صالح جمال: صوت الوطن الذي تبنى هموم المواطنين
ما بين ولادة الأديب الراحل صالح محمد جمال في العاصمة المقدسة في عام 1338 هـ، ووفاته في ذي القعدة 1411هـ، بصمات مضيئة خلدها الفقيد لتروى على مدى الأجيال، إذ لا تكاد تخلو المؤلفات التي رصدت الحركة الثقافية والإعلامية في مكة المكرمة في الخمسين عاما السابقة من اسمه.
هو صالح بن محمد بن صالح بن عبدالقادر بن صالح بن عبدالرحمن بن عثمان بن عارف بن محمد جمال، مارس جده عارف بن محمد جمال المتوفى عام 1163هـ، تدريس الحديث والتفسير والفقه بالمسجد الحرام، وخلفه عبدالرحمن بن عثمان بن عارف جمال الذي تولى القضاء بجدة، ثم توفي بالطائف سنة 1290هـ.
ولد (رحمه الله) في مكة المكرمة عام 1338هـ، ودرس في الكتاتيب لتعلم القراءة والكتابة، ثم في مدرسة الفائزين والمدرسة التحضيرية التي أنشأتها الحكومة يومئذ، وانتقل بعد دراسة ثلاث سنوات في المدرسة التحضيرية إلى المدرسة الابتدائية، وكان مديرها الشيخ محمود مرزا (رحمه الله)، وأمضى بها السنتين الأولى والثانية فقط وكانت سنواتها الدراسية أربعا، ثم أكمل دراسته في المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، ولم يكمل دراسته لظروفه الخاصة.
المعهد العلمي
وكانت الجهات المختصة أنشأت المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة كمرحلة ثانوية بعد المدرسة الابتدائية، إذ كان نظام التعليم يومذاك 3 سنوات تحضيرية و4 ابتدائية و3 سنوات ثانوية، ونقل إليه خيرة وأكفأ أساتذة المدرسة الابتدائية، ومنهم الأساتذة؛ محمد حلمي، شيخ بابصيل، ومحمود القاري، وكانوا من أساتذته الذين توسموا فيه القدرة على السير في السنة الأولى من المعهد العلمي فعرضوا عليه الانتقال إليه من السنة الثانية الابتدائية، فانتقل إلى المعهد وأمضى به السنتين الأولى والثانية ونجح للسنة الثالثة، ولكنه لم يكمل دراسته بالمعهد حيث اضطرته ظروف الحياة للعمل موظفا للإنفاق على العائلة، عمل بعدها بوظيفة كاتب في بيت المال بمكة المكرمة، ثم التحق بالمحكمة الشرعية الكبرى عام 1354هـ، وتدرج فيها إلى أن عين رئيسا لكتاب المحكمة المستعجلة، وانتقل في عام 1365هـ للعمل في الشرطة، فعمل بالقسم الإداري، ثم مديرا للمستودعات بالأمن العام عام 1368هـ، وأسس مكتبة الثقافة، ثم دار الثقافة وذلك في عام 1377هـ.
صالح جمال الصحافي
تولى صالح محمد جمال إدارة ورئاسة تحرير صحيفة (المدينة المنورة) عام 1375هـ، ثم أصدر صحيفة (حراء) عام 1376هـ، وتولى رئاسة تحريرها، ثم اندمجت مع صحيفة (الندوة) باسم (الندوة وحراء) وبعد عددين أسماها (الندوة) عام 1378هـ وتولى رئاسة تحريرها، كما أصدر مجلة (الندوة) الشهرية بمكة المكرمة عام 1381هـ، وظل مهتما بالشأن الثقافي والأدبي والإعلامي حتى توفي (رحمه الله) في مكة المكرمة عام 1411هـ.
أبناؤه الـ 10
للفقيد 10 من الأبناء الذكور والإناث يحملون على عاتقهم الاحتفاظ بإرث والدهم الراحل ونشره، وليس سرا تأثرهم بسيرة والدهم العطرة، حيث نهلوا من منابع العلم والمعرفة ليحمل 5 من الأبناء درجة الدكتوراه، 3 منهم في تخصصات طبية، واثنان في تخصصين إداري ولغوي.
