الطريق إلى مكة .. من ظهور الإبل إلى رفاهية الآليات

صدر الأمر السامي بالمصادقة على نظام تسيير السيارات 1346هـ، وبتشجيع من الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - تأسست الشركة السعودية الوطنية لسير السيارات بالحجاز.


رحلة الحج عبر مراحل التاريخ الإسلامي مليئة بالقصص، حيث كان يواجهها الكثير من المتاعب والصعوبات، بدءا من السفر بالسفن والبواخر والإبل أو السير على الأقدام، وكانت الرحلة طويلة والسفر شاقا، والطريق غير مألوف، وكان أهل الحجاج يودعونهم وهم غير واثقين تماماً من عودتهم؛ لأن هذه الرحلة كانت محفوفة بالمخاطر على الدوام، وكان الحجاج يواجهون مخاطر الجوع والعطش في سفرهم، ويتعرضون أيضا لبعض الكوارث الطبيعية، ومن ذلك العواصف والبرد القارس والأمطار الغزيرة والسيول الجارفة. ويكتب التاريخ للمملكة منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز- طيب الله ثراه- أنها وضعت العناية بالمقدسات ورعاية ضيوف الرحمن في ذروة مسؤولياتها اعتزازاً بهذا الشرف العظيم، وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز- حفظه الله- تشهد مكة المكرمة والمشاعر المقدسة نقلة تاريخية ونوعية في حجم مشروعات التطوير، والتوسعة، وتعدد الخدمات، وسخاء الأنفاق، والخطط التنظيمية المتكاملة، وتوفر لها كل الإمكانات البشرية والمادية. وتعد التوسعة الجديدة للحرمين الشريفين الأكبر في تاريخهما، وتظل مشاعر الحاج فياضة بوصوله لأقدس البقاع لأداء الركن الخامس للإسلام بالحج، بحسب تقرير نشرته ''واس'' أمس

ميناء جدة يستقبل الحجاج قديما. «واس»

طرق الحجاج أقيمت في السابق على طرق الحج منشآت بدائية بسيطة مثل الاستراحات والمنازل والمرافق الأساسية من برك وآبار وعيون وسدود وخانات ( فنادق) ومساجد وأسواق، كما أقيمت على هذه الطرق الأعلام لإرشاد الحجاج إلى الطرق الواجب اتباعها، ولحظة وصول الحجاج إلى مكة المكرمة وقبل دخولهم إلى ما يعرف حالياً بالمنطقة المركزية، كان هناك مركز لاستقبال الحجاج القادمين من جدة بميدان البيبان، وهناك مرشدون ينقلون الحجاج إلى مطوفيهم مباشرة، وقد يكون هذا العمل يشبه تماماً العمل المنفذ حالياً، لكن بنوع من التطوير العصري الذي فرضته الطبيعة التاريخية، حيث كان لكل مطوف مقر خاص يستقبل فيه الحجاج يطلق عليه (البرزة)، التي كانت تشكل تنافساً قوياً بين المطوفين، فكل منهم يعمد إلى إظهار برزته بشكل أفضل رغبة منه في الدعاية وقدوم حجاج في العام القادم أكثر، وداخل البرزة يوجد المطوف، وقد تصدر المجلس فيما نرى عن يمينه وشماله مجموعة من الحجاج القادمين له، وبينهم شيخ وإمام مسجد وعمدة وهكذا، وعند مدخل البرزة يقف أبناء المطوف وعماله في استقبال الحجاج وإدخالهم وتقديم واجب الضيافة لهم. وكانت عملية نقل الحجاج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة ''عرفات ومزدلفة ومنى'' تتم بواسطة الجمال، وكان للجمّالة هيئة يطلق عليها ''هيئة المخرجين''، تتولى مسؤولية إحضار الجمال والجمالة، وتتبعهم جماعة أخرى تعرف بالمقومين، وهم من يتولون تقدير حمولة الجمل من عفش الحجاج وركوبهم، وأجرة الجمل تقدر في كل عام في بداية موسم الحج، فالجمل الذي يحمل الحاج له أجر، والجمل الذي لا يحمل إلا عفش الحاج فقط له أجر، وهذه هي الصورة الأولية لنقل الحجاج.

