مطوف الزعماء والوفود الرسمية جميل جلال

جميل جلال.. شيخ جليل وقور تلتقيه دوما في ساحات الحرم المكي الشريف بزيه المميز المرتبط بالمشهد العام، تجده في إدارة وهيكل الترتيب الوظيفي في الحرم أيضا، لا تكاد تشاهده إلا برفقة أحد الزعماء الكبار في عالمنا الإسلامي أو لنرى الصورة بالمقلوب لنجد أن الكبار هم من يبحثون عن رفقته وهم يؤدون شعيرة تكاد تكون وشيجة أكثر سموا في علاقتنا بالخالق ونحن نطوف ببيته العتيق.


جميل جلال هذا المطوف المتفرد بمهنة جعلته مختلفا عن غيره ممن هم في الهيكل الوظيفي تشريفا أو تكليفا في الحرمين الشريفين، ارتبط بأسماء عديدة كبيرة في العالمين العربي والإسلامي وهم يؤدون العمرة أو الحج منهم زعماء كبار وقياديون ومثقفون وأدباء وفنانون ورياضيون ورجال سياسة ومجتمع وأعلام والكثير من ضيوف الدولة الذين يناط إليه رسميا مهام طوافهم وسعيهم في البيت العتيق.


رجل لقن الرئيس الجابوني عمر بونجو الشهادتين عندما أعلن إسلامه وأول من طاف به في الكعبة المشرفة وزار معه الحطيم، والأمر نفسه مع كاسيوس كلاي «شافاه الله» والذي أسلم ونطق الشهادتين على يدي الشيخ جميل جلال ليتحول معه أمريكيون كثيرون من أبناء جلدته إلى الإسلام.


صوب هذه الشخصية الاعتبارية لملمت أوراقي وكل ما يمكن أن يكون نقاط التقاء معه من أجل هذه السهرة الرمضانية، فضربت معه موعدا للسحور من شقين.. سحور ضيافة وسحور كلام في بيته المكي المليء بالذكريات والتاريخ والمليئة جدرانه بصوره مع الملك محمد الخامس وابنه الملك الحسن الثاني ثم مع ملك المغرب اليوم الملك محمد السادس، وفي جانب آخر صور مع الرؤساء جمال عبدالناصر والسادات ومبارك ومحمد نجيب، وفي الواجهة الأمامية لمجلسه العامر صور مع الإمام أحمد حميد الدين وضياء الحق وبورقيبة والسيدة الوسيلة بورقيبة ومع محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومع محمد علي كلاي وقس على ذلك.


بدأت حواري مع العم جميل جلال بالتعرف على مسمى وظيفته رسميا وما هي صبغة هذا المسمى وإلى أي مدى ساهمت في إضفاء ذلك الجلال وتلك الوجاهة عليه.. فقال:
أولا أهلا بكم ومرحبا، بالنسبة لعملي الوظيفي والمسمى الرسمي فهو «مطوف وفود رسمية» إذ إنه هناك مسميان في هذا الصدد، مطوف عام ومطوف رسمي، والله يعلم حيث يجعل رسالته، فقد أنعم الله علي بأن تشرفت وكلفت بكوني مطوفا رسميا لضيوف الدولة والاصطفاء هنا جعلني في مكان فيه الكثير من القرب إلى الله، وليس أجمل من النظر إلى نور الكعبة البهي في كل وقت وحين.


• متى كان هذا الشرف قد رفرف بجناحيه على حياتك وكيف؟ وما هي افتراضات الاختيار للتكليف من وجهة نظرك؟.
تعلمت في حلقات العلم في الحرم المكي الشريف منذ طفولتي ويفاعتي في العام 1366هـ أي 1946م قبل اغتصاب فلسطين بعامين وتعلمت الطوافة والتعامل مع ضيوف الحرم على أيدي أساتذتنا ومشايخنا الأجلاء في حلقات العلم في الحرم في تلك المرحلة وهم السيد علوي مالكي والسيد محمد أمين كتبي وأستاذهما الأجل الشيخ محمد العربي التباني الذي كان يسير في مكة والحرم كالقمر وهم من حوله كالنجوم رحمهم الله رحمة واسعة، والتباني كان عالما جليلا وترجع أصوله من الجزائر، كذلك الشيخ محمد نور سيف وهو في الأصل من دبي هاجر منها إلى مكة المكرمة ليستقر متعاملا مع أصول الدين تلميذا وأستاذا وتزامل في نفس الوقت مع المالكي والكتبي.


• هل أدركت المقامات للمذاهب الأربعة في الحرم المكي؟.
نعم، كانت هناك المقامات الأربعة المالكي والحنبلي والشافعي والحنفي في ساحات الحرم ولكن لم يكن ليصلى فيها في فترة تلقي العلم في الحرم بالنسبة لي، وكان تغيير الوضعية هذه في حياة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله. لقد كان أساتذتنا وشيوخنا دائمي السؤال عنا وعن برنامج البيت بأسئلتهم.. ما الذي تزودت به ودرسته في البيت؟ وكانوا يركزون على اللغة ونهج البلاغة، شخصيا أستطيع القول إنني تشرفت بمجالسة أساتذتي المشايخ الذين أنعم الله عليهم بالعلم كما يهتمون في دراستنا بالفقه وذلك على المذاهب الأربعة أما أهم ما يهمهم فكانت اللغة، إذ إنها الأساس في التلقي والأداء أيضا وهي الأهم بالطبع في منهجنا المحدود يومها، كنا نزاحم أساتذتنا في صفوفهم كي نبقى بجوارهم للاستفادة من علمهم وما أكرمهم به الله من نور العلم والإيمان، لقد كانوا يعتبروننا أبناءهم.

• هل تذكر ما هي أهم نصائحهم لكم في مراحل التدريس الأولى؟.
• نعم كانوا يقولون دوما: يا بني العلم استقبال وإرسال فإذا كان الإرسال قويا فالاستقبال سيكون أقوى، بمعنى أن الإخلاص في الإرسال من قبلهم لا بد أن يقابله تلق جيد، كنت يومها


• كيف كان يتم عملك الرسمي مع وزارة الأوقاف؟.
لا.. يومها لم تكن الوزارة قد ولدت، وكنا نتعامل عوضا عن غيابها مع مديرية الأوقاف التي كان أول مدير لها الشيخ عبدالحميد حديدي رحمه الله الذي جاء بعده الشيخ أحمد العربي الذي كان عضوا لمجلس الشورى وهو أستاذ لكثير من أصحاب السمو الملكي الأمراء. ومن هناك كان يتم التعامل مع الزوار والمعتمرين.


• كيف كانت تتم عملية التأهيل للمطوفين في بدء عهدك بالمهنة ؟
كان هذا الموضوع أكثر متعة للمحب لعمله، كيف لا وأنت تتعامل مع أسماء كبيرة ورموز خلدها علمها ومكانتها ووجاهتها بين الناس، كنا نذهب إلى شيخ المطوفين لطلب رخصة العمل كمطوف للحجاج فيرسلوننا إلى مشايخ الحرم الكبار مثل الشيخ علوي المالكي والشيخ عباس عبدالجبار، وهذا الأخير كان وكيلا للشيخ عبدالله بن محمد بن حسن آل الشيخ الذي كان رئيسا للقضاة وكان المشرف العام على المسجد الحرام وكان منزله ومكتبه يطلان على الحرم مباشرة في «باب الداوودية» جوار باب العمرة، فإذا فتح الشباك كان يرى الكعبة أمامه.


• كيف تتم اختبارات قدرات كل منكم كمتقدمين للعمل في الطوافة؟ ومتى كان ذلك تماما؟.
كان ذلك عندما دخلت المهنة يافعا في العام 1366هـ/1946م، نذهب في البدء كمستجدين أهلوا أنفسهم بأنفسهم للشيخ عباس عبدالجبار ليختبرنا في اللغة ثم المناسك ثم الواجبات والسنة النبوية، ولكن هناك شيء أكثر أهمية أن نتحدث عنه، وهو أن قبل كل تلك الخطوات كانوا يعلموننا الأدب في التعامل مع الحجاج والزوار القادمين إلى مكة ويؤكدون لنا في ذلك كثيرا لكي لا تختلف الصورة الذهنية عند هؤلاء القادمين والمخزنة في ذاكرتهم ووجدانهم عن جمال وسماحة أهل مكة شرفها الله أي آداب العمل والتعامل معهم.


• في عملك كمطوف لضيوف الدولة والرسميين، من هو أول زعيم قمت بتطويفه وأنت صغير وفي تلك المرحلة؟.
إذا بدأنا الحديث عن هذا لن ننتهي، فلقد أكرمني الله في هذه المهنة أن طوفت الكثير، بل أستطيع القول كافة حكام العالم الإسلامي وزعاماته على المدى البعيد وكنت أراهم على حقيقتهم الإنسانية كبشر بسطاء أمام الله وأمام الموقف الذي هم فيه في بيت الله الحرام رغم أن بعضهم كان في نظر البعض من الرعايا والأمم أنه طاغية أو جبارا أو ما إلى ذلك، في هذا الموقف الكل يشعر بحجمه الحقيقي أمام مالك الملك جلت قدرته، المهم أنني كنت أتعلم جديدا في كل يوم وفي كل لقاء يجمعني مع أولئك العظماء بعد أن عشت طبيعتهم، وأذكر تماما أن أول زعيم قمت بتطويفه في البيت الحرام كان الملك طلال ملك الأردن ووالد الملك حسين بن طلال رحمهما الله إلى أن طوفت حفيده الملك الحالي الملك عبدالله بن الحسين كثيرا أطال الله عمره، كان ذلك في العام 1371هـ أي في يوم 17 فبراير 1951م. ثم كان التالي الرئيس السوري يومها أديب الشيشكلي في العام 1372هـ الموافق 1952م، ومن بعد ذلك الكثيرين مثل شكري القوتلي والرؤساء المصريين بدءا من محمد نجيب ثم جمال عبدالناصر الذي جاء مرتين طوفته فيهما وأنور السادات والرئيس محمد حسني مبارك والرئيس الباكستاني ضياء الحق منذ أن كان رئيس أركان الجيش قبل أن يصبح رئيسا الذي لي معه الكثير من الحكايا ومن قبله رؤساء باكستان منذ أولهم محمد أيوب خان ويحيى خان وذو الفقار علي بوتو وكل حكام العالم الإسلامي.


• تقول إن حكايات كبيرة جمعتك مع ضياء الحق، ما هي؟ وهل تحولت تلك العلاقة إلى صداقة في يوم ما؟.
أكثر من ذلك بكثير، إذ إنه في عمرته الأولى عام 1971م الموافق 1391هـ وبعد أن رافقته مطوفا طلب أن يزور الأماكن ذات العلاقة بظهور الإسلام، فرافقته إلى غار حراء الذي صعدناه مع مرافقين له ومرافقين من الخارجية والأمن لدينا، كان مجموعنا نحو 87 شخصا وأخذنا معنا إفطارنا وهو عبارة عن كعك وعيش شريك وزيتون وجبن وحلاوة ونواشف عدة وبعد الإفطار في غار حراء حيث كان يتعبد المصطفى سيد البشر عليه الصلاة والسلام التفت إلي ومعنا من كل ذلك العدد فقط 14 رجلا من صحبه وقال لي «إذا جئتني إلى باكستان سأعينك جنرالا عليهم»، قلت له شكرا أكرمك الله ولكني سعيد بالقرب من الكعبة المشرفة وبمهنتي وبلقاء أمثالك قادتنا في العالم الإسلامي، ثم قال لي «أشكرك بأن أوصلتني إلى هذه البقعة المشرفة التي من المؤكد أن كثيرا من المسلمين يتمنى أن يزورها ويجلس فيها، إنها غار حراء الذي بدأ منه نور الإسلام يشرق على العالم بعد الحوار مع سيد البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام»، وانتهى هذا الحوار بدعوته لي للحلول ضيفا عليه في باكستان، بعد ذلك اتجهنا إلى غار ثور، فذهبنا إلى حي الهجرة في أطراف مكة المكرمة وطلب مني يومها أن أشرح له بعض تفاصيل الهجرة ففعلت وتحدثنا عن بداية ظهور الإسلام فاستذكر واستعاد مشهد مطاردة كفار قريش للرسول عليه السلام وصاحبه أبا بكر الصديق وبكى فخامته كثيرا في هذا الموقف ثم ذهبنا إلى موقع مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي في موقعه اليوم مكتبة الحرم، بعدها قال لي «أنا لم آت إلى هنا للعمرة فقط لقد جئت من أجل هذه الزيارة المباركة والحمدلله أن تم ذلك».


• قلت إنه دعاك إلى زيارته في باكستان، هل فعلت؟.
نعم، كان ذلك في العام 1982م الموافق 1402هـ، وهناك عندما استقبلني البلد رسميا ويريدون أخذي إلى مقر الضيافة الرسمية، أوقفهم ضياء الحق ليقول لهم هذا ضيفي وفي ضيافتي الشخصية إنه من مكة لينزل في بيتي، وهذا ما تم بالفعل ونزلت ضيفا في بيت الرئيس.


• هل هناك من حكام آخرين طلبوا منك ذلك أو غيره مما يخرجك عن الأداء الوظيفي الرسمي لهم؟
كثيرون، مثل الرئيس جمال عبدالناصر وإمام اليمن الإمام أحمد وابنه وولي عهده الإمام البدر يومها، في مؤتمر قمة مكة المكرمة الشهير لإنهاء الخلاف بين مصر واليمن في العام 1377هـ الموافق 1957م وذلك برعاية سعودية، ومن ذكريات تلك الأيام أن المؤتمر أقيم في فندق «مصر» وهو المكان الوحيد يومها الذي من الممكن أن يستوعب الزعماء والكبار من الضيوف وهكذا، والذي كان يملكه صدقة وسراج كعكي والذي تحول فيما بعد إلى فندق «الكعكي» وظل طويلا إلى أن أزيل في آخر توسعة، مما يذكر يومها أن الكثير من «شياب وشيوخ مكة» الكبار كانوا يستغربون وجود الأسانسير «المصعد» وكان بعضهم ممن لم يره بعد أو يزور هذا الفندق يقول لي ويسألني «يا ابني تعال فهمني، كيف نطلع لفوق واحنا واقفين؟.. أعوذ بالله كيف هذا يصير؟» إلى أن تتاح لأحدهم زيارة هذا المصعد.

المصدر : عكاظ 1434/9/21هـ