رمضان فى مكة المكرمة

عادات البلدان تختلف في استقبال هذا الشهر العظيم ولكنها تعود وتلتقي في الإحساس به والشعور بجماله وبهجته.


وتأبى العين أن تذهب إلى غير مكة ويأبى رمضان أن يبوح لنا بأسراره الأولى إلا بين أحضانها... فرمضان ومكة إلفان متحابان، وخلان متعانقان، ومزيجان لا ينفصلان.


فيوم أن شاء الله أن يغمر الأرض بفياضات السماء.. كان رمضان ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن... ).


ويوم شاءت أرادته أن يكون المكان... كانت أم القرى مكة فنزلت أعذب الكلمات على أخصب البلدان في أجل الأيام فامتزجت مكة برمضان وامتزج رمضان بمكة،


ومن أمتع ما دونه التاريخ عن تقاليد المكيين وأحوالهم في رمضان هو ذلك الكلام الرائع الذي دونه المستشرق الهولندي "سنوك هر خونيه" وفيه تسجيل بديع للحياة في مكة أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وقال في وصف مكة في انتظار رمضان :- " وكان أطفال المكيين يتصورون رمضان شيخاً وقوراً جليلاً يبدأ رحلته إليهم من المدينة المنورة في النصف الثاني من شعبان ويزداد ترقبهم لقدومه يوماً بعد يوم، ثم لا يلبث الشيخ رمضان أن ينزل في ساحة المكيين فيستقبلونه بالأناشيد والأهازيج وقد أعدوا لقدومه الورد وما أن تثبت رؤية هلاله حتى تختلف حياة الناس".


فالمدافع تدوي في كل ناحية والعيارات النارية يسمعا كل أحد إعلاناً لدخول الشهر الكريم وتخف الأسر المكية إلى الأسواق لابتياع مئونة الشهر من الطعام والشراب والحلوى ويتفنن الباعة في عرض ما لديهم من تلك الأصناف حتى يكونون لوحة فنية رائعة، وفي ناحية أخرى من مكة المكرمة يأنس المارة بإيقاع كاسات ماء زمزم وقد شرع الزمازمة في تنظيف دوارق الماء وتلميعها ويخرج معلمو الزمازمة ويقومون بفرش السجاجيد والحصر في الأماكن المخصصة لزبائنهم فوق الحصى في صحن المسجد أو بين أروقة الحرم وقبل مد السجاجيد يضعون الدوارق التي تحوي الماء البارد بمعدل دورق لكل خمسة أشخاص.

ثم يصف "هر خونيه" لحظة الإفطار عند المكيين فيقول " إن جميع القادمين إلى المسجد قد أخذوا أماكنهم بانتظار لحظة الإفطار وذلك حين يصعد المؤذن إلى الطابق العلوي الذي يحيط ببئر زمزم ويلوح بعلم إلى القلعة التي ينتظر فيها بعض الجنود لإطلاق المدفع إيذانا بالإفطار، وتسمع أصوات شرب الماء من دوارق الزمازمة وكذلك طرقعة صحون الطعام وفي هذه الأثناء يرتفع الآذان من على المنارات السبع الموجودة في المسجد ثم يؤدي بعدها الناس صلاة المغرب.

أما عن الحرم المكي... فحينما يهل الشهر يشمر المكيون عن ساعد الجد ويعلنون احتفالهم لمقدم الشهر الكريم، فيجددون حصر المسجد ويكثروا الشموع والمشاعل ويتحول الحرم إلى بحيرة من نور ".

ومن جميل ما ذكره العلامة المقدسي إبان رحلته في القرن الرابع الهجري وهو يصف صلاة العشاء والتراويح فيقول: "ويتفرق أئمة المذاهب السنية الأربعة والمذهب الزيدي في أنحاء المسجد الحرام لأدائها واختلاط الصلوات بالأضواء المتقدة من الشموع التي أولع المكيون بإيقادها في ساحات الحرم وأروقته، وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه فيرج المسجد لأصوات القراء في كل ناحية فتعاين الأبصار وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومسمعاً تنخلع له النفوس خشية ورقة".

وبعد أداء صلاة العشاء والتراويح ينتشر المكيون في أنحاء بلدتهم المقدسة ويبدأ البرنامج الرمضاني بالتسوق أو زيارة الأهل والأصدقاء، وفي الأسواق تتناهى إليك أصوات باعة المأكولات الرمضانية الشهية كالبليلة والكبد والمقليات، وتعلوا جلبة الصبية وقد تجمعوا هنا وهناك يلهون ويلعبون ويعبثون.

