاركة الفرصة لحدوث المعجزات والخوارق التي لم تتوقف في هذا الوادي الضيق, لذا لم يكن غريبا أن يقف الرسول عليه الصلاة والسلام فوق صخرة من صخور جبل أبو قبيس وهو يقول: (والله إنك لخير بلاد الله, وأحب أرض الله إلى الله, ولولا إنني أخرجت منك لما خرجت).

          في اجتماع المجلس الوزاري لمنظمة العالم الإسلامي تم إقرار مشروع باختيار عاصمة ثقافية للعالم الإسلامي, وكان من الطبيعي أن تكون مكة هي أولى هذه العواصم, يؤهلها لذلك مكانتها الروحية والتاريخية, التي لا يمكن أن تقارن بأي عاصمة أخرى, وفي الندوة التي عقدتها وزارة الحج السعودية بهذه المناسبة, أجمع المشاركون على أن تستمر الندوة للعام القادم وهي تحمل العنوان نفسه حتى يمكن استيفاء المزيد من الأبحاث حول تاريخ هذه المدينة الخالدة.

          ولا يوجد بلد يحمل أسماء بقدر التي تحملها مكة, فقد أوردت لنا كتب التراث حوالي أربعين اسما لها منها: بكة, أم القرى, البلد الأمين, أم رحم, القادسية, سبوحة الحرم, المعطشة, الرتاج, أم المشاعر... وغيرها أسماء كثيرة, تحمل كلها دلالات مختلفة على الدور الذي قامت به مكة على المستوى المادي والروحي, ومنذ أن رفع سيدنا إبراهيم أعمدة البيت العتيق, وقد أصبح لكل حجر في هذه المنطقة تاريخ مذكور, وأصبحت أصغر الوقائع جديرة بالحفظ والتدوين, ولا بد أمام تاريخ طويل كهذا أن يختلط خيال الأسطورة بمداد الواقع, ولكن المؤكد أن هذا الوادي قد أصبح محورا مهما, تتصارع فيه القبائل للحصول عليه والظفر بسيادته, وكان الصراع ضاريا فالذين طردوا منه كانوا أكثر من الذين استقروا فيه.

          كانت قريش هي القبيلة التي طال استقرارها في شعاب مكة, وهي التي أدركت الأهمية التجارية للبيت الحرام فأحاطته بالأصنام التي تمثل آلهة كل القبائل, واختارت موعدا مناسبا لموسم الحج, يكون في فصل الخريف في أعقاب الانتهاء من سوق عكاظ, بل إنها بدلت في طقوس الحج لتتناسب مع مصالحها وفرضت على الحجاج أن يلبسوا ملابس خاصة أعدتها لهم أو يطوفوا عرايا, لقد مزجت قريش وفق عبقرية خاصة بين التجارة والطقوس الدينية, وصنعت لنفسها مكانة مميزة فوق كل القبائل, إضافة إلى ذلك فقد وهبتنا - نحن أحفاد العرب العاربة - أهم مقوماتنا الثقافية, الإسلام الذي حمل رسالته واحد من أشرف أبنائها, والعربية التي هي لغة القرآن ولغة الحياة.

          مع قدوم الإسلام تطهرت مكة من أدران الوثنية, واستعاد البيت العتيق قدسيته, ولكن مكة عوقبت عقابا قاسيا, فحتمية وقائع التاريخ التي لا ترحم لم تنس لها أنها أرغمت آخر الأنبياء على الهجرة منها, لذا تحول مركز الثقل السياسي منها إلى المدينة المنورة رغم أن الأمراء والخلفاء كانوا من قريش, ورضيت مكة مؤقتا على مضض, ولكن هذا المركز العنيد واصل الابتعاد عنها, اتجه شمالا إلى دمشق ثم شرقا إلى بغداد ثم غربا إلى القاهرة, ورغم أن مكة قد شهدت العديد من الثورات وحركات التمرد فإنه قد تم سحقها بعنف, ولعل أبلغ دليل على ذلك هي حركة ابن الزبير الذي ثار على سلطة بني أمية ونادى بخلافته في دولة عاصمتها مكة.

          كان ابن الزبير طفلا سماويا, متدينا مثاليا, لا أحد يدري إن كان يصلح ليكون حاكما, أم لا ولكن الزمن لم يكن صالحا, كانت أمه هي أسماء بنت أبي بكر, وكان هو أول مولود للمهاجرين بعد أن استوطنوا المدينة, وكانت اليهود قد أشاعوا أن المسلمين قد أصابهم العقم ولن يستطيعوا الإنجاب بعد اليوم, عندما ولد عبد الله بن الزبير بدا كأنه بشرى من السماء, وحمله الرسول عليه الصلاة والسلام وظل يطوف به كل أرجاء المدينة, ولكن جيوش بني أمية لم تعامل ابن الزبير بهذا الدلال, لقد حاصرته داخل البيت الحرام, ورمته بالمنجنيق حتى دمرت الكعبة على رأسه, ولم يكتفوا بقتله ولكنهم مثلوا بجثته, وعندما انتهى المحاربون من ذلك طافوا جميعا حول بقايا البيت الحرام شاكرين الله لأنه نصرهم على عدو الله, ترى من كان عدو الله ومن كان نصيره?

          ربما عادت هذه الفاجعة بالخير على دور مكة ومكانتها, فقد أبعدتها تماما عن معترك السياسة بكل ما فيها من دسائس وألاعيب, وأصبحت كما قدر الله لها مدينة خالصة للعبادة, على حد تعبير الأديب السعودي حسين بافقيه, وأصبح الحرم هو الملاذ الحقيقي للفقهاء والشعراء وعلماء اللغة والمنطق والفقه والشريعة ورواة الأحاديث وجوابي الآفاق والزهاد والتائبين والركع السجود.

