اسواق مكة المكرمة
ضاربة في عمق التاريخ والشحوب يكسو ما تبقى منها
أسواق مكة القديمة .. بين فيض العتاقة وبهرجة الحداثة تغرف من نهر الحنين وتصارع معاول المحو
كانت مكة بحكم موقعها في طريق تجارة الطيوب والغلال وأنواع الأقمشة بين دول الجنوب وممالك الشمال ذات موقع استراتيجي ممتاز . ومنذ صبح التاريخ تزدحم أسواق مكة - طبقا لعديد المصادر والدراسات التاريخية - بالتجار الصاعدين في الشمال إلى الشام ، أو هابطين في الجنوب إلى اليمن ينقلون من بضائع أفريقيا الرقيق والصمغ والعاج والتبر ، كما ينقلون من اليمن الجلود والبخور والثياب ، ومن العراق توابل الهند ، ومن مصر والشام الزيوت والغلال والأسلحة والحرير والخمور فمهروا في التجارة وتضخمت رؤوس أموالهم ، حتى صارت من أهم مراكز الصرافة في العالم القديم. ويذكر المؤرخ أحمد السباعي أن التاجر ( كان يستطيع من أي بلد في العالم أن يؤمن فيها على بضائعه صادرة أو واردة وربما احتاج إلى كثير من المال لسداد ما تطلبه بضائعه فتقرضه المصارف في مكة كما تفعل البنوك اليوم ) .
ولعل التاريخ يحيلنا أيضا إلى رحلتي الصيف والشتاء الشهيرتين اللتين كانت تقوم بهما قريش، وفي موسم معين تعرض قريش وتعرض كل القبائل ما لديها من البضائع والمنتوج في هذا السوق ، وكانت للعرب أسواق كثيرة في معظم أنحاء الجزيرة ، ولكن أسواق مكة كانت أهم كل تلك الأسواق ، يأتي في مقدمتها سوق عكاظ ، والتي إن كانت تتبع الطائف جغرافيا الا أنها تخص مكة من حيث الإفادة على نحو ما ذهب اليه جعفر الخليلي في ( موسوعة العتبات المقدسة ) . وهناك سوق ذي المجاز وكان بناحية عرفة في شمالها الشرقي، وسوق مجنة في موضع قرب مكة.
في العصر الحديث تواصلت الحركة التجارية التي تبلغ أوجها في موسم الحج ( يرجع الفاكهاني في كتابه " أخبار مكة " تسمية الموسم موسما إلى أن الناس يتوسم بعضهم فيه بعضا )، ولعل هذا ما لفت نظر الروسي عبد العزيز دولشتين الذي زار مكة سنة 1898 م فقال في كتابه " الحج قبل مائة سنة ( يمكن وصف أشغال سكان مكة بإيجاز بالغ، يعيشون على الحجاج وقبل الإسلام أيضا ، كانت مكة مركزا تجاريا لعموم الجزيرة العربية ، وكان زمن الحج نفسه زمن السوق التجارية السنوية . وهذا الطابع بقي حتى الآن ، وأثناء توافد الحجاج ، تتحول المدينة إلى بازار هائل ينتشر من أبواب الحرم بالذات في جميع الشوارع والأزقة ).
وكان قبل دولشتين الرحالة السويسري ( بوخارت من أشهر رحالي القرن التاسع عشر ، ففي1814 قصد مكة وسجل في " رحلاته إلى بلاد الجزيرة العربية " وهو يتناول أحوال مكة ( أنه إذا ما سار السائر في محلة الشبيكة إلى الجنوب ، وانحدر قليلا في سيره يصادف ما يسمى بالسوق الصغير الذي ينتهي بباب المسجد الحرام المسماة " باب إبراهيم " ) . وقد وجد بوخارت فيما وجد في هذا السوق أن الجراد كان يباع فيه بالوزن . وظل هذا السوق يمثل واحدا من أعظم وأجمل الأسواق القديمة في مكة بنمطه المنشأ على الطريقة التقليدية للأسواق في المدينة الإسلامية، وهو إلى جانب مجاورته للمسجد الحرام كأقرب سوق اليه ، كان يمثل السوق الرئيس للحجاج الذي يوفر لهم المواد التموينية من خضراوات وفواكه ولحوم وخبز ، وهو أقرب لأهالي محلات الشبيكة وجبل عمر من الغرب وحارة الباب وجبل الكعبة شمالا والمسفلة والهجلة جنوبا . وكانت تنتشر فيه محلات الجزارين ، وتكثر فيه المطاعم الصغيرة التي تبيع الرؤوس أو ما يعرف شعبيا بـ ( لحمة الرأس المندي ) ، إضافة إلى وجود أشهر بائعي السمك المقلي الذي كان يطلق عليه أهالي مكة ( الحوت ) . كما تنتشر محلات بيع الكباب والفول والسمن واللبن والحليب . وكانت هذه السوق تضم أشهر الأفران التي تقدم الخبز طازجا لطالبيه .