أما طلبة العلم فلا أعظم ولا أجمل من أن يلتفوا حول أحد أشياخهم في رواق من أروقة المسجد الحرام يتتلمذون بين يديه في أو الحديث الشريف أو النحو أو البلاغة ثم لا يلبسون أن يعودوا إلي بيوتهم ويخلدون للنوم حتى يحين وقت السحر.

ويطيب للكثير منهم أداء العمرة التي يحكي عنها ابن جبير الكناني إزاء القرن السادس الهجري فيقول: "فلما قضينا العمرة وطفنا وجئنا للسعي بين الصفا والمروة وقد مضى هدئ من الليل أبصرناه كله سراجاً ونيراناً وقد غص بالساعين والساعيات على هوادجهن، فكنا لا نتخلص إلا بين هوادجهن وبين قوائم الإبل لكثرة الزحام وإصفكاك الهوادج بعضها على بعض، فعاينا ليلة هي أغرب ليالي الدنيا، فمن عاين ذلك لم يعاين عجباً يُحدث به، ولا عجب يذكره مرأى الحشر يوم القيامة لكثرة الخلائق فيه فمحرمين ملبين داعين الله عز وجل ضارعين والجبال المكرمة بحافتي الطريق تحبذهم بصداها حتى سُكت المسامع، وسُكبت من هول تلك المعاينة المدامع وذابت القلوب الخواشع".

وفي ليلة السابع والعشرين من هذا الشهر العظيم حيث يترقب المسلمون فيها وفي الليالي الآحاد ليلة القدر يأخذ الحرم الشريف زينته ويتجلى في هذه الليلة الشريفة جلال الدين وبهجة الدنيا معاً فيبلغ صحن الحرم مبلغة من الزينة والرياش، وتفنن المكيون في إظهار عبقرية الحسن في حرمهم الآمن، فمن خشب عظام تتدلى منها قناديل كبار وصغار إلى شموع وضاءة إلى زجاج شفاف في هيئات مختلفة ينبع منها الذوق والجمال ويتحول الحرم إلى بحيرة من نور، ويقف بشرفات الحرم كلها صبيان مكة وفي يد كل واحد منهم كرة مشبعة بالزيت فيضعوها متقدة في رؤوس الشرفات وتأخذ كل طائفة من طوائف الصبيان ناحية من نواحي الحرم الأربعة وتجعل كل طائفة تباري صاحبتها في سرعة إيقادها فيخيل للناظر أن النار تشب من شرفة إلى شرفة لخفاء أشخاصهم وراء الضوء المرتمي بالأبصار وفي أثناء فعلهم ذاك يرفعون أصواتهم بالنداء "يا ربّ... يا ربّ" فيرتج الحرم لأصواتهم، فلما كمل إيقاع الجميع بما ذكر كاد يغشى الأبصار شعاع تلك الأنوار فلا تقع لمحة طرف إلا على نور يشعل حاسة البعد من استمالة النظر فيتوهم المتوهم لهول ما يعانيه من ذلك أن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء.


أما عن السحور والمسّحرون فلقد كان للتسحير تاريخ عريق في مكة المكرمة ولقد كان المسحر مظهراً من مظاهر رمضان الاجتماعية حيث يقول ابن جبير الأندلسي في رحلته: "والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة التي في الركن الشرقي من المسجد سبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه يقلدانه، وقد نصب في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التسحر فإذا قرب تبين خيطي الفجر ووقع الآذان بالقطع مرة بعد مرة عند ذلك يحط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة ويبدأ الآذان ويثوب المؤذنون من كل ناحية بالآذان".


وديار مكة كلها سطوح مرتفعة فمن لم يسمع نداء التسحير ممن كان مسكنه بعيد عن المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة وإلا علم أن الوقت قد انقطع.


ويحلو للمسحر أن ينقر على طبلة ويهزج بأهازيج ذوات عدد أو أن يقول " أبرك الليالي والأيام عليك فلان... " ، ويطيب له أن يذكر أسماء رب البيت وأبنائه الذكور ويجد الأطفال في صوت المسحر واختلافه إلى حارتهم ألواناً من الفرح والسرور .


وفي الليالي الأخيرة من هذا الشهر الفضيل يزور هؤلاء المسحرون بيوت المكيين وهناك ينفحون بما يجودون به القادرون من مال أو كساء .


وتغالبهم في الأيام الأخيرة من رمضان دمعات من الحزن على انقضائه ولكن تغلبهم فرحة انتظار العيد والأمل في إدراك رمضان جديد فاللّهم بلغنا رمضان عند بيتك الحرام... اللّهم آمين .

المصدر