الظرف الحجازي

          ولكن مكة لم تصبح متزمتة, كفت عن التمرد وتحولت إلى التظرف,فقد تدفقت عليها أموال الفتوحات الإسلامية, ورشاوى الخلفاء, وشاعت قصص العشق والمجون, وأصبح فرسان هذا العصر شعراء من أمثال عمر بن أبي ربيعة والعرجي والمخزومي, شاعت أشعار الغزل على ألسنة الرجال والنساء اللواتي كن يمضين سافرات الوجوه, وانتشرت مجالس الغناء والطرب وأصبح الصوت الحجازي هو سمة العصر الذي انتشر منها إلى بقية البلاد, ويقول أحمد السباعي الأديب والمؤرخ السعودي المعروف: (إن بعض فقهاء الحجاز ادركتهم هذه اللوثة من التظرف واصبحوا أرق شعورا وأكثر تسامحا من غيرهم من الفقهاء), هذا الظرف الحجازي كان تعبيرا عن طبيعة مختلفة لعصر مختلف, فهم لم يودعوا الشظف ويستقبلوا الترف إلا في محاولة لإخفاء نوع خيبة الأمل العميقة بسبب فشل ثوراتهم وانتهاء دورهم بعد أن انطلقت شرارة تغيير العالم من بين واديهم).

          وينتقد السباعي بشدة الأسلوب الذي اتبعه الحكام على مر فترات التاريخ ضد مكة, أسلوب الرشاوى وإغداق الأموال عليهم, وإبعاد أهلها عن أي مجال مؤثر في الحكم, ويقول غاضبا: (لقد كان الحكام بالتتابع يغدقون عطاياهم على الحجازيين ليعيشوا مشغولين بهذه المنح لاهين عن جد الحياة, لا هم لهم إلا أن يأكلوا ويطربوا ويزهدوا ويدعوا لخليفة المسلمين بالنصر, ولو أرادوا الإخلاص فيما كانوا يمنحونه لأبدلوا هذه العطايا بدور علمية يبنونها وأرض موات يحيونها وبيوت صناعية ينشئونها ولكنهم كانوا مغرضين, ففي ذمة التاريخ ما ورثنا من تواكل وما نشأنا عليه من فقر وما تعلمناه من استجداء الحجاج والزوار وما ضيعناه من مجد نحن أولى المسلمين بتراثه وأحقهم بحقه).

          لم يتسن لي أن أرى نساء مكة وإن كنت قد تحدثت إلى بعض منهن, كن أساتذة في جامعة أم القرى وفي العمل التطوعي, ثمرة حقيقية للتحديث والنهضة الحضارية التي تعيشها مكة, منفتحات على ما في العالم من أفكار رغم الحجاب الأسود الذي يغطيهن, يحملن في أعماقهن تقديرا كبيرا للثقافة والتعلم, ولم يكن هذا غريبا على المكان الذي ظل دوما منبعا لكل العلوم الإسلامية, ولكن ابن بطوطة كان قد رآهن, دون حجاب وهو يصفهن قائلا: (فائقات الحسن, بارعات الجمال, ذوات صلاح وعفاف, وهن يكثرن من التطيب, حتى إن إحداهن تبيت على الطوى لتشتري بقوتها طيبا, ويذهبن للطواف بالبيت فيبقى أثر الطيب بعد ذهابهن عبقا).

          لقد تطورت شخصية أهالي مكة على مر العصور, مثلما تطور عمرانها, ويقول د.أبو بكر باقادر أستاذ الاجتماع ومستشار وزير الحج: إن مفتاح مدينة مكة المكرمة هو الحج, كما أنه مفتاح شخصية المكيين, ويتمثل ذلك في قبول الآخر والانفتاح عليه, والدعوة إلى حواره, بدرجة رفيعة من (التسامح والتعددية), ويقسم أهل مكة العام إلى فترتين, (الموسم) - أي موسم الحج - و(البصارة) وهي تشمل بقية أيام العام, وما يصدم الحاج في الموسم في هذه المدينة التي يتخيل أنها مثالية هو سعي أهلها إلى الربح من ورائه بأي وسيلة, فقد ظل الموسم لسنوات طويلة مصدر الدخل الحيوي لأهل مكة, ينتظرونه من العام للعام, وأهم المهن التي كان يفضل أهل مكة امتهانها دوما هي مهنة الطوافة , ولكن د.هروخيه سنوك الذي زار مكة في القرن التاسع عشر الميلادي وأقام بين أهلها يؤكد قائلا: (إن الذي يرى أهل مكة خارج موسم الحج يجدهم عذبي المعشر, مولعين بالمرح, كرماء لدرجة التبذير, يكرسون جهودهم لحياتهم الاجتماعية, وإن الذي يراقب حياتهم عن كثب يجد بجانب الخشونة والفظاظة التي عند بعضهم أناسا نبلاء المعشر, كريمي الصفات أتقياء ذوي ورع وصلاح).