 

أول تنظيم للحج حديثا تذكر كتب التاريخ أنه عندما دخل الملك عبد العزيز مكة المكرمة أصدر بلاغاً أقر فيه العمل لرفع مستوى الخدمات المقدمة للحجاج من قبل المطوفين والأدلاء والوكلاء وكل من له علاقة بخدمة الحجاج، وصدر نظام إدارة الحج في 20 ربيع الأول سنة 1345هـ، الذي يعد أول تنظيم لخدمات الحجاج في عهد الدولة السعودية، حيث كان في ذلك الزمن يشكل ميناء جدة أعلى نسبة في استقبال الحجاج القادمين لأداء فريضتهم، وكان هناك عدد من وكلاء المطوفين، وهم المسؤولون عن استقبال الحجاج وترحيلهم إلى المدينة المنورة أو مكة المكرمة، وصدر نظام تسيير السيارات، تلاه في عام 1346هـ صدور الأمر السامي بالمصادقة على نظام تسيير السيارات، وبتشجيع من الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - تأسست الشركة السعودية الوطنية لسير السيارات في الحجاز. كما شكلت خدمات الطوافة علاقة جيدة بين المطوفين والحجاج، وكان المطوف مسؤولاً مباشرة عن الحجاج منذ وصولهم إلى مكة المكرمة، وينقل المريض منهم إلى المستشفى باحثاً عن علاج له ومتابعاً لصحته، أما الحجاج المتوفون فإن المطوف مسؤول عن عملية دفنهم وحصر تركتهم وتسليمها لذويهم، وكان المطوف هو المرجع الفقهي للكثير من الحجاج في المسائل التي يبحثون عن إجابة لها فيما يتعلق بالفريضة. وكان يحمل كل مطوف في يوم التروية حجاجه على جمال يستأجرها، ويكون قد جهز مخيمه في عرفات، وعادة ما يصل الحجاج إلى عرفات مساء اليوم الثامن، حيث إن نسبة منهم يتجهون إلى منى صباح يوم الثامن، أما في اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم الوقوف بعرفات، كان المطوف يذلل الصعاب التي تواجه الحجاج، ويوفر المياه، ويتحدث مع الطباخ الذي سيقدم وجبة الغداء للحجاج في يوم عرفة، ويبدأ الحجاج مع غروب شمس يوم عرفات في الصعود على جمالهم قاصدين مشعر مزدلفة حينما كانت وسيلة النقل تعتمد على الجمال، وحينما دخلت السيارات أوجدت نوعاً من الراحة لعملية النقل لعرفات، لكنها واجهت مشكلة تمثلت في قلة عدد الطرق المتجهة من عرفات لمزدلفة، وفي مشعر مزدلفة كانت كل حافلة تنقل الحجاج يصاحبها مرشد لإرشادهم إلى أماكن التقاط الجمار وأداء صلاتي المغرب والعشاء بها.

 