وظل السوق الصغير واحدا من أشهر وأعرق أسواق مكة حتى إزالته سنة 1407 هـ لصالح توسعة المسجد الحرام ، واليوم يحتل فندق اتنركوننتال المساحة الخلفية التي كان يشغلها السوق ويفصل بينها وبين إطلالة جبل عمر وجزء مما عرف تاريخيا بـ (ثبير الزنج ) وحديثا بجبل الناقة شارع متوسط لا يزال قائما حتى اليوم .
عذوبة المقاهي
أما في الناحية المقابلة جهة الصفا واجياد فكانت هناك مجموعة كبرى من الدكاكين التي يختلف تنظيمها وشكلها عن السوق الصغير الذي كان أشبه بالخان الإسلامي الكبير ، فدكاكين الصفا كانت تشبه أسواق استنبول على نحو ما يصفها بوخارت الذي رأى في رحلته ( أن عددا كبيرات من هذه الدكاكين يديرها أناس أتراك من أوربا أو آسيا الصغرى ، وكان هؤلاء يبيعون مختلف الألبسة التركية وأنواعها . وكانت تباع في هذه الدكاكين كذلك السيوف الجميلة والساعات الإنكليزية الممتازة ، ونسخ القرآن المزخرفة. كما كان طباخو استنبول يبيعون فيها أنواع المأكولات والحلويات قبل الظهر ، والكباب وغيره من اللحوم المشوية بعد الظهر ) .
ومن أجمل المشاهد التي كانت تميز هذين السوقين وجود المقاهي في أطرافهما ، وكانت تزدحم بالناس طوال الوقت ، حيث الموظفون والعمال والطلاب والمعتمرين ، وتحمل هذه المقاهي ذكرى بديعة لدى عدد كبير من أبناء مكة حين كان المسجد الحرام ملاذهم لمراجعة دروسهم واستذكارها إبان الاختبارات إذ كانت تمثل لهم تلك المقاهي مأوى لاستراحة عذبة يتخللها تناول شئ من النواشف ( الجبن والزيتون والحلوى ) مع الشريك ( خبز حجازي يشبه الكعك ) والشاي . وكان لتلك المقاهي بعد اجتماعي وثقافي وفكري يتقاطع مع طبيعة ونمط الحياة الاجتماعية طيلة تلك الفترة حتى فترة اندثار تلك الحياة بكل تفاصيلها وحلول الحياة الحديثة بكل أنماطها الاستهلاكية والتي لم تبق شيئا كبيرا يشير إلى شخصية المدنية ويحدد هويتها، حيث انحاز العمران إلى ما هو معمم في كل المدن متخليا عن السمة التي ميزت المكان دهورا طويلة .
والى الشمال من المروة على مقربة من الشامية يوجد سوق ( سويقة ) وهي سوق قديمة كانت تمتد ما بين المروة والشامية التي كان يسكنها التجار الأغنياء، وصفها بوخارت بقوله ( ... عبارة عن سوق صغيرة نظيفة على الدوام يعرض فيها تجار الهنود الأغنياء سلعهم الثمينة مثل الموسلين والشال الكشميري ، وهناك أكثر من عشرين دكانا تباع فيها أنواع العطور والدهون والند . وفي دكاكين غير هذه تباع المسبحات والقلائد المرجان والصندل وأنواع المصوغات فضلا عن سلع الصيني الفرفوري . وفي منتصف السويقة توجد مساطب حجرية يبيع من فوقها النخاسون الرقيق من الجنسين ) . وكانت تباع في دكاكين الشامية السلع الشامية والحلبية من منسوجات حريرية وغيرها . ويذكر الباحث المكي ( عبد الله محمد أبكر ) أن سويقة كانت ذات مظلات تقي حرارة الشمس ، وترش بالماء وقت اشتداد الحرارة لأن الأرض كانت ترابية .
وبعد إزالة السوق أنشأ أحد تجار مكة ( حسين قزاز ) سوقا في غرب مكة أطلق عليها اسم سويقة تماهيا مع ما كانت تمثله السوق لمكة وتاريخها .