          ومن الصعب أن تعثر على أهل مكة خلال موسم الحج, فهم يتحولون إلى قطرات غير مميزة وسط الزحام العظيم, ولا تخلو مكة أبدا من الغرباء, فالزوار لا يكفون عن رحلات العمرة طوال العام, كما أن العاملين والمقيمين فيها هم عينات واقعية لكل العالم الإسلامي, وقبل أن يسود مصطلح العولمة كانت مكة هي المثل الحقيقي للقرية العالمية التي تتشارك فيها كل الملامح البشرية, ومن المؤكد أن أهل مكة قد تأثروا بكل هذه الطبائع الوافدة عليهم, لقد تداخل هذا الفسيفساء البشري في تلك الملامح المكية المؤتلفة على حد تعبير د.باقادر, وعلى الرغم من تكونها من عناصر مختلفة فإنها تصب في النهاية في جماع الشخصية المكية, وقد وصف محمد لبيب البتانوني الأديب المصري في كتابه الرحلة الحجازية هذه الخلطة البشرية قائلا: (خليط في خلقهم, فتراهم قد جمعوا إلى طبائعهم وداعة الأناضولي, وعظمة التركي, واستكانة الجاوي, وكبرياء الفارسي, ولين المصري, وصلابة الشركسي, وسكون الصيني, وحدة المغربي, وبساطة الهندي, ومكر اليمني, وحركة السوري, وكسل الزنجي, ولون الحبشي, بل تراهم جمعوا بين رفعة الحضارة وقشف البداوة).

أصعب الرحلات

          في العشرينيات من القرن الماضي عزم جدي على الخروج للحج, وكان هذا الأمر مخاطرة حقيقية, إلا أن هذا لم يجعله يتردد, طاف على بيوت أقاربنا جميعا حتى يودعهم, كان يدرك ويدركون أنها قد تكون رحلة بلا عودة, سافر جدي شمالا إلى (الفرما) ومنها إلى بلدة المدورة وبذلك استطاع أن يلحق بقطار الحجاز الذي كان قد بدأ عمله منذ عشر سنوات تقريبا, القطار ثورة حقيقية, فقد كان يختصر الرحلة إلى المدينة المنورة إلى ثلاثة أيام فقط بعد أن كانت تأخذ في البحر حوالي ثلاثة أسابيع, ولكن رحلة جدي بالقطار لم تكن تقل خطورة, فقد تعرض إلى أسر القبائل المتحاربة, وسقط جدي أسيرا أكثر من مرة, واعتبرته كل قبيلة حليفا للقبيلة المعادية, فقد ماله, وأمتعته, ونام في العراء أياما طويلة, وتوسل إلى آسريه بأنه مجرد حاج غريب لا يعرف من يحارب من ولا يبالي بذلك. وتحولت الرحلة إلى كابوس متصل.

          ومن المدهش إن جدي عاد سالما ولكن معذبا ونحيفا وفاقدا لمادة الحياة, كان قد أصبح مفقودا لمدة أربعة أشهر كاملة, واعتبر في عداد الموتى, ولا يعرف أحد على وجه التحديد إن كان قد استطاع القيام بفريضة الحج أم لا, وهل استطاع اللحاق بالموعد المحدد للقيام بالمناسك, ففي ظل الأسر تتشابه كل الأيام, لم يتحدث جدي عن هذا الأمر, ولكنه اعتبر أن كل الأيام التي عاشها بعد هذه الرحلة قد وهبت له فوق عمره الأصلي, لذا فقد احتفظ بالملاحف التي كان يرتديها وعطرها بالشيح والزعفران حتى يتكفن بها عند موته.

          ربما كانت رحلة الحج إلى مكة من أصعب الرحلات في تاريخ البشرية, ولعلها معجزة حقيقية أنها استمرت وتواصلت خلال مئات من السنوات بالرغم من الموت والقحط والحروب وانتشار الأوبئة وقلة المياه وهجوم البدو, لقد ظل توافد الحجاج على هذه المنطقة متواصلا, بل إن الأعداد كانت في ازدياد رغم شدة المخاطر, لقد كان الرحيل إلى مكة حلما أقوى من مخاوف الموت, بل إن الموت نفسه عد ثمنا رخيصا من أجل الوصول والتعلق في أستار الكعبة, لقد كانت رغبة الجميع في التوبة والغفران حارقة. ولم يتصور أحد أن توهب له هذه الأشياء دون القيام برحلة الحج.

          لم يكن جوزيف كونراد يدري بالضبط ماذا يعني الحج, فقبل أن يكون كاتبا من أشهر الروائيين الذين كتبوا باللغة الإنجليزية كان بحارا ونصف قرصان يعمل في بحار آسيا الجنوبية على ظهر سفن ضخمة ومتهالكة تمخر وسط بحار العواصف, سفينة أشبه بالتوابيت العائمة, يصف كونراد في روايته الشهيرة (لورد جيم) كيف تتحول هذه السفن في موسم الحج إلى شاحنات للبشر, آلاف من البشر الفقراء يخرجون من كل موانئ آسيا المسلمة ليتكدسوا في القيعان المظلمة وسط البضائع والفئران دون نسمة من الهواء النقي أو وجبة حقيقية من الطعام, ولا تنتهي الرحلة إلا وقد ماتت منهم أعداد كبيرة, وبعد ذلك يبقى الجزء الأكبر رعبا في هذه الرحلة داخل الصحراء العربية نفسها.