الحج قبل السيارات كان السفر إلى مكة المكرمة بالنسبة لأهالي بعض المناطق المجاورة لأداء مناسك الحج بمثابة الدخول إلى عالم مجهول، وذلك قبل ظهور السيارات وقبل توحيد المملكة، حيث لا يعرف المرء المصير الذي ينتظره، إذ قد تكون تلك الرحلة ''بلا عودة''. وكانت رحلة الحج قديماً تبدأ عندما ينوي المرء أن يحج ويعقد العزم على ذلك باستعداده قبل موسم الحج بعدة أشهر، حيث يعد له راحلة يطعمها ويهتم بها لتقوى على قطع مهالك الطريق، وبعد ذلك يبدأ الحاج في جمع ما يحتاج إليه من نقود بسيطة لقلة ذات يد الكثيرين في ذلك الزمن، فتراه يضاعف جهده من أجل شراء الراحلة وتأمين لقمة العيش التي ستسد رمقه في أثناء الرحيل وحين العودة، إضافة إلى قيمة الهدي للقادرين ولمن يختار نسك التمتع في الحج، وبعد أن يجتمع حجاج كل بيت مع أقاربهم وأصدقائهم، وبعد آهات الوداع الممزوجة بالدموع الحارقة، يخرج حجاج كل بلد في طريق معروف ليلتقوا مع إخوانهم من حجاج المنطقة ويكونوا ركباً متعاوناً. ويوضع على ظهر الراحلة ''الشداد''، ويسميه البعض ''المسامة'' لركوب الرجل على ظهرها، ويوضع للمرأة ''هودج'' أو ''الكواجة''، وهو بمثابة خدر للمرأة تركبه ويسترها عن أعين الرجال، ويصنع من الخشب ويستر بالقماش، ويكون على هيئة صندوق مرتفع السقف، يسمح للمرأة بالجلوس فيه براحة، كما تزود الراحلة بالمزاود التي تعلق على جانبي الراحلة، وهي عبارة عن أكياس مصنوعة من الصوف لحفظ المتاع البسيط، ويكون المشي خلال رحلة القافلة أثناء برودة الجو، وعندما تشتد حرارة الشمس في الظهيرة يتوقف الركب للراحة تحت ظل الأشجار. ويعمد المسافرون أثناء الرحلة إلى أكل بعض الطعام كل على حدة مع أهل بيته بعد أن يترك المطية ترعى حولهم، وقد يكون هذا الطعام بضع تميرات مع مذقة ماء باردة من القرب المملوءة، وقد يعجن البعض من الموسرين الطحين ''دقيق القمح'' ويتبعه بشرب الماء، ومن ثم تواصل القافلة المسير إلى وقت الليل، فيتوقف الركب ويعقل كل راحلته حتى لا تسري أثناء الليل وتتركه بلا راحلة، بل إنّ بعضهم يعقلها ويتوسد يدها لينام الليل وخصوصاً وقت شدة البرد، حيث تجلب له الدفء. وبعد الوصول إلى مكة يؤدي الحجيج حجهم في الاستقرار بمنى، ومن ثم الذهاب إلى عرفة، حيث يجلسون في العراء فلا خيام ولا منازل تؤويهم، بعد ذلك يبيتون في مزدلفة، وإذا أصبحوا ذهبوا إلى منى لرمي جمرة العقبة ونحر الهدي للمتمتع أو القارن، وكانت قيمة الهدي آنذاك لا تتعدى ثلاثة ريالات، فيأكل الحجيج من هديهم ويستطعمون اللحم الذي لم يتذوقوه منذ أشهر، وبعد إتمام الحج يعمد الحجاج إلى تجفيف اللحوم المتبقية من لحوم الهدي، وذلك بتشريح اللحوم وإضافة الملح إليها ليبعد الماء ويسرع في تجفيفه، ويسمى اللحم المجفف ''القفر'' فيأكلونه في طريق العودة، وقد يتبقى قليل منه ليأكله العائدون إلى ديارهم مع أهاليهم، ويكون له طعم ومذاق خاص لا ينسى. ويعود الحجيج والفرحة لا تسعهم بعد أن منّ الله عليهم بأداء مناسك الحج، ويرددون أبياتاً يتغنون بها ومنها: الهجن عدت بنا الأميال.. والحج عنا قضاه الله، وقد يموت أحد الحجاج في طريق العودة فيضطر رفاقه إلى دفنه في الطريق نظراً لبعد الديار، فلا يستطيعون حمله فإن كانوا قريبين من مورد غسلوه وكفنوه وصلوا عليه، ومن ثم حفروا له قبراً ودفنوه، أمّا إذا كانوا بعيدين عن الموارد، وكانت الأرض صلبة غسلوه وكفنوه، ومن ثم وضعوه في أحد الجبال وسدوا عليه قبره بالحجارة حتى يواروه عن السباع، ومن ثم يواصلون المسير إلى الديار لينقلوا خبر وفاته إلى أهله الذين يعيشون الحزن والفرح معاً حزناً على فراقه وفرحاً بحسن الخاتمة، حيث إنّ الحاج يعود من ذنوبه مثل يوم ولدته أمه.

 

الحج بالسيارات بعد أن تحسنت الأحوال المعيشية بعد توحيد المملكة وظهور السيارات في نهاية الخمسينيات الهجرية صار الذهاب إلى مكة لأداء منسك الحج ميسراً بعد السفر سيراً على الأقدام أو بواسطة الجمال، فأصبح السفر إلى مكة عن طريق السيارات التي قلصت الوقت من خمس وعشرين يوماً إلى خمسة أيام أو أقل؛ نظراً لوعورة الطريق قبل مد خط ''الإسفلت'' بعد أن كانت الجمال تشكل أفضل وسيلة نقل في زمن لم يعرف وسائل النقل الحديثة، حيث كانت قوافل الحجاج تصل للأراضي المقدسة، وتحمل كل منها قصة تروي مشقة وعناء السفر، وكان الكل يأتي للحج غير مكترث بالمخاطر التي ستواجهه. وهذه الحقبة من الزمن كانت قبل قيام الدولة السعودية، إذ كانت عمليات السلب والنهب وأخذ الإتاوات دون وجه حق هي السائدة في زمن لم يعرف الحاج فيه الأمن والأمان على ماله وعرضه، بعدها انطلقت البداية الحقيقية لتنظيم خدمات الحجاج فمع عام 1343هـ وتحديدا يوم الخميس 7 جمادى الأولى بعد أن ضم الملك عبد العزيز الحجاز، وأعلنت مبايعته ملكا عام 1344هـ، إذ أعلن- طيب الله ثراه- بحضور الأهالي ورؤساء القبائل والعشائر أن العمل في حرم الله سيكون بما في كتاب الله وسنة نبيه، فلا يحل في هذه البلاد إلا ما أحله الله، ولا يحرم فيها إلا ما حرمه، وأكد أنه سيضرب بيد من حديد وبلا رحمة ولا شفقة على كل من تسول له نفسه العبث بالأمن أو محاولة تعكير صفوه، وركز بصفة خاصة على توفير الأمن والطمأنينة لحجاج بيت الله الحرام في جميع المشاعر والطرقات المؤدية إليها.

المصدر : الاقتصادية 1433/12/2هـ