ريتشارد بيرتون رحلة إلى مكة والمدينة متخفياً

تمكن بيرتــون من التسلل متنكــراً إلى الديـــار الإسلامية المقدسة فزار عام 1853 المدينة المنورة ومكة المكرمــة، ورسم المسجد الحرام بدقـــة فائقة، وتمكن في العام التــالي من التسلل إلى مدينة هَرر المحرمـــة على الأجانــب في إريتريا.

كان بيرتون قد عـــزم على أن يستخـــدم مكة كمحطة فقط، وينطلق منها لعبور الصحراء، وأن يستكشف ذلك الجزء الشرقي من شبه الجزيرة العربية (والذي لم يكن قد استكشف بعد)، وأن يعبر ذلك الفراغ المخيف:

"الربع الخالي"، والذي لم تطأ رماله أرجل غربية إلا في عام 1931، إضافة إلى فتح الباب أمــام التجارة بالخيــول العربية من أجل تحسين نسل الخيول التي كان يستخدمهــا سلاح الفرسان في الهند، ولحسم السؤال الذي حير الخبراء عن هيدرولوجيا (علم الماء) في الحجاز. عمل دراسة تخص علم الإنسان عن سكان شبه الجزيرة العربية. وكتب واحداً من أهم كتــب الرحلات في العالم، وقد اختار له عنوانا هو "سرد شخصي لرحلة الحج إلى المدينة ومكة".

التسلل متنكراً إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة

للوصول إلى مكة، كان على بيرتون أن يتخفى كرجل مسلم. وهذا ما فعله بالضبط، إذ تنكر في زي رجل دين أفغاني، وانضم لقافلة مصرية قاصدة الحجاز في رحلة شاقة. قضى بيرتون في المدينة شهرا كاملا، شغل نفسه فيه بزيارة معالمها والكتابة عنها، ولقد أضاف بكتاباته تلك الكثير لما سبق أن سجله الرحالة السويسري بيركهاردت، والذي حــال المرض بينــه وبين زيــارة كثير من معالم المدينــة وما حولها من آثار تليدة. عندما وصلت للمدينة قافلة الشام قادمة من دمشق متوجهــة لمكة، إنضم إليها بيرتون، وكان فرحـــا بما سيراه في تلك الرحلـــة، والتي كـــان يتوق إليهــا منذ زمن، إذ كان قد قـــرأ أن الخليفــة العباسي هارون الرشيـد كان قد سلك ذات الطريق للوصول لمكة، ولم يكن أحد من الأوروبيين قــد قــام بمثل تلك الرحلة منذ 350 عاما سوى دي فارثيما (هو الرحالة الإيطـــالي لودو فيكو دي فارثيما، والذي عاصر فاسكو دي جاما وليوناردو دافنشي، ودخل مكة والمدينة في عام 1503.

فتنة الكعبة المميزة

سخر بيرتون فضوله المتوقد وغريزته الاستطلاعية ومواهبــه الكتابية نحو رفقاء رحلته من حجاج الشام والبدو، فكسب ودهم (وهو للتملق مجيد) بترديد أبيات من الشعــر العربــي إذ اكتشف أن تلك هي الطريقة الأنجع لكســب ود عرب الصحراء. قبيــل وصول القافلة لمكة هاجمتها عصابــة من قطاع الطرق وحاولت نهبها.

دخلت القافلة مكة ليلا، وكان على بيرتون الانتظار حتى يبزغ الفجر ليرى وللمرة الأولى الكعبــة المشرفة والمسجد الحرام. تلك كانت هي ذروة مطمحه من كل تلك الرحلة المحفوفة بالأخطار. كتب فيما بعد ما نصه: "أخيرا وصلت إليها. هي مطلبي الأول وهدفي النهائي من كل رحلتي المضنيــة وتخطيطي منذ سنين. رأيتهـا كتابوت ضخــم تغطيـه ظلال قاتمة، لكن كان هنالك من الخيال سراب يعطيها فتنة مميزة وسحرا خاصا. ليس فيــها أو حولها شيء من بقايا آثــار العصور القديمة كما هو الحال في مصر، وليس فيها بقايا من جمال آثار ورموز الجـمال كما هو الحــال في اليونان وإيطاليا، ولا بهاء (وهمجية) المباني في الهند. بالرغـــم من كل ذلك فقد كان منظرها غريبا ومتفردا. يا لقلة أعداد من أدامــوا النظــر في ذلك الضريح".

تأثر بيرتـــون تأثرا لا حد له، ليس فقط بمنظــر الكعبة، بل بالإخلاص والحب الشديد الذي يبديه الحجاج. أدى ذلك الرحالة كل مناسك الحج المعقدة (حسب وصف الكاتب. المترجم)، وسجل بدقة كل طقوسهــا وتفاصيلها الدقيقة. قام أيضا بقياس طول وعرض الكعبة، ونفذ إلى داخلها، وقام برسم ما شاهده على حاشيـــة ثوب إحرامــه الأبيض. زار بيرتون كل الأماكــن التاريخيـة المهمة في مكة وما حولهـا، وكتــب بتوسع عن عــادات وتقاليد سكان الحجاز.