          لقد ظل الطريق إلى مكة والمدينة على حالته البدائية منذ ظهور الإسلام حتى وقت قريب من أوائل القرن الماضي, ويبدو أن كل الحكام المسلمين على اختلافهم قد اتحدوا على إبقاء الحجاز منطقة بعيدة ومعزولة من الصعب الوصول إليها أو الخروج منها, وكانت مهمة الولاة - أمويين وعباسيين وفاطميين وعثمانيين - هي تحويل الصحراء بينهم وبين الحجاز إلى حجاب عازل, ولم يكن أحد منهم يتذكرها إلا في مناسبتين, عندما تهب ثورة أو تمرد فيقمعونه بمنتهى العنف, أو عندما يخطر لأحد الأمراء أو الخلفاء أن يقوم بالحج, وفي هذه المناسبة تحفر بعض الآبار المؤقتة التي سرعان ما تردمها الرمال, أو يسترضون بعضا من القبائل التي ما تلبث أن تعود لدأبها السابق من السرقة والنهب, لم يتذكر مكة والمدينة إلا فقراء المسلمين والعلماء بقلوبهم المتوهجة التي ترى في مجاورة الحرم عودة إلى منابع العلم الأولى. ولكن ظل الحرم بعيدا ونائيا, لا توجد حوله إلا قبائل جائعة لا تجد في موسم الحج إلا فرصة كبرى للاستغلال ولا تجد في الحجاج إلا ضحايا يجب مص دمهم وقتلهم إذا لزم الأمر.

          وقد زادت حدة هذا الأمر في عهد الأشراف, وهم من سلالة آل البيت, وقد توالوا على حكم مكة والمدينة بتشجيع من الحكام الفاطميين واصبح لهم نوع من الاستقلال الذاتي, وقد قاموا ببعض الإصلاحات العمرانية والإدارية, إلا أنهم كانوا شديدي القسوة على حجاج بيت الله فقد فرضوا الضرائب لا على رأس الحاج فقط ولكن على متاعه وعلى الدابة التي يركبها, وفي عهد صلاح الدين الأيوبي بلغ من جشع أحد هؤلاء الأشراف أنه كان يفرض على رأس كل حاج سبعة دنانير ذهبية كاملة, وكان يحبس الحجاج وجمالهم في حظائر ضيقة في ميناء جدة, وبالرغم من سطوة صلاح الدين فإنه أدرك أن القوة لن تجدي نفعا مع هذا الشريف, لذا فقد اتفق معه على أن يرفع هذه الضريبة الجائرة في مقابل شحنات من القمح يرسلها له كل عام, وأوقف صلاح الدين خراج عدة قرى في مصر من أجل هذا الغرض, بل ويقال أيضا إن صلاح الدين أبطل ثمانين نوعا من الضرائب والمكوس كانت تفرض على الحجيج, ولا بد أنه حتى سيور نعال الحاج لم تكن تنجو من الضريبة, وعلى أي حال فلم يستمر هذا الاتفاق طويلا, فما إن مات صلاح الدين وكف خلفاؤه عن إرسال القمح إلى الشريف حتى عاد إلى سيرته في حبس الحجيج وسلب أموالهم.

          يصف لنا إبراهيم رفعت باشا أمير الحج المصري في مذكراته الشهيرة كيف كان العربان يحاصرونه ويفرضون عليه الرسوم والإتاوات رغم أنه كان رجلا عسكريا وبصحبته حامية من العساكر, ولكنه كان يدرك أن المقاومة لن تتسبب إلا في خسارة المزيد من الأرواح, ولكنه ما إن ينتهي من التفاوض مع قبيلة حتى تظهر له قبيلة أخرى تطالب بإتاوات جديدة, بل إن دلائل القوافل أنفسهم كانوا يتعمدون تضليل القوافل بعيدا عن الطرق المألوفة حتى يتركونها فريسة للصوص الذين سبق الاتفاق معهم, وكان الأمر يتحول إلى مذبحة حقيقية إذا بدر من القافلة أي نوع من المقاومة, وعلى حد تعبير الإمام محمد رشيد رضا فإن الحجاج الوحيدين الذين كانوا يشعرون بالأمان هم الحجاج الأفارقة لأنهم كانوا يسيرون على أقدامهم دون أن يملكوا من حطام الدنيا شيئا يمكن أن يسرق, وقد كتب الشاعر أحمد شوقي قصيدة طويلة بعنوان (ضج الحجيج) يستصرخ فيها السلطان العثماني عبدالحميد أن ينقذ رعاياه المسلمين من سطوة العربان, ولم يكن الشاعر يدرك أن السلطان قد بات عاجزا عن صيانة عاصمة ملكه بل وحياته نفسها من سطوة الإنكشارية, وأن الأقدار كانت تعد العدة لخروج رجل آخر من عمق الصحراء هو الذي سوف يعيد الآمان المفتقد لحجاج بيت الله ويضع الأساس لإنشاء أول دولة حديثة هو (عبد العزيز بن سعود).

          كانت المشكلة الأخرى التي تواجه الحجيج في تلك الصحراء الجافة هي الماء, فقد كان سعره في موسم الحج يرتفع إلى أسعار مضاعفة, وربما ندر وجوده تماما, فبئر زمزم وغيرها من عيون مكة لم تكن في متناول الجميع وكان يتولى أمرها من يتحكم فيها ويفرض السعر الذي يراه, كما أن معظم الماء الذي كان متوافرا كان مالحا ومتسخا ومليئا بالرمل, وكان الحمالون يأخذون الثمن مضاعفا إذا كانت خيمة الحاج بعيدة بعض الشيء, بل إن الحجاج كانوا يتوضأون من نفس الحوض الذي تشرب منه الدواب. وقد كتب (ميرزا داود) وزير الوظائف في إيران في سفرنامته عن الحج (لا أستطيع أن أنسى منظر تلك المرأة المصرية التي يبس لسانها من العطش, وعرضت علي سوارا في يدها مقابل جرعة ماء, فلما أعطيتها الماء ورفضت أخذ السوار منها, عمدت إلى يدي فقبلتها, وأرادت السجود أمام شخصي الحقير, لقد وهبت اليوم كل ما لدي من ماء فلم يبق لدي شيء منه حتى للوضوء).

