العائلات المكية تحيي أكبر أيامها في أروقة البيت العتيق
يوم عرفة، هو اليوم الكبير لنساء مكة بادية وحاضرة. وأحد أكثر مشاهد العادات والتقاليد المتوارثة رسوخا في ذاكرة الحياة الاجتماعية في العاصمة المقدسة، فمنذ ساعات الصباح الأولى من يوم الوقوف على جبل الرحمة، تغشى نساء العوائل المكية صغيرات وكبيرات أبواب المسجد الحرام، تحت أنظار أكثر من 150 مراقبة ينتشرن على نحو 78 بابا آخر للحرم المكي.
يبدأ يوم النساء، بتأمين أماكنهن في الأروقة الداخلية، قبل أداء سنة الطواف كتحية المسجد الحرام. وحين يرفع أذان الفجر يبادرن بأداء الصلاة بالقرب من المطاف والمقام وحجر إسماعيل، في راحة وسعة بعد أن غادرت آخر وفود الحجاج بلباسهم الأبيض حياض الكعبة المشرفة في طريقهم إلى المشاعر المقدسة.
غالبية الحضور، عقدن نية صوم يوم عرفة، وخلال ساعات يمتلئ المطاف بالعابدات والراكعات الساجدات، وهن يرتدين عباءات سوداء فضفاضة، وملابس قطنية يغلب عليها اللونان الأبيض والأخضر. يوم طويل ينتظرنه كل عام لأخذ الفرصة كاملة في الصلاة حيث شئن والطواف بالقرب من الكعبة المشرفة، ومقام إبراهيم، والركن اليماني، واستلام الحجر (الأسعد) كما يطلق عليه أهل مكة.
تتناثر الصور والمشاهد المؤثرة حتى تبدو عملية رصدها شبه مستحيلة. البيت العتيق بات وكأنه خلية نساء.. صغيرات وكبيرات، جئن بعد أن عجزن لشدة الزحام وتدفق الحجاج والمعتمرين عن زيارته طوال أيام السنة.
صور من قيم الوفاء وبر الوالدين تظهر جلية حين رؤية العشرات من النساء يدفعن بآبائهن أو أمهاتهن أو جداتهن فوق عربات متحركة وهن يلقنّهم أدعية الطواف حول البيت المعمور، وعجائز أخريات يتهادين عبر سواعد بناتهن بخطوات متثاقلة في انتظار فرصة سانحة للاقتراب من الكعبة، أو الوقوف عند ملتزم الإجابة، قبل استلام الحجر الأسود، يمين الله في الأرض.
العيون تدمع، والقلوب تبتهل، والألسنة تلهج بذكر الله والصلاة على النبي الخاتم، والدعاء بتضرع لصلاح الذرية وحسن الخاتمة. كان منظر المرشدين والمرشدات في صحن الطواف متجاوزا، ومتسامحا وهم يشيحون بصرهم والسماح لهن بصلاة ركعتي الطواف في غير أماكن النساء المخصصة. وكان كل من يمر بالقرب من أحدهم لا يسمع منه، وهو غاض بصره، سوى "جزاكم الله خير في بر أمهاتكم"، و"كثر الله من أمثالكم"، قبل أن يمد يد المساعدة لفسح المجال أمامهن للوصول إلى الكعبة أو مقام إبراهيم، أو للصلاة في جوف حجر إسماعيل.
في تمام الساعة السادسة، يفسح المجال للحدث الأهم في هذا اليوم العظيم. كل العيون هنا متشوقة للرؤية، وكل القلوب تغادر أماكنها وهي تخفق هيبة، وأبصار الجميع وبصيرتهم معلقة برؤية قدس الأقداس.. الكعبة المشرفة، وهي ترتدي حلتها الجديدة، قبل 24 ساعة فقط من عيد الأضحى المبارك، والمصنوعة من الديباج والحرير الموشى بعروق الذهب والفضة.
تنصب الألواح وتقترب السلالم المعدنية، ويتوزع العاملون، كل في مكانه، قبل أن تأتي عصبة من رجالات مصنع كسوة الكعبة المشرفة، وهي تشيع بين يديها عربات تحمل قطع الكسوة الجديدة، قبل أن يشرعوا في مهمتهم السنوية، وتجديد إحرامها ورفع أستارها إلى مستوى لا تصله أمواس ومقصات الحجاج الذين يستميت بعضهم في سبيل الحصول على قطعة أو حتى مجرد خيط طمعا في البركة. - كما يعتقد - بعد ساعات يردد الجميع أنه "لا عطر بعد الكعبة المشرفة".
في ساعات النهار، تتحول ردهات المسجد الحرام وأروقته الداخلية إلى قاعة لقاء كبرى. الأطفال والفتيات يتجولون في عرصات المسجد الحرام، بين الصفا والمروة، وفي الأروقة الداخلية، وعلى صحن الطواف. بعضهم يجيء ليتأكدوا من حكايات جداتهم ومروياتهن القديمة، تراهم يحدقون فوق سطح الكعبة المشرفة، ليقفوا على صحة عدم طيران حمام البيت وطيور الحرم فوق الكعبة تعظيما لها.
