الحج وطقوسه الروحانية

مكة بلد الله الحرام, فيها بيت له حرمته وقدسيته,

مكان تتجسد عبقرية جلاله في روحانيته, وجماله في جاذبيته وقداسته.

 ولاسم مكة دلالات لغوية وإيمانية, التي تبك فيها الذنوب, وتهوي إليها أفئدة المسلمين, وهي القبلة التي تتجه نحوها وجوههم من جهات الكرة الأرضية الأربع في صلواتهم ودعواتهم. تهيم في رحابها وأرجائها الروح عند المطاف والحطيم والحجر والمقام وعند المروتين. 

يا حنايا أم القرى فيك قرّت
مهجٌ ما انطوت على شحناء 
ما زلت أتذكر طفولتي في بيت كان في حمى حرمه ملاصقاً لباب من أبوابه. باب الدريبة في ممر ضيق يصل بين باب الحرم وسوق السويقة. فمكة النائم فيها كالعابد, وفي بيتنا كنا نشعر أننا نسك الحرم, حيث تصل صفوف المصلين أيام الجمعة والمواسم الروحية إلى (دهليز) البيت وتتعداه لما بعده. وإذا ذكرنا رمضان, فإن من طقوسه الطواف بالبيت قبل المغرب, وفك الريق في رواق الحرم بباب السلام ومن ثم الصعود إلى البيت لاستكمال وجبة الإفطار. وفي موسم الحج الذي نستعد ويستعد له أهل مكة, بعد الانتهاء من أيام عيد الفطر. تستعد البيوت القريبة من الحرم للإعداد لاستقبال ضيوف الرحمن من حجاج بيت الله الحرام. وتتداعى في خاطري ذكريات لا تنسى في أرض لا تجد روح الجلال والجمال إلا في رحابها وبطاحها:
  تفتـــق بيـن راحتيها الصـباح
وشَعْشَع في شفتيها القــــــمرْ 
 وأزهت بها الشمس فوق البطاح 
وجَنْ بـها الليــل حلو الصـــــورْ

ترتيبات واستعدادات مبكرة للحجاج 

كانت تتبدى لنا تباشير موسم الحج حين كانت تصل لنا أخبار وصول الحجاج تباعاً في الأيام الأخيرة من شهر شوال, فأسرتي توارثت الطوافة كما توارثت العلم أباً عن جد. فالشيخ عبدالحميد قدس رحمه الله كان الإمام الشافعي بالمسجد الحرام, حين كان للمذاهب الأربعة أئمتها في بيت الله الحرام, وكان لكل إمام مقام حول الكعبة. وكان جدي من المطوفين الأوائل وله تلاميذه من الحجاج وممن لزموا المسجد الحرام أو قدموا إليه لتلقي علوم الشريعة والفقه واللغة. وكان رحمه الله فقيهاً ولغوياً وشاعراً. حافظ أفراد العائلة, كبارها رجالاً ونساءً, على تمسكهم بمهام الطوافة وخدمة الحجيج, ولازال الأحياء منهم حتى اليوم أعضاء مساهمين في مؤسسات الطوافة. ما أن تصل برقيات وصول الحجاج ميناء جدة حتى يتم إخلاء الطوابق الأولى من البيت, تمهيداً لإسكان الحجاج فيها, وتنتقل الأسرة إلى الغرف القريبة من السطح أو (السَّطُوح), وكنت مع إخواني وأقاربي نشعر بالسعادة الغامرة, ونحن نرى أسرتنا تحتفي بقدوم الحجاج, وكان من واجبات المطوفين أن يقوموا بضيافة الحجاج لمدة ثلاثة أيام, وكان في البيت فريق من العُمّال والحُمّال والطباخين ومشرف عام عليهم يتولون خدمة الحجاج وقضاء حوائجهم وتسهيل أمورهم. ونستيقظ صباح كل يوم قبل الذهاب إلى المدرسة, بتناول الإفطار وفي البيت رائحة طبخ ونفخ الحجاج, وقد ارتبطت في ذهني برائحة الموسم كله, وتعلو أصوات المقرئين تنطلق عبر أثير الإذاعة, بأصوات أشهر المقرئين, وفي مقدمتهم مقرئو الإذاعة الحجازيون: زكي دغستاني, عبدالله خياط, محمود آشي, سعيد نور, وعباس مقادمي. تلك الصور حين تضيء الذاكرة؛ أتذكر الحجاج والحج وطقوسه وتجلياته.

 الحج والطوافة وبيع السبح

نعيش خلال فترة موسم الحج أياماً مختلفة, يتغير فيها نمط الحياة, وما اعتدنا عليه في أيامنا طوال السنة, حيث تبدأ إذاعة مكة ببث ابتهالات التلبية وأناشيد الحج في منتصف شهر ذي القعدة, وكنا نتآلف مع الحجاج الذين يسكنون معنا في البيت كأسرة واحدة نشاركهم أكلهم وشرابهم ويشاركوننا ما نأكل ونشرب, ويفرحون لفرحنا ونشاطرهم مشاعرهم. كان كل حاج يحضر معه من بلاده صندوقاً من الخشب, فيه الشاي والقهوة والسكر والأرز والزيت وأنواع من الحلوى والبسكويت والأكل المعلب, ويُهدي إلينا بعضهم صندوقاً, أو بعضاً مما فيه, وأوحى لي أحد أقربائي مرة الاستفادة مما يُهدى إلينا, فبسطنا بسطة (طاولة عليها قطعة من القماش وترمس مليء بالقهوة وإبريق فيه حليب, وتشكيلة من قطع البسكويت, فنبيع كوب القهوة مع ثلاث قطع من البسكويت بنصف ريال وكوب القهوة دون البسكويت بربع ريال), عمل آخر اكتسبت منه مبلغ خمسة ريالات, في تجارتي البسيطة, إذ قمت بتطويف (إرشاد الحجاج وتلاوة دعاء الطواف حول البيت) عدد من الحجاج في بيتنا وكان عمري يتعدى التسع سنوات بعدة أشهر. كما كنا نقوم بمرافقة الحجاج واصطحابهم لزيارة قبور السيدة خديجة والمعلاة وبئر طوى في جرول, مقابل مبلغ من المال أيضاً.

 

الحارات والأسواق 

 كانت حارات مكة القديمة كالشامية, حارة الباب, الشبيكة, القشاشية, الغزة, قاعة الشفا, السليمانية والفلق وغيرها, تحيط بالمسجد الحرام إحاطة السوار بالمعصم, وكانت تحيط به أسواق مكة المشهورة, كالمدعى, سوق الصغير وسوق الليل, وكان المسعى قديماً تصطف على جانبيه الدكاكين والأسواق. وكانت السيارات تمر من الغزة, وتخترق المسعى, أما سوق السويقة أو سوق الشامية, السوق الممتدة بين المسعى ناحية الصفا وأجياد, إلى منطقة باب الزيادة؛ فهي القريبة من دارنا والتي تكتظ بالحجاج في أيام الحج. ويهتم تجار مكة بموسم الحج ويحرص الكثير منهم على توفير الكثير من السلع وهدايا ذكريات الحج كالمسابح والسجاجيد والأحاريم والثياب والأقمشة والعطور والساعات.

وتمتلئ الأسواق بالحجاج, بعد النزول من منى وانتهاء شعائر الحج, والتاجر الذي لا (يُوَسّم) في الحج يعد خسراناً في ذلك العام. وقد ارتبط موسم الحج بالتجارة, حيث يتم تبادل البضائع وتسويقها. وفي المواسم وأيام الجمع, اعتدنا مشاهدة الكثير من المظاهر والطقوس الروحانية, كالشحاذ الضرير الذي يتلو آيات سورة الكهف, وبعض الفقراء الدراويش منهم يرددون الابتهالات الدينية والأدعية المأثورة, بفطرتهم وبساطتهم التي تثير مشاعر ضيوف الرحمن وحنينهم للديار المقدسة.

 

علاقة وطيدة بين أهل الحرمين وحجاج بيته الحرام 

منذ طفولتنا وكما نشأنا. وهذا هو إحساس كل فرد في هذا البلاد, ندرك أن حجاج بيت الله ضيوف, من واجبنا خدمتهم, وبأريحية وطيب نفس نقدم لهم ما يحتاجونه من خدمات, وقد غرست بيوت مكة سواء من كانوا من أرباب الطوافة وخدمة الحجاج وسقايتهم, أو من غيرهم, في أبنائها؛ أن خدمة الحجاج واجب مقدس, وقد انصهرت علاقة الحجاج بأهل الحرمين الشريفين, فصارت بينهم أواصر رحم وعلاقات اجتماعية وعلاقات ود وتجارة على مدى التاريخ.

المصدر : المجلة العربيةالعدد( 443 ) ذو الحجة 1434هـ - أكتوبر 2013م

بقلم الاستاذ : محمد علي قدس .