الهولندي غرونيه يصف ترقب شهر رمضان في مكة سنة 1885م ( 2- 2 )

 

    ذكرنا في حلقة ماضية بعض ما شاهده الهولندي غرونية عن ترقب شهر رمضان المبارك سنة 1885 م في مكة المكرمة ووصفا آخر لما يمكن أن يحدث بعد ذلك خلال أربع وعشرين ساعة في الحرم والأسواق وعلى مستوى العلاقات الاجتماعية ووصلنا إلى لحظات ما قبل أذان الفجر الذي نستكمله اليوم بداية من طريقة استمرت على مدى العصور في مكة لإعلام من لا يصلهم صوت المؤذن من أهلها حتى يلزموا الصيام وهي وان لم يذكرها غرونية لكن ذكرها الكثير من الرحالة ومنهم بن جبير الذي زار مكة سنة 578 ه وهي عبارة عن قناديل كانت توقد طوال الليل ثم تطفأ مع رفع الاذان وعندما يرى أهل مكة من سطوح منازلهم العالية القناديل قد اطفئت علموا أنّ الوقت قد انقطع ثم ذكرها بن بطوطة عام 1326 ه على نفس النمط وهما كما يقول قنديلان كبيران من الزجاج يوقدان أعلى كل صومعة فإذا قرب الفجر، ووقع الأذان بالقطع مرة بعد مرة حطَّ القنديلان، وابتدأ المؤذنون بالأذان، وأجاب بعضهم بعضاً. فمن بَعُدَت داره بحيث لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحر حتى إذا لم يبصرهما أقلع عن الأكل.

هذه القناديل لم يذكرها غرونية كما أشرنا وهو يشير إلى أذان الفجر من الحرم والذي قال بأنه يسمع بصوت عال وبنفس الطريقة التي يتلى بها القرآن الكريم والذي عده فنا مصقولا بعناية ومتطور جدا في مكة المكرمة ثم يستعرض ما يمكن أن يحدث بعد انقضاء صلاة الفجر حيث يسرع كل من له عمل إلى السوق لان الوقت المناسب لشراء اللحوم والحليب والخضرة والخبز واحتياجات رمضان الاخرى هو الصباح الباكر، يذكر بعد ذلك الشحاذين الذين ينشطون في شهر رمضان وتتوقف جولاتهم الصباحية التي يؤجلونها إلى المساء، ذلك لأن الناس حتى البخلاء منهم يعطون شيئا لإفطار رمضان ثم يصف تجار السوق الذين يجلسون على كنبات حجرية عريضة ومظللة بأكياس من الخيش عارضين بضاعتهم وهم ينادون عليها بأصوات تبدو واهنة بسبب الارهاق البدني والسكون المخيم على المكان، ويستمر في وصف بقية المشهد في قوله: وفي المقاهي التي تبيع القهوة نهارا قد نرى العامل خاملا أو نائما، أما المتفرجون الذين يشكلون عادة جمهور السوق فليس لهم وجود بالمرة اذ إن كل من يأتي إلى السوق يعرف مسبقا ماذا يريد أن يشتري، حتى صيحات الباعة ونكاتهم، وهي عادية في غير هذا الوقت، لا تجد شخصا تدور حوله. وبدلا عن ذلك نجد البائعين يغنون الان اغاني تمجد شهر رمضان.. ويخلط آخرون مع الاغنية كلمات تطلب من رمضان وبطريقة فكهة نوعا ما، أن يمر بسرعة ويعطي الفرصة لانتعاش التجارة.

وقبل شروق الشمس يطوف من لاعمل لهم حول الكعبة، ويتلاقى المعارف يتحدثون عما جد في اليوم وهم يتمشون في انحاء المسجد بعد انقضاء الصلاة، وبعد ساعة واحدة لا ترى في المسجد غير اولئك المتصلة أعمالهم به كالعلماء والطلاب والحجيج والادلاء الذين يساعدون الطائفين في دعاء الطواف والاغوات والزمازمة أما الاخرون فقد ذهب كل في سبيله. والزيارات التي لا تتم في رمضان أثناء النهار الا لسبب ملح.

وتظل المحلات التجارية التي تبيع الأدوات المنزلية والزينات والأقمشة ولوازم الملابس مفتوحة لأن لدى غير المكيين في أماكنهم الجديدة احتياجات كثيرة غير متوقعة، ولان بعض المكيين، ايضا قد نسوا أن يشتروا شيئا أو آخر قبل الصيام، ورغم ذلك يبدو أن أغلب أصحاب هذه المحلات لا يزالون في بيوتهم نائمين. وتدب الحياة من جديد في السوق في أيام الشهر الاخيرة إذ لابد أن يشتري الجميع حنطة لزكاة الفطر ولابد أن يبدأوا، غنيهم وفقيرهم، بشراء ملابس العيد. ورغم أن كثيرين من كبار السن في مكة لديهم ملابس أعياد سابقة الا أنهم يشترون ايضا ملابس أخرى جديدة لعيد هذا العام.

يتعطل كثير من الحرفيين عن العمل، ولا يعمل منهم الا من تمرسوا على تحمل مشاق الصيام وهؤلاء من الاصحاء الذين يعيشون في مكة عيشة بسيطة واعتادوا على الصيام منذ شبابهم. ولهذا فهم يعملون كالمعتاد تقريبا.

ويحمل المكيون المقتدرون ساعات. فمن يذهب للمسجد قبيل غروب الشمس يلقى المئات منهم يخرجونها من جيوبهم أو أحزمتهم عند بداية أذان المغرب، ويضبطونها على الساعة الثانية عشرة (التوقيت الغروبي). وليس لدى معظمهم على كل حال مفهوم ساعات اليوم كأن نقول الساعة الان الواحدة أو الثانية أو الرابعة... الخ، فالاهمية الحقيقية هي في تجزئة اليوم إلى خمس فترات حسب أوقات الفرائض. والليل مقسم إلى الفترتين اللتين سبق ذكرهما والمعلمتين بالتذكير والترحيم، وهناك تقسيم أكثر للوقت حسب عزف الفرقتين الموسيقيتين اللتين تعزفان أمام قصر شريف مكة، وأيضا حسب مواقع الشمس في كبد السماء، ولهذا فالحديث عن الدقائق هنا غير وارد بتاتا.

 

 

المصدر : جريدة الرياض 1434/9/14هـ - سعود المطيري .