أبناء الفقيد هم بالترتيب؛ عفاف (معلمة)، الدكتور طارق (استشاري أنف وأذن وحنجرة)، الدكتور حسن (استشاري نساء وولادة وعقم)، الدكتور ياسر (استشاري جراحة الأطفال والتجميل)، صباح (موجهة تربوية)، حنان (معلمة)، الدكتور فايز (رجل أعمال)، الدكتورة رباب (أستاذة بلاغة)، هيفاء (موجهة تربوية)، وماهر (رجل أعمال)، وهم يؤكدون أن رحلة العمر لوالدهم (يرحمه الله) اتسمت بكثير من المواقف الجلية التي أضاءت لهم الطريق في حياتهم حتى اليوم.
صاحب القلب الأبيض
يروي الأبناء سيرة والدهم العطرة، وهي وإن كانت مختصرة لكنها في المجمل تظل صورة مشرقة من صور عديدة، حيث يصفه عاتق البلادي في كتابه (نشر الرياحين في تأريخ البلد الأمين ــ الجزء الأول) بقوله: صالح جمال، الوجه الصبوح صاحب الابتسامة المشرقة والقلب الأبيض، شيخ أهل مكة في زمنه بلا منازع، صاحب العضويات الفعلية والشرفية الكثيرة، الدائم الحركة الدائب أبدا، سيطول الزمن قبل أن يرى المكيون مثله.
وجه دائم الابتسام
ويقول عنه الشيخ محمد علي مغربي (رحمه الله) في كتابه (أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر والخامس عشر الهجري ــ الجزء الرابع): متوسط القامة، ممتلئ الجسم في غير إسراف، أبيض البشرة واسع العينين، أقنى الأنف، يطالعك بوجه دائم الابتسام، تزينه لحية لطيفة مخضبة، بعد أن سرى إليها الشيب.
مقالات ومواقف
ومن أبرز الملامح التي رويت عن الفقيد (رحمه الله) التجاوب مع كتاباته، ومنها أن وزارة الصحة أصدرت نظاما يقضي بألا تمنح رخصة الدفن للميت (أي ميت) إلا بعد الكشف عليه من طبيب، فكتب مقالا موضحا فيه عدم ضرورة هذا الإجراء مع كل الموتى، فرجعت الوزارة عن هذا الإجراء لصعوبة تنفيذه.
وفي مقالة له بعنوان (انتصار للحق)، طالب بتخفيض تكاليف إيصال الكهرباء وأسعارها، فصدر الأمر بتخفيض قيمة التيار الكهربائي إلى النصف ابتداء من رجب 1383هـ.
وطالب في مقالة له بعنوان (وادي فاطمة) بسفلتة الطريق بين وادي فاطمة وكل من مكة وجدة لما في ذلك من منافع جمة ستنشأ من ربط هذا الوادي بمكة وجدة بمواصلات مريحة، وتمت فعلا سفلتة هذا الطريق عام 1383هـ.
وكتب مقالة بعنوان (الضمان الاجتماعي وصناديق البر)، مطالبا بمشروع عام للضمان الاجتماعي تحتضنه الدولة، فصدرت نظام الضمان الاجتماعي عام 1381هـ وجرى تنفيذه فعلا وصرف عليه من مورد الدولة من الزكاة. وكتب مقالة بعنوان (ما هي الحقيقة في مصح السداد) عن الشكاوى المتعددة من سوء الخدمات في ذلك المستشفى، وطالب بتشكيل لجنة عاجلة لزيارة ذلك المستشفى وإجراء تحقيق دقيق عن تلك الشكاوى، فشكلت وزارة الصحة فعلا لجنة وحققت في الشكاوى، وعين مدير جديد وتحسنت الأحوال.
وطالب في مقالة له بعنوان (ارفعوا ستائر الحجرة النبوية)، وجهها لمدير أوقاف المدينة المنورة بإزالة الستائر الممزقة عن الحجرة النبوية، وفعلا رفعت تلك الستائر بعد المقالة.
وكتب مقالا بصحيفة البلاد 1371 هـ، بعنوان (يا أصحاب الثروات أحسنوا كما أحسن الله إليكم)، وعلى إثر هذا المقال أنشئ صندوق البر بمكة، وهو أول صندوق للبر في المملكة، ليتحول بعدها إلى جمعية البر القائمة إلى يومنا هذا.
المصدر : عكاظ 1433/4/29هـ
0 تعليقات