الوباء العظيم

          ولكن هذا لا يعد شيئا أمام انتشار الأوبئة, فلم تكن تقتصر على موسم ومكان الحج, ولكنها كانت ترحل مع الحجاج إلى بلادهم, أي أنها تخرج من مكمنها الضيق إلى عالم واسع حيث تصبح الكارثة محققة, وإنصافا للحقيقة فإن مكة بريئة من تخليق هذه الأوبئة, فهي منطقة جافة, مرتفعة الحرارة دوما بصورة لا تسمح للجراثيم بالنمو والتكاثر, ولكن الالتقاء السنوي للحجاج هو الذي كان يخلق هذه المشكلة, وإذا أضفنا إلى ذلك قلة المياه وندرة النظافة الشخصية, كما أن نحر الذبائح وتركها في العراء أياما طويلة حتى تتعفن, كل هذا يقلب موازين البيئة في هذه البقعة الضيقة, وقد كانت المشكلة دوما تأتي مع حجاج الجنوب من الهند وجاوة وماليزيا وإندونيسيا الذين يحملون أمراضا مثل الكوليرا والطاعون كانت تستوطن في بلادهم بشكل دائم, وعندما يحدث الاحتكاك بينهم وبين المسلمين القادمين من الشمال مثل حجاج الشام ومصر والمغرب العربي يحدث الانتقال لهذه الأمراض المميتة.

          ويعد الوباء الذي حدث عام 1865م هو أكبر الأوبئة التي شهدها العالم والذي استمر فترة طويلة, فقد عادت الباخرة البريطانية (سيدني) من جدة وهي محملة بأكداس من الركاب المرضى بالكوليرا, ورغم أن القبطان الإنجليزي كان قد ألقى في البحر عشرات من الجثث إلا أنه كذب عندما وصل إلى ميناء السويس وقال للسلطات إن كل شيء على ما يرام, وبعد يومين فقط انتشر الوباء في مدينة السويس, وكانت أولى ضحاياه هو الربان وزوجته, ثم بدأ انتشار الوباء إلى كل بلدة عاد إليها الحجاج بواسطة القطار, وفي خلال ثلاثة أشهر فقط كان قد حصد 60 ألف شخص, ومن الإسكندرية تسلل الوباء إلى أوربا فاجتاحها, كما اجتاح أسيا الوسطى, بل إنه عبر المحيط الأطلسي ليستقر في مدينتي نيويورك وجودالوب, ولم يختف الوباء إلا بعد تسع سنوات كاملة.

          كما قلت فإن المعجزة الحقيقية كانت استمرار أداء هذه الفريضة رغم كل فخاخ الموت, أما المعجزة الثانية بحق فهي أن معظم هذه المشاكل قد انتهت وأغلقت الفخاخ أفواهها, وتقلصت أعداد الموتى إلا بسبب التدافع والزحام, إن من يشاهد تلك الأعداد الغفيرة من الحجيج التي تنام على الأرصفة والشوارع والأنفاق وحتى في المناطق الجبلية المنعزلة دون خوف, يدرك مدى الأمن والسكينة اللتين تسودان مكة الآن, كما أن مصادر المياه متوافرة ومجانية في كل مكان, وقد تحولت الدواب التقليدية إلى أساطيل من الحافلات والسيارات, وارتفعت نسبة الرعاية الصحية إلى درجة مذهلة, ورغم أن مكة واحدة من أكثر مدن العالم ازدحاما فإنها من أكثرها نظافة, ومن يعرف التاريخ ويتأمل الحاضر يدرك أن ما يحدث اليوم هو معجزة حقيقية.

من يكسو الأحجار?

          لا يوجد منظر أشد وقعا في النفس من مشهد الكعبة المشرفة وهي مكسوة باللون الأسود الذي أصبح لونها التقليدي منذ عشرات السنين, وفي موسم الحج ترفع هذه الأستار قليلا حتى تبتعد عن الأيدي المتدافعة التي يمكن أن تمزقها, وحتى يرى الجميع أيضا أحجار البيت المتواضعة الخالية من أي زينة, وتعود بهم الذكرى إلى أصله الصحراوي.

          لم أستطع الاقتراب ولمس أستار الكعبة كما كنت أتمنى, فقد كان التدافع بالقرب منها مميتا, كما كانت هناك صفوف أخرى من أشخاص أنصاف عرايا يجلسون على الأرض وهم يمسكون بالاحبال التي تحيط بالكعبة حتى لا يقتلعهم الزحام, لم أتصور أنني استطعت التراجع وأنني وجدت طريقا للخروج سالما, وقد أدركت أن محاولة الاقتراب من الكعبة في موسم الحج هي مغامرة لا تحمد عقباها, ولكن الفرصة لم تضع مني كليا, فقد استطعت أن ألمس, بل وأتفحص الكسوة التي كانت ستوضع على الكعبة بعد أيام قلائل, حدث ذلك عندما قمت بزيارة مصنع كسوة الكعبة المشرفة في ضواحي مكة.