الاكتفاء الذاتي للمجتمع اقتصاديا
أما في شرق الحرم وابتداء من المسعى وانتهاء بالمعلاة في الشمال الشرقي مرورا بالغزة والراقوبة والجودرية والسليمانية فقد وجدت عديد الأسواق وتعددت اختصاصاتها .
فقديما يروي ابن بطوطة أنه شاهد بين الصفا والمروة سوقا عظيمة يباع فيها الحبوب واللحم والتمر والسمن والفواكه، لدرجة أن الساعين بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام الناس على حوانيت الباعة
وظل الوضع هكذا حتى بدايات الدولة السعودية الحديثة في السبعينيات الهجرية، حيث كان يباع في سوق المسعى الأطعمة والمشروبات ، ويوجد فيها الصيارفة والخياطين وباعة العباءات والأحجار الكريمة والطيب والمساويك والحلاقين ، وكانت تشكل سوقا مهما من أسواق مكة . التي يجيء منها ( سوق الليل ) وهو جزء من حارة سوق الليل التي يطل عليها جبل خندمة ، وفيها مولد النبي صلى الله عليه وسلم والى جنوبه جبل أبي قبيس . وتعود أسباب تسميته بذلك وفقا لما هو شائع عند أهل مكة أن الباعة كانوا يجتمعون فيه ليلا لبيع ما تبقى لديهم من بضاعة لم تنفد ، لذلك كانت المأكولات هي الأكثر رواجا في هذه السوق كالفول والخبز والمطبق والفطائر والعصيدة إضافة إلى اللحوم ، إضافة إلى وجود عدد من باعة الأسماك .
وإذا استمررت في التقدم شمالا تواجهك أسواق الغزة والمدعى والسليمانية والمعلاة . ففي رملة الغزة الممتدة إلى جهة المعلاة كانت تنيخ مواكب المحملين المصري والشامي للتزود بالماء من بركة مشهورة كانت قائمة هناك ، بينما في مقابل السليمانية في السفح الشرقي من الجبل حيث حارة ( شعب عامر التي كان يسكنها الباعة المتجولون من بدو ثقيف وقريش، وكانت توجد المطاحن الكبيرة ، إضافة إلى المصابغ التي تصبغ الأقمشة ، بينما هناك في الأعالي حيث الحجون توجد ( المدابغية ) حيث دباغة الجلود . وكل هذا يشير بقوة إلى أن المجتمع المكي حتى ما قبل أقل من خمسين عاما تقريبا كان مجتمعا منتجا يكتفي ذاتيا بأشياء كثيرة .
وعندما نرجع للغزة نبصر سوق الحصير ، حيث تباع البسط أو ما يسمى شعبيا بـ ( الحنابل والجلايل ) والأشرعة والمقالع والعباءات وهو سوق لا زال موجودا لليوم مثله مثل سوق الغزة الذي يتداخل معه سوقا المدعى والجودرية ، الذي داخلته الميكنة والحداثة فتجد أرقى أنواع البضائع الإلكترونية والساعات الثمينة ، إضافة إلى محلات بيع الأقمشة والأحذية ، وكان هناك شارع صغير ( زقاق ) في المدعى مختص في بيع الأحذية الجلدية التي تصنع محليا ويسميه أهل مكة ( الحذاء الشرقي )، وسوق المدعى لا زال إلى اليوم يحتفظ بطابعه الكلاسيكي الأشبه بأسواق الحميدية في الشام وخان الخليلي في مصر من حيث الشكل والتنظيم وان بدأ يختلف الآن مع تنامي الأبراج السكنية الصارخة الحداثة حوله ، وهدم كثير من البيوتات التي كانت تحمل ( اللهجة المكية ) - بحسب تعبير المهندس سامي عنقاوي المتخصص في العمارة الإسلامية - في طرز البناء برواشينها ونمنماتها الفريدة !!
ومما تبقى اليوم أيضا من أسواق مكة العتيقة وان بشكل شاحب سوق ( الحلقة القديمة ) وهو سوق شديد القدم يقع بين حارتي النقا والسليمانية ويشتهر ببيع المواد الغذائية واللحوم وعديد المأكولات الشعبية.
ملاحظة :
السوق في اللغة تؤنث وتذكر وتجمع على ( أسواق ).
الموضوع مشاركة من الاستاذ : محمود تراوري
0 تعليقات