عرفات .. زمان ..ومكان
يوم عرفة عظيم أكمل الله فيه لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم دينها وأتم عليها نعمته ، عن عمر رضي الله عنه (أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: أي آية؟ قال: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً"المائدة: 2" قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة، يوم جمعة)"مسلم 3017" .
ومن سعادة العبد وتوفيق الله له تعرضه لنفحات الله ومن ذلك حضوره بروحه وجسده في منازل رحمة الله الزمانية والمكانية في الحج .
عظيمة القيمة منها مواقيت الإحرام والتلبية، والطواف والسعي بالبيت الحرام وشهود الكعبة والحطيم، والصفا والمروة ، ومنى، والمزدلفة والرمي، والنحر، وعيد الأضحى وليالي التشريق، وكلها عظيمة .
بيد أن أعظمها على الإطلاق الوقوف بوادي عرفة، بعد الزوال من يوم التاسع من ذي الحجة، في أعظم جمهرة لضيوف الرحمن على وجه الأرض كلها ، دورياً كل عام ، من يوم أن أصبح البيت الحرام خالصاً محررا من الشرك و في الحديث (لا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج مشرك "البخاري5/321" .
في رسالة داوية حملها الصديق رضي الله عنه صارخاً بها في فجاج مكة قال أبو هريرة (أن أبابكر الصديق رضي الله عنه، بعثه - في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع - يوم النحر، في رهط يؤذن في الناس: ألا، لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت).
وليوم عرفة فضائل كثيرة ومحاسن جمة غفيرة منها: كثرة عتق الله لعباده من النار، وأنه سبحانه يباهي بالحاج فيه ملائكته ويعمهم بالغفران وفي الحديث (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء)"مسلم1348".
ومن فضائله أنه يوم عيد وفرح وسرور وفي الحديث (يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عِيدُنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب)"أحمد 4/152" قال ابن القيم رحمه الله: "يوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة، ولذلك كُره لمن بعرفه صومه)" زاد المعاد 1/ 61".
وينفرد الوقوف بصعيد عرفات بأعظم الأركان وأهمها ، به يفوت الحجُ أو يدرك وفي الحديث (الحج عرفة)"أحمد 4/309" قال المناوي:أي معظمه أو ملاكه الوقوف بها، لفوت الحج بفوته" فيض القدير3/406" وعليه بوب الترمذي فقال فمن حرم أن يقف بعرفات قبل طلوع فجر العيد، فقد فاته الحج، وعليه الحج من قابل ، فإدراك الحج الصحيح يتوقف على إدراك الوقوف بعرفة.
ويصوره العلامة ابن القيم في رجز جميل قائلاً :
فلله ذاك الموقف الأعظم الذي
كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنو به الجبار جل جلاله
يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول عبادي قد أتوني محبةً
وإني بهم برٌّ أجود وأرحم
فأُشهدكم أني غفرتُ ذنوبهم
وأعطيتُهم ما أمَّلوه وأنعم
فبشراكم يا أهل ذا الموقفِ الذي
به يغفر الله الذنوب ويرحم
و من قيم يوم عرفة التعبئة النفسية التي يكتسبها الإنسان في الحج ، فإنّها تكفيه لرحلة العمر كلّه، إذا حافظ وحرص عليها صاحبها.
ومن قيم يوم عرفة : أن يُرى الشيطان المكار المُخادع أحقر منه ولا أغيظ منه من يوم عرفة و فى الحديث(ما رُئِيَ الشيطان يوماً هو فيهِ أصغرُ، ولا أَدْحَر، ولا أَحْقَر، ولا أَغْيَظْ منه في يومُ عرفة)"البخاري 6/52" أي أَذَلّ، وأَبْعَد عن الخَيْر، وأشدّ غَيْظاً، وحَنَقاً ...
ومَا رُؤيَ الشيطانُ أغيظَ في الوَرَى
وأحْقرَ منهُ عندها وهو ألأَمُ
وَذاكَ لأمْرٍ قد رَآه فغاظهُ
فأقبلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظا وَيَلطِمُ
وماعاينتْ عيناه مِن رحمةٍ أتتْ
ومغفرةٍ مِن عندِ ذي العرْشِ تُقْسَمُ.
ومن قيم يوم عرفة اللباس ، فالحج لايصح إلا في رداء واحد لأداء فريضة الحج وهذا من أعظم قيم الرحمة في عمر المؤمن ، ولا يدانيه موقفٌ ولا يشبهه ، إلاّ القتال في سبيله إليه.
ومن قيم يوم عرفة : الذكر فالحج يتضمّن ذكراً كثيراً لله من التلبية إلى الإفاضة إلي البيت (وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ)(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشدَّ ذِكْراً).
تجمع عرفةُ قيماً عديدة من حيث الموقع المكاني، والزماني، والمناسك، والشعائر، والاجتماع الإيماني العالمي في صعيد عرفات وقمّته ربوة وادي عرفة فإنّ الرحمة الإلهية تصبّ و تسيل من غير حساب. تحقيقاً لقوله تعالى ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم).
ويتصدر الصوم القِيَم المستحبة يوم عرفات لغير الحاج وفي الحديث (صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده)"مسلم برقم1162"معناه: ذنوب الصائم لمدة السنتين. ويتبع الصوم الدعاء لحديث (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"الترمذي3585" فدعاء يوم عرفة مجاب كله و أجزل إثابة، وأعجل إجابة ، ما أعظمها من ضيافة إلهية ، للقلوب والأرواح على مائدة رحمة وشفاء، وغذاء للقلوب من الله لصالح عباده.
والله يحبُّ اجتماع المؤمنين في عبادته وطاعته ، وفي الحديث (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ، ويتدارسون فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ).
وتجمّع المؤمنين في الذكر والدعاء والعبادة وتلاوة القرآن، أقرب إلى الله وإلى رضوانه ورحمته، من الأداء الفردي للعبادات .
فإنّ الحج يجمع ثلاثة ملايين حاج يقفون على صعيد عرفات , في خدمات متكاملة وبإشراف ومتابعة مباشرة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله ، وسمو ولي عهده الأمين ، وسمو النائب الثاني ، وحكومتهم الرشيدة ،المعنية بخدمة الحاج وهو أمر ماثل في كلّ عام في زمان واحد، ومكان واحد.
نسأل الله أن يقبل من الحجاج حجهم ، ومن الصائمين صيامهم ومن المسلمين أجمعين أدعيتهم ، وأعمالهم ، طاعةً وتقرباً إلى الله سبحانه وتعالى والله من وراء القصد ,,,
المصدر : جريدة الرياض 11/12/1431هـ , بقلم : أ.د.عبدالله محمد حريري جامعة أم القرى.
0 تعليقات