          كانت خيوط الكسوة من الحرير الأسود تنسج ببطء بواسطة الأنوال اليدوية, طريقة تقليدية لم تتغير منذ مئات السنين, فالخيوط من الرقة بحيث لا تحتمل عنف الماكينات الحديثة, يقف على كل نول عاملان, واحد يقذف المكوك والآخر يقوم بإرشاده للخيوط التي عليه أن ينسجها حتى تكتمل النقشة المطلوبة, للمرة الأولى ألاحظ أن هناك نقوشا على الكسوة السوداء لا نستطيع رؤيتها إلا على درجة قريبة, مربعات بارزة من نقش الجاكارد مكتوب فيها: (يالله - لا إله إلا الله محمد رسول الله - يا حنان - يا منان), وفي القاعة الأخرى كان هناك عشرات من الصناع يعكفون على تطريز الحزام الذي يحيط بالكعبة ويبلغ طوله خمسة وأربعين مترا وعرضه خمسة وسبعين سنتيمترا, كانت الخيوط المصنوعة من الفضة المطلية بالذهب تكتمل لتحيط بجدران الكعبة من كل جهة وتصبح علامة مميزة لها, كما كانت آيات سورة الإخلاص تكتب في كل زاوية من زوايا الكعبة, وتحت الحزام توجد آيات أخرى وزخارف منفصلة, ويحتوي الحزام على مجموعة من الآيات, مأخوذة من سورة الحج.

          ولا يقوم المصنع على مدار العام بصنع الكسوة فقط مهما كانت دقتها ورهافتها, ولكنه يقوم أيضا بعمل الستارة الخارجية التي تغطي باب الكعبة وهي أية فنية من آيات الخط العربي, كما يقوم بصنع الأستار الخضراء التي تكسو الكعبة من الداخل, وكذلك الأستار التي تكسو الروضة الشريفة في قبر الرسول [ بالمدينة المنورة, وفي نهاية الجولة التي شملت بالإضافة إلى ذلك أقسام التصميم والطباعة والصباغة سألت المشرف في جدية تامة:

          - هل يمكن أن أحصل على قطعة من كسوة الكعبة القديمة?

          قال الرجل ضاحكا ومشفقا على سذاجتي:

          - طبعا, احضر لي أمرا من جلالة الملك وسوف أعطيك ما تريد.

          كانت قطع الكسوة هي هدية الملك للملوك والرؤساء الذين يتوافدون على المملكة كل عام, وعلي أن اكتفي فقط بشرف الرؤية, وعلى مر التاريخ كانت كسوة الكعبة شرفا لا يناله إلا من يستحقه, وقد ظلت الكعبة بعد بنائها عارية لمئات السنين, ولكن الملك أسعد الحميري الذي خرج من اليمن يريد هدم البيت العتيق كان أول من كساه, كان البيت يسبب أرقا دائما لملوك اليمن, الذين يريدون أن تصب عندهم كل قوافل التجارة التي تأتي شمالا من الشام, والتي تأتي شرقا من الهند, بدلا من أن تصب دوما عند البيت الحرام, ولكن الملك الحميري - مثل البقية - لم يستطع الوصول إلى الكعبة, وأصيب بدلا من ذلك بأمراض أقعدته في مكانه, وأشار عليه أحد البدو أنه لن يشفى من لعنة المرض إلا بعد أن يسترضي البيت العتيق, وقام الملك الحميري بذلك وكسا الكعبة بأثواب يمانية ملونة, وشفي من مرضه واستطاع أن يعود إلى بلاده, وأصبحت الكساوي تنهال على الكعبة في كل عام, علقت على جدرانها كل أنواع الأقمشة التي كان يعرفها العالم القديم, المخطط اليماني والقباطي المصري والنمارق العراقية والديباج والحرائر الهندية, وكان عبد الله المخزومي, وكان واحدا من أشهر أثرياء قريش, يكسو الكعبة سنة وتكسوها قريش سنة أخرى, لذلك فقد أطلقوا عليه العدل لأنه كان يعدلها جميعا, ولم يكس الرسول عليه الصلاة والسلام الكعبة إلا بعد الفتح, فقد احترقت هذه الأستار بينما كانت تقوم امرأة بتبخيرها, وقام هو بكسوتها بعد ذلك, ثم توالت كساوي الخلفاء والأمراء من بني أمية ثم من بني العباس, لم يجرؤ أحد على رفع الكسوة القديمة, فقد كانت تترك وتتحلل حتى تتساقط من تلقاء نفسها, ولكن الأكسية تراكمت حتى هددت بانهيار الكعبة نفسها, وجاء الخليفة العباسي المهدي للحج فأمر بإزالة كل الأستار القديمة وآلا يبقى عليها إلا ستر واحد.

          مع صعود الدولة الفاطمية وفي ظل العلاقة المميزة التي أقامتها مع أشراف مكة انتقلت مسئولية صنع الكسوة إلى مصر, وفي عهد المماليك أنشئت أول دار لصنع الكسوة في مصر وضمت خيرة الخياطين والمطرزين والخطاطين في مصر, وكما يقول د.باقادر فقد أوقف المماليك على هذه الدار ريع خمس قرى ما لبثت أن زيدت إلى سبع منها سنديس وسنتريس وغيرهما, وكان العمال قبل أن يدخلوا هذه الدار يتوضأون بالماء المعطر بالورد ويأخذون في التكبير طوال وقت العمل, وبواسطة هؤلاء (الأسطوات) أخذت الكسوة شكلها الأساسي: اللون والنقشة والحرف المكتوب, وكان خروج الكسوة من مصر متجهة إلى مكة يوما مشهودا في كل عام, إذ يتقدمها الجند وأمير الحج المصري والمحمل على ظهره الهدايا إلى أهل مكة وتخرج القاهرة كلها لتراقبه وسط الموسيقى والتكبيرات والابتهالات حتى تأخذ القافلة وجهتها الأخيرة للرحيل.