العوائل المكية تجدد علاقاتها في هذا اليوم، وربما تخطب فلانة لابن فلان، ويصير العيد عيدين. كما أن علاقات جديدة تتم من خلال التعارف على عائلات قدمت من خارج مكة لأول مرة لحضور هذه المناسبة السنوية. وشيئا فشيئا، تقترب الأبسطة والمفارش، ليتحول الجميع في لحظات وكأنهم عائلة واحدة تتفيأ ظلال الأروقة الداخلية اتقاء لعين الشمس.
قبيل أذان المغرب، تحضر المطبقيات والأكياس المحملة بما لذ وطاب، وثلاجات القهوة والمرطبات وعبوات الألبان، وتبدأ ما يشبه منافسة نسوية، بأفضل ربة بيت تجيد صنع (المعمول) المحشو بالتمر والمكسرات، و(الغريبة) المصنوعة من السميد المرشوش بالصنوبر وفتافيت السكر. وتتبادل الأسر فيما بينها أطباقا من التمر والمعجنات وعيش اللحم، وحلويات مكية تقليدية صنعتها أيديهم خصيصا لمائدة فطور ليلة العيد الأكبر.
روح الحياة المكية لم تتغير كثيرا داخل البيت العتيق، ربما يفتقد الكثيرون متعة النزول إلى بئر زمزم القديمة ونثر مياهها فوق الرؤوس، وربما يحن البعض إلى أيام الحصوات، وحلقات الذكر والدروس الدينية فيها. في المقابل يصعب على المكيين الاعتراف بالأمر الواقع خارج بوابات الحرم. ما زال أكثر كبار السن يعطرون مجالسهم بأحاديث الماضي، واستحلاب ذكرياتهم القديمة، بعد أن غادرت شخصية (مكة) التي عرفوها، وذابت في تلافيف زمن العولمة، بكل أدبياته الحضارية والمعمارية.
عدنان الحارثي: كتب التاريخ تحفظ مرويات عن تخصيص يوم عرفة للنساء في الحرم المكي
يقول عميد المكتبات بجامعة أم القرى الدكتور عدنان الحارثي إن عادة تخصيص يوم عرفة للنساء في مكة ذكرت في كتب المؤرخين كابن جبير وجار الله ابن فهد، حيث وصف ابن جبير الباقين من أهالي مكة المكرمة بأنهم من النساء والأطفال فقط. كون الرجال يذهبون للعمل في المشاعر أو لأداء فريضة الحج وأن من يبقى فيها من الرجال يوصف بـ "الخليف".
وأضاف الحارثي أن يوم عرفة في مكة المكرمة كان يتميز بوجود النساء وأن من يبقى من الرجال فيها كانوا يعتزلون الحرم المكي الشريف لإتاحة الفرصة للنساء وتمكينهن من أداء الصلوات والعمرة، حتى إنه رصد في تلك الحقبة التاريخية أنه كان يساء للرجال المتخلفين عن الحج أو العمل فيه بالمشاعر المقدسة.
العم عبدالقادر بخش من سكان حارة الباب سابقا يقول: كانت العادة أن تخلو الأحياء المحيطة بالحرم الشريف من الرجال في يوم عرفة كأحياء الشبيكة وحارة الباب والمدعى والسوق الصغير والقشاشية وجبل هندي والقرارة والمسفلة، وتبقى النساء في المنازل مع الأطفال، ولم تكن هناك الكهرباء والإضاءة كما هو الآن، وكان موسم الحج ومرافقة الحجاج إلى المشاعر المقدسة من المواسم المربحة التي يحرص عليها الرجال مصطحبين معهم أولادهم البالغين لمعاونتهم في أعمال التجارة أو الطوافة، و من يتخلف عن هذه الأعمال يعد ذلك معيبة فيه ومنقصة، لما تميز به المجتمع المكي من تنافس في خدمة الحجاج والمعتمرين من قبل الرجال والفتيان، ومن يتم ضبطه من قِبل النساء في ذلك اليوم ينهرنه ويوبخنه ويساء إليه أيضا.
أحمد العامودي من حي جرول يقول: تغيرت العادات الآن في ظل الأعداد الكبيرة التي سكنت مكة المكرمة، وانتشار أهلها في الأحياء الجديدة والمدن القريبة كجدة والطائف، إلا أن ذلك التغيير لم يوثر على عادة أهل مكة المكرمة في إحياء يوم عرفة بالصوم والإفطار في الحرم المكي الشريف، وإن كان أضيف عليها تغييرات أخرى بحكم إفرازات التطور الحديث، ولكن اتسمت العادة بلبس الجديد من الملابس وإعداد الموائد المكية، خصوصا أنه يعقبها صلاة عيد الأضحى الذي يتبادل فيه الأهالي التهاني ويغلب على المهنئين العنصر النسائي وتستمر التهاني طوال أيام التشريق الثلاثة.
فاطمة خان، سيدة كبيرة في السن وجدة لأحفاد تحرص على الصوم والإفطار في الحرم المكي الشريف يوم عرفة، تقول: لكبر سني لم أستطع الحج.. ففضلت الذهاب إلى الحرم مع بناتي لأداء الصلاة والطواف حول الكعبة.
وتضيف: في صغري كنت أحضر مع والدتي وجاراتنا بحارة الفلق القريبة من الحرم قبل نحو 45 سنة، كان وقتها صحن الطواف به الحصوات والرمل نلهو فيه ننتظر أذان المغرب وتناول الإفطار، ومن ثم نتبادل التهاني بصوم يوم عرفة.
المصدر : جريدة الوطن 11/12/1431هـ
0 تعليقات