هل نقل “مقام إبراهيم” من مكانه سيخفف زحام الطواف؟

مع تطلع المسلمين في أنحاء العالم إلى زيارة البيت الحرام ورؤية الكعبة المشرفة تتبادر إلى الذهن مسؤولية خدمتهم وتسهيل إجراءاتهم حتى يتمكنوا من زيارتهم بأفضل الطرق وأسهلها، وفي هذا السياق تبرز العقبات التي تعترض المعتمرين والحجاج إلى بيت الله الحرام لا سيما حول الكعبة التي تهفو لها قلوب الملايين من المسلمين، وفي ظل الحلول التي تتخذها الجهات المسؤولة لحل إشكالية الازدحام حولها يتجدد سؤال نقل مقام إبراهيم من مكانه لما يسببه -في نظر البعض- من ازدحام؛ فهل فعلًا مكان «مقام إبراهيم» عائقًا أمام سيولة الطائفين حول البيت؟ وهل تستدعي هذه الإعاقة نقله من مكانه؟ وهل هناك حلول أخرى تسهل الحركة من غير نقل «المقام» من مكانه؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على عدد من المتخصصين والشرعيين في سياق التحقيق التالي:


بداية قال خبير الآثار الإسلامية بمكة والمدينة الدكتور سامي عنقاوي: إن هناك دراسات تثبت أن المقام ليس عائقًا أمام الطائفين وليس سببًا للزحام الحاصل في الطواف، وأكد عنقاوي أنه ليس هناك من سبب ملح لتغيير مكان «مقام إبراهيم» عليه السلام من مكانه. وأوضح عنقاوي أن هذا المقام يؤدي فائدة عملية في الزحام حيث يقوم بكسر موجة الزحام المتدفقة في الطواف وتخفيف ضغط الحركة مثل ما تفعل الصخرة المعترضة طريق السيل الجارف حين تخفف من قوته. وطالب عنقاوي بالحفاظ على الآثار وعدم إزالتها من مكانها بطريقة عشوائية. وقال عنقاوي: إن كثيرًا ممن يؤيد إزالة الآثار أو التساهل في تغيير معالمها يقع في فخ ثنائية مصطنعة إما خدمة المسلمين وإزالة الآثار الموجودة، وإما بقاء الآثار المادية والتضييق على الناس (إما البشر أوالحجر)، مؤكدًا أنه بالإمكان الجمع بينهما. وأوضح عنقاوي أن سبب الازدحام هو الصلاة خلف المقام وحتى لو نقل المقام فإن الناس ستصلي أيضًا في نفس المكان. وأشار عنقاوي إلى أن إزالة ما تبقى من آثار سيقضي على أصالة وتاريخية الأماكن المقدسة وما تمثله من عمق حضاري لأمتنا. وأوضح عنقاوي أنه يجب أخذ آراء الفقهاء الشرعيين ولكن بعد عقد الدراسات العلمية والعمرانية المتخصصة والتي تبين الحاجة إلى تغيير مكان المقام من عدمه. وأكد عنقاوي أن مقام إبراهيم يعد من الآثار المتفق عليها وليس كغيره من الآثار، لذا يجب المحافظة على مكانه وتاريخيته.