          وفي عام 1965 تصاعدت الخلافات السياسية بين السعودية ومصر بسبب حرب اليمن ورأت السلطات السعودية أن الكسوة قد تستغل بشكل سياسي, كما أن التطور الغامر الذي شهدته المملكة كان قد أصبح يوفر لها القدرة على القيام بصنع الكسوة, وكان أن رفضت تسلم الكسوة المصرية وأبقت الكسوة القديمة على الكعبة عاما كاملا حتى استطاع مصنعها الخاص أن يصنع الكسوة الجديدة وأن يضيف إليها مع تراكم السنوات المزيد من النقوش والتجديدات.

الغفران في منى

          عندما تنفذ من النفق إلى وادي منى الضيق تحس بمدى رهبة الحج وتأثيره في النفس. ففي هذا العراء الممتد تفترش الأرض ملايين الأجساد الظامئة للغفران. فقراء المسلمين, المادة الأساسية للحجيج الذين كان الحج بالنسبة لهم رحلة العمر الأولى والأخيرة. في كل يوم كنت أسير وسط الممرات الضيقة التي تتركها أجسادهم بصعوبة وأنا في طريقي لرمي الجمرات. وكنت أتأمل وجوههم التي دبغتها الشمس وأجسادهم الواهنة التي لا تسترها إلا خرق الحج المتواضعة وأتساءل أي إحساس عميق بالذنب هذا الذي يعانون منه وهم يتوسلون ولا يكفون عن التوسل. كان عراء من يتيح لهم تلك الفرصة النادرة من تصفية النفس. وكان النوم على الأرض وإهانة هذا الجسد الذي عذبهم برغباته طويلا هو وسيلتهم لذلك. كانت منى تجمع على أرضها تنويعات من عالم الإسلام الثري. خليط الأتراك والآسيويين, الوجوه المحتقنة والصفراء ذات العيون الضيقة. كلهم متساوون على الأرض العارية من كل زخرف. ولكن كان لا بد للحجاج القادمين من جنوب شرق آسيا أن يلفتوا أنظاري. إن التزامهم بجدية الحج وتعاليمهم ومحاولتهم إضفاء النظام عليه أمر يثير الدهشة, وهي تجربة علينا جميعا كمسلمين أن نأخذ منها المثل. فمنذ أن يولد الطفل منهم يقوم أهله بفتح حساب مصرفي يضعون له فيه كل شهر مبلغا من المال. حتى إذا نضج وأصبح في سن تأدية الفريضة وجد هذا المال جاهزاً. ثم يتلو ذلك تدريبات على الحج. الطواف, وعرفات, والذهاب إلى الرجم. كل هذه تدريبات يجب أن يؤديها كل واحد منهم وأن ينجح فيها حتى يصبح مؤهلا للسفر. وهم يسيرون في جماعات, كل واحد يحمل مظلته, ويضع على وجهه القناع الذي يحميه من انتقال العدوى والأهم من ذلك يضع حول عنقه كيساً صغيراً يحفظ فيه الجمرات التي سوف يقوم برميها. إنهم يمثلون إسلاماً جديداً, منظماً ومتطورا. يخضع للمناسك ويحاول أن يطور طريقة تأديتها. وفي رأيي أننا لو اتبعنا نظامهم لقلل ذلك من المعاناة التي نحس بها وقت الحج. ولقل التدافع والزحام وعدد الموتى الذين يتساقطون من جراء ذلك.

حلم الغرباء

          كانت مكة ومازالت محرمة على غير المسلمين, ولكن هذا لم يمنع المستكشفين الأوربيين من محاولة دخولها, فقد كان لديهم نوع من الإصرار والهوس الذي جعلهم يدفعون بحياتهم إلى حافة الخطر وإلى أن يغيروا مصائرهم, كان فيهم لصوص وأفاقون ومغامرون وعلماء وقساوسة وجواسيس محترفون خرجوا من كل بلدان أوربا, دافعهم واحد هو الرغبة في معرفة المنابع الأولى لهذا الدين والتأكد من أن تلك القوة لن تعود للانبعاث من جديد, تتفاعل داخلهم مشاعر تختلط فيها النظرة الرومانسية لاكتشاف الصحراء مع الدوافع الاستعمارية والتحدي الديني في أرض الدين الذي طالما تحداهم, بعضهم كان منصفا مثل الدنماركي كارستان نبيهور الذي يقول: (ما إن تقترب من هؤلاء العرب حتى تدرك أن تاريخهم يعود مباشرة إلى العصور السحيقة التي تلت الفيضان, إننا في أوربا مغرمون بتخيل أنفسنا كآباء للبشرية, معجبون بالمغامرات الساذجة التي نقوم بها, حتى اللغة التي نتحدث بها مازالت خاضعة للتشكل اليومي, ماذا يمثل هذا كله أمام العراقة العربية?).

          بدأ فارس صليبي يدعى رينارد دي شتالو رحلة التسلل للأراضي المقدسة في عام 1180م, كان يريد هو وجيشه أن يصلوا إلى المدينة المنورة ليهدم مسجد الرسول [, وفي حقيقة الأمر كان يريد أن يسرق الكنوز التي كانت الأساطير تقول إنها مدفونة في قبر الرسول عليه الصلاة السلام, ولكن ما إن هبط بجنوده على شاطئ البحر الأحمر, حتى وجد فرسان الصحراء العربية في انتظاره, كان معظمهم عزل وعرايا ولكنهم دافعوا باستماتة أمام الجنود الصليبيين المتحصنين بالدروع الحديدية, وسقط الفارس دي شتالو, وسيق أتباعه إلى منى حيث تم قتلهم جميعا.

          لم يجرؤ جيش صليبي بعد ذلك على عبور الصحراء, ولكن محاولات المغامرين لم تتوقف, فقد خرج أفاق إيطالي يدعى لودفيكو فارسيما من فينسيا عام 1502 وسافر إلى سوريا واستطاع أن يتنكر كحاج وأن يلتحق بإحدى القوافل التي خرجت من دمشق, كان رأس فارسيما مملوءا بخرافات عصر النهضة, لذا فقد قدم وصفا غير واقعي للأماكن المقدسة, بحيث يرضي تصورات العقل الأوربي عن غرائب هذه الأرض, فقد أكد مثلا أن هناك حيوانا يشبه وحيد القرن يعيش داخل الحرم المكي ويختار فرائسه كل يوم من بين الحجيج, وبعد أن انصرف الحجيج اختبأ فارسيما وظل يتجول في الصحراء لمدة سبعة أشهر كاملة حتى ذهب إلى عدن وتم القبض عليه بوصفه جاسوسا مسيحيا.

          وتوالت محاولات المغامرين, بعضهم أصابه الفشل, والبعض الآخر استطاع التسلل بالفعل, وقدموا شهادات متفاوتة القيمة, ولكن أهمهم كان كارسن نبيهور الذي استشهدنا بقوله من قبل, فقد كان الشاهد الأخير على رحلة الموت التي شملت البعثة التي كان هو عضوا من أعضائها, كانت البعثة مكونة من ستة أفراد, طبيب وعالم نبات ولغوي وجيولوجي وعالم طبيعة ورسام هو نيبهور, وقد أرسل البعثة ملك الدنمارك فريدريك الثاني وكانت مهمتها اكتشاف الصحراء العربية أو بالأحرى الأماكن التي حدثت فيها وقائع الكتاب المقدس.

          تجول نبيهور كثيرا في الصحراء العربية بعد أن حطت بعثته في اليمن, ومات أفرادها واحدا بعد الآخر, وواصل هو السفر شمالا حتى وصل إلى منطقة الحجاز, ولكنه لم يستطع الاقتراب من مكة, فقد أخبره الأهالي أن هناك قوى سماوية تحرس هذه المنطقة من دنس الأغراب, فما إن يقترب أي كافر - مثله - حتى تخرج عليه كلاب مسعورة جائعة تنهشه نهشا, وأخاف ذلك نبيهور فاكتفي برسم معالم منطقة الحجاز بما فيها من وديان وجبال.

          ولكن الصحراء العربية لم تعرف مغامرا مثل بورخارت رغم أن الرحيل إليها لم يكن هدفه الأول, كان ما يريده هو الذهاب إلى إفريقيا واكتشاف منابع النيل, ولكنه ذهب أولا إلى سوريا ليتعلم اللغة العربية, وعاش في حلب بين السكان المحليين, وتطبع بطبائعهم وأجاد لغتهم, حتى أصبح حجة في علوم الدين وقيل إن والي مكة نفسه لم يكن يستطيع أن يكتشف أنه ليس مسلما, وكانت خطته هي أن يذهب إلى الحج ثم يعود مع إحدى القوافل الإفريقية إلى مدينة تمبوكتو حيث يبدأ رحلة عمره, وبمعونة والي مصر الذي كان في هذا الوقت محمد علي باشا استطاع بورخارت أن يلتحق بقافلة الحج المصرية, ولكن كل شيء تغير عندما وصل إلى مكة, لقد وقع في عشق المكان وقال: (إذا سئلت عن مكان أتمنى فيه الإقامة إلى الأبد فإن هذا المكان هو مكة). وقد ترجم هذا العشق في حوالي 350 صفحة من الكلمات الحارة ووصف مكة بطريقة لم يدع فيها مجالا لمستكشف آخر.

          أما الرحالة الذي لم يهدأ فقد كان ريتشارد بيرتون, ويمكن القول إنه كتب عن الصحراء العربية موسوعة كاملة, تحدث فيها عن الصقور والطقوس الدينية والآثار والثعابين والجبال والغناء, كان يملك مهارة فذة في تعلم اللغات, وقيل إنه كان يستطيع التكلم بحوالي 29 لغة, وسافر إلى القاهرة حيث أجاد اللغة العربية, وتردد على الأزهر ليعرف المزيد عن تعاليم الإسلام, ثم سافر متنكرا مع قافلة الحجاج إلى مكة, وقدم وصفا دقيقا لهذه الرحلة وخاصة المدينة المنورة, وعندما وصل إلى مكة كان قد أكمل اندماجه حتى أنه استطاع أن يدخل الكعبة, وأن يدفع الحجاج ليقبل الحجر الأسود وهو يقول: (لقد رأيت احتفالات دينية في أماكن عديدة ولكنها لم تكن بكل ذلك الجلال والرهبة مثل مشهد الطواف حول الكعبة).

          ولا تنتهي المحاولات, ولا يتوقف الرحيل لذلك الوادي الضيق وسط جبال مكة, كأن هناك أواصر قوية تشدهم إلى هذا المكان, إنه قلب العالم الذي لا يكف عن الوجيب, وسوف تظل الدعوة التي أطلقها أبونا إبراهيم لزيارة البيت شوقا كامنا في أصلاب الأرحام وفي خلايا الأجنة حتى يقبض الله الأرض ومن عليها

المصدر : مجلة العربي العدد  535 بقلم : محمد المنسي قنديل.