مسح جيولوجي زاد في معرفة الجزيرة العربية

عاش بيرتون في فترة بلغ خلالهــا اهتمام الناس بالاكتشافــات الجغرافية حدًا كبيرًا، وكان كل من يأتي بخطة محكمةٍ للقيام برحلة يتلقى مساعدات مالية ومعنوية. وقد عرض بيرتون خدماته على الجمعية الجغرافية في لندن عام 1852 بغرض إجــراء بعض الاكتشافات الجغرافية في المنطقتين الوسطى والشرقية للجزيرة العربية، ليتوجه من هناك إلى الهند، محققًا بذلك أهدافًا منها اكتشاف أجزاء من الجزيرة العربية، لم تكن معروفة لدى الأوروبيين، وإِمكانية الحصول على خيول عربية للجيش البريطاني في الهند.

وفي عام 1853، غادر بيرتون إنجلترا متجهًا إلى مصر، وبعد قضاء فترة في الإسكندرية اتجه نحو القاهرة، ومنها إلى السويس حيث استقل سفينة متجهة إلى ينبع وقام برحلة استكشافية إلى المدينة ثــم غادرها إلى مكة برًا. ثم رجع إلى القاهرة ليعود إلى الجزيرة العربية بعد ربع قرن، حين قاد بعثة إلى الجهات الشمالية منها بحثًا عن الذهب عام 1877. وفي منطقــة مدين، قام بعمليات مسح جيولوجي تعد مساهمة كبيرة في زيادة المعرفة عن الجزيرة العربية.

كتب "الحـج إلى المدينة ومكة" (1855-1856) التـي سجل فيها انطباعاته الشخصية عــن حياة المسلمين ومناسك الحج، وكذلك كتب "خفايا الحياة في سورية" (1875) . فترجم ونشر المجلدات الستة عشر الأصلية لكتاب "ألف ليلة وليلة" تحت عنوان "ليال عربية" مذيلة بشرحه وتعقيبه عليها.

خشيت زوجته إيزابيل، المخلصة بعد وفاته أن تسيء كتابات زوجها إلى سمعتها، فقامــت بإتلاف نسخة منقحة من "الروض العاطر" كان زوجها ينوي نشرها، وكذلك يومياته وما جمعه من صحف ومعلومات في أربعين سنة، لم ينج منها إلا القليل، ثم ألفــت كتاباً بعنوان "حياة الكابتــن السير ريتشارد بيرتون" (1893) في مجلديـــن، فخلقت منه إنساناً جديداً، وقلبت صورة زوجها رأساً على عقب.

سيرة حياة صاخبة

الأيرلندي ريتشارد بيرتون الذي زار مصر في غضون سنة 1853 أي في أواخر عهد عباس باشا الأول (1848- 1854) وكانت مصر يومئذ تمر بمرحلة انتقال خطيرة كان لها أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

تحدث عن احوال مصر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بل والسياسية في منتصف القرن التاسع عشر، يزيد من قيمتها أن كاتبها ليس بشخص عادي، وإنما رحالة عالم طبقت شهرته الآفاق. يصف بيرتون وصوله إلى مصر عن طريق الاسكندرية ثم إقامته في القاهرة والاحتفال بشهر رمضان هناك، ثم رحلته إلى السويس في طريقه إلى زيارة الجزيرة العربية، وبها المدينة المنورة ومكة المكرمة.

اشتهر من خلال ترجمته لحكايات ألف ليلة وليلة. طرد بيرتون من جامعة أكسفورد عام 1842، فانتقل إلى الهند بصفة ملازم أول في الجيش، وهناك أخذ مظهر المسلمين وقام بكتابة تقارير عن السوق والتجار، ثم انتقل إلى بلاد العرب، وهناك استخدم نفس المظهر الاسلامي، وكان ثاني شخص غير مسلم يحج المدينة ومكة في عام 1855 (تذكر المصادر أن الشخص الأول هو لودفيكو دي بارثيما في عام 1503 ).

وقد تعلم 29 لغة، وعددا كبيرا من اللهجات. من بين الـ30 مجلدا التي كتبها كان هنالك مجلدات على أبجديات فن الحب عند الشرقيين، وأهم ترجماته هي حكايات الف ليلة وليلة. توفي بيرتون في 20 أكتوبر 1890 في النمسا، وبسبب ملاحظاته العرقية أصبح لديه الكثير من الأعداء.

جريدة البيان الامارتية 1434/9/15هـ .