المكان الحقيقي
فيما يرى أستاذ التاريخ بجامعة أم القرى وأحد المتخصصين في تاريخ مكة وآثارها الدكتور فواز الدهاس عدم استحسان نقل أو تغيير مقام إبراهيم عليه السلام، مشددًا على أن هذا المكان الذي عليه المقام حاليا هو المكان الذي كان محددًا في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم – وفي عهد الخلفاء الراشدين رضوان عليهم، فبقي على ذلك 14 قرنًا، مشيرًا إلى أن هذا الموضع هو أقرب نقطة لبداية الطواف ونهايته. وأوضح الدهاس أن إبراهيم – عليه السلام – وضع المقام مما يلي باب الكعبة من جهة الحجر، وربما كان هذا المكان الذي انتهى بإبراهيم – عليه السلام – البناء حتى تطاول البناء على قامته، ثم استمر على مكانه حتى عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى عهد عمر الخطاب رضي الله عنه 17هـ، حينما داهم سيل أم نهشل الحرم فاقتلع المقام وألقى به بعيدًا عن الحرم، فأخبر عمر وهو في المدينة بالخبر، فأسرع إلى مكة فدخلها محرمًا بعمرة في شهر رمضان المبارك، واجتمع بالصحابة، وقال: أنشد الله عبدًا علم موضع المقام من الكعبة، فتقدم إليه عبدالمطلب بن وداعة السهمي، وقال: أنا عندي علم بذلك، وكنت أخشى عليه من ذلك، فكانت لديه رضي الله عنه مقاسات تحدد مكان المقام، فأخذ يحدده بحبل من موضعه حتى باب الكعبة ومن موضعه حتى الحجر، ومن موضعه حتى زمزم، واستمر على موضعه حتى اليوم. وأكد الدهاس أن هذا المكان للمقام هو مكانه الحقيقي.

الرجوع إلى الأصل
من جانبه لم يرَ الباحث الشرعي الدكتور أحمد بن قاسم الغامدي بأسًا في نقل مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام وتغييره من مكانه لمصلحة الطائفين. وقال الغامدي: إنه لم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه ما يمنع من نقل المقام لموضع آخر لمصلحة راجحة فضلا عن إزالة الضرر والتيسير على الناس. وحول رده على من ذهب إلى عدم جواز نقله، رد الغامدي بأن موضع المقام في الأصل كان لصيقًا بالبيت وإنما أخره لموضعه اليوم عمر بن الخطاب كما روي عن عطاء بن أبي رباح وغيره قال: «يزعمون أن عمر أول من رفع المقام فوضعه في موضعه الآن، وإنما كان في قبل البيت»، وعن هشام بن عروة بسند قوي: «أن رسول الله وأبا بكر وعمر بعض خلافته كانوا يصلون صقع البيت حتى صلى عمر خلف المقام»، ويشهد لهذا ما جاء عن ابن عباس: في قصة بناء إبراهيم للكعبة وإسماعيل يناوله الحجارة – قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه لـه، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وعن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم، فقرأ «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى» فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين، مبينا أن هاتين الروايتين تشعران بأنه كان لصيقًا بالبيت وهو موضعه في الأصل حتى أخره عمر توسعة للطائفين فالأولى رده لمكانه.
وأكد الغامدي أن عمر نقله لمصلحة التوسعة على الطائفين مما يدل أنه كان يرى جواز نقله لمصلحة الطائفين والطواف، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة والتابعين، لافتًا إلى أن عدم نقل النبي للمقام ليس دليلًا على المنع، ولا يصح تسميته تركًا، بل الظاهر أنه من جملة ما سكت عنه الشارع، فهو عفو، فإنه يشترط في اعتبار ذلك الترك من السنة أن لا تتوفر الدواعي لفعل ذلك الشيء، وهذا النوع هو الغالب فيما سكت عنه الشارع من الأعمال. أما إذا توفرت هناك الدواعي لفعل ما وتركه النبي فهنا يصلح القول بأن ترك النبي فعل ذلك، وكون ذلك الترك هو السنة، ثم إن ترك النبي لفعل مّا مع توفّر الدواعي لفعله قد يكون لـعـارض بحيث يقال إنه لولا ذلك العارض لأنشأ هو ذلك الفعل، ومثال ذلك ترك النبي إعادة بناء الكعبة على ما هي عليه في عهد إبراهيم لقرب عهد بعض المؤمنين بالإيمان، وفي مثل هذه الحالة يكون القيام بذلك الفعل من قِبلنا أحسن من تركه حيث زال ذلك العارض المانع من ذلك الفعل، وأما ما تركه بيانا لمشروعية الترك، فهو المسمى عند أهل العلم بـالسنة التركية، مشيرًا إلى أن ذلك حاصل فيما إذا توفرت الدواعي للفