السعودية: الصرافة التقليدية.. مهنة تقاوم الاندثار

بالرغم من انتشار البنوك والصرافات الحديثة في السعودية، فإن مهنة الصيرفة التي تمارس من خلال محلات تقليدية في الأسواق الكبرى في مدن المملكة المختلفة، ما زالت تحتفظ بمكانتها وتقاوم الاندثار، دون أن تعبأ كثيراً بالتحولات التي حدثت في المهنة أو في العمل البنكي الذي سحب منها الكثير من العملاء.

وارتبطت مهنة الصيرفة في المملكة بأسماء عائلات معينة حتى أن بعضها أخذت تعرف لاحقاً باسم هذه المهنة، مثل «الصيرفي» و«الصرفي» و«الصراف»، واشتهرت هذه العائلات وغيرها بامتهان مهنة الصيرفة منذ عقود طويلة جداً، خصوصاً في منطقة الحجاز «جدة ومكة والمدينة والطائف»، وما زالت بعض هذه العائلات تواصل امتهان هذه الحرفة كنشاط رئيسي لها حتى الآن، وهناك بعض أهل المهنة القدماء طوروا أعمالهم في الصيرفة إلى بنوك مثل الشيخ الراجحي الذي كان يعتبر أبرز من مارس عمل الصيرفة في العاصمة الرياض، وحالياً تحوّلت أعماله إلى بنك الراجحي، وتلاه مجموعة أخرى من أصحاب محلات الصيرفة الكبار الذين قادوا عملية اندماج بين صرافاتهم ليؤسسوا بنكاً آخر يقف الآن في صدارة بنوك المملكة، وإضافة إلى هؤلاء يحمل مجموعة من كبار رجال الأعمال في السعودية عرفاناً كبيراً لمهنة الصرافة التي قادتهم لولوج عالم المال والأعمال، ونقلتهم من مجرد أصحاب دكاكين صغيرة إلى أصحاب مؤسسات مالية وشركات كبيرة تعمل في مختلف مجالات الاقتصاد في المملكة.

 

تحول كبير

عرفت مهنة الصيرفة في السعودية منذ تأسيس الدولة السعودية، وكانت الأسواق القديمة تعج بمحلات الصيرفة التي تنشط في عمليات شراء وبيع العملات، خصوصاً من الجنسيات الهندية والفلبينية والأندونيسية، إضافة إلى الجنسيات الأفريقية، وبعد أن كانت هذه المحلات تتعامل في عدد معين من العملات، أصبحت حالياً تتعامل مع تشكيلة واسعة من العملات العالمية، بمختلف أنواعها، وتحتفظ كثيراً من محلات الصيرفة العتيقة في كل من الرياض وجدة بعدد ضخم من العملات القديمة بما يشبه المتحف، فلكل دولة مجموعة من العملات القديمة التي وقف التداول بها، وتعتبر العملات السعودية القديمة هي الأكثر وجوداً في هذه المحلات بحكم عملها في داخل المملكة.

وظلت مهنة الصيرفة تعتمد لسنوات طويلة على العملات المعدنية بحكم عدم الانتشار الواسع للعملات الورقية، وكانت مواسم الحج والعمرة، وما زالت، تمثل المواسم الأكثر نشاطاً في سوق الصرافات التقليدية، حيث تعتبر هذه الصرافات أمراً بالغ الأهمية للحجاج والمعتمرين الذين يتحتم عليهم تبديل عملات بلدانهم إلى العملة السعودية، حتى يتمكنوا من تصريف أمور معيشتهم أثناء موسم الحج أو العمرة، وتحفظ ذاكرة مهنة الصيرفة في المملكة أن أكثر العملات التي كانت تتم صرفها بالعملة السعودية هي عملة «الفرانسة» و«الروبية» الهندية، وهاتان العملتان (معدنيتان) كانتا من أشهر العملات التي ترد إلى الصرافات، وكانت محل تداول في كثير من الدول العربية والإسلامية، إلى حين دخول العملات الورقية، واستقلال كل دولة بنظام وتشكيلة معينة من العملات الورقية والمعدنية.

ومن العملات الأكثر تداولاً بالتغيير والتحويل حالياً هي الروبية الهندية والبنجلادشية والأندونيسية، إضافة إلى العملات الرئيسة في العالم كالدولار، وأخيراً، اليورو وكان في الماضي سعر الصرف يعتمد على المعتمر أو الزائر أو السعر المتداول في السوق، في حين يتوصل إلى سعر الصرف حالياً على مدار الساعة بواسطة متابعة أصحاب الصرافات لشاشات الكمبيوتر.

ولم تكن المهنة قديماً تتطلب الكثير لكي يقوم المرء بممارستها، فليس هناك سوى توفير مبلغ معين من المال، ليبدأ معها عمله في تبديل العملة الأجنبية بالمحلية، بالإضافة إلى صفة الأمانة والقدرة على التعامل بعدد من اللغات التي يحتاج إليها في مواسم الحج والعمرة.

 

ارتبطت بالعالم

وبجانب الزوار القادمين من الخارج، كانت لمحال الصرافة عملاء معتبرين من السعوديين الذين كانوا يقصدون هذه الصرافات قديما للحصول على الفئات الصغيرة من العملة السعودية التي لم تكن منتشرة كثيرا فيما مضى، وكان الهدف من طلب هذه الفئات الصغيرة في الغالب هو تخصيصها كمصروف يومي لأبنائهم من طلاب المدارس، وذلك كما يحكي احد ممارسي مهنة الصيارفة القدماء في المملكة.

ومع ان محال الصيرفة تعتبر هي المكان التقليدي لتبادل العملات وصرفها، إلا أنها أدخلت عددا من الأجهزة الحديثة في عملها، فهي حاليا تعتمد على شاشات الكمبيوتر ونشرات الأخبار في التلفزيون ومتابعة المؤشرات العالمية، لمعرفة أسعار صرف العملات أولا بأول، خاصة وأنها أصبحت تتعامل الآن باليورو والدولار والإسترليني في مقابل العملات العربية والخليجية والأفريقية والآسيوية الأخرى، أو في مقابل الريال السعودي، كما أدخلت الماكينات الحديثة التي تكتشف العملات المزورة من الحقيقية بعدما كان الأمر يتوقف على خبرة الصراف، فالصراف المتمرس والخبير في المهنة كان يكتشف العملات المزيفة بواسطة النظر واللمس فقط من دون ان يضطر للاستعانة بأي جهاز الكتروني.

وتعتبر مدينة مكة المكرمة هي أول منطقة شهدت انطلاقة لمهنة الصرافة، وتمركزت محال الصرافة في المنطقة المجاورة للحرم المكي، وتحديدا في منطقة القشاشية وزقاق الصاغة ومنطقة السوق الصغير، ويعتبر الشيخ عمر بايزيد من كبار وأوائل الصرافين في مكة، حيث ظل يمارس المهنة لمدة خمسين عاما متواصلة حتى الآن، وكذلك هناك الشيخ عادل ملطاني الذي هو حاليا شيخ الصرافين في مكة. وفي جدة كانت المهنة تمارس من خلال شارع معين اكتظت فيه محال الصرافة وهو شارع قابل. أما في الرياض العاصمة فان مهنة الصرافة تتركز في منطقة البطحاء، وهي المنطقة التي تمثل العصب التجاري للرياض قديما، وماتزال تذخر المنطقة بمجموعة كبيرة من محال الصيرفة التي تجد اقبالا واسعا من المقيمين الأجانب والسعوديين على حد السواء.

 

جيل جديد

ويقود العمل في الصرافات القديمة حاليا الجيل الجديد من اسرة الصرافين القدماء، وفي صدارتهم اسرة كعكي، والعمودي وبازيد، وينوي هؤلاء توريثها لأبنائهم من بعدهم حتى تظل المهنة باقية في الاسرة.

ويقول عادل الملطاني شيخ الصرافين في مكة «احرص على توريث مهنتي لأبنائي من بعدي ولن افرط فيها ابدا»، مشيرا إلى انه رغم الطابع الوراثي لمهنة الصرافة، فان العاملين بها يحرصون على اللحاق بركب التطور التقني والمؤسساتي الذي تفرضه الظروف الاقتصادية اليوم.

ويوضح «قبل أكثر من ستين عاما كانت العملات المعدنية المتداولة هي الفرنك الفرنسي، أو الريال العثماني إلى جانب الذهب والفضة فقط»، مضيفا «لم يكن هناك أكثر من ثلاثة أو أربعة صرافين حينذاك أشهرهم الكعكي والملطاني والعمودي، وهي مهنة تتوارث من الآباء إلى الأبناء».

ويقول احد قدامى العاملين في هذه المهنة: أتذكر قبل نحو 45 عاما عدة أسماء من الصرافين القدامى، منهم الشيخ سليمان الراجحي، وهو يحمل بيده «شنطة» فيها عملات، وكان يتجول بها ليشتري ويبيع لنا، واستمر ارتباطه بهذه المهنة طويلا.

المصدر : القبس الكويتية 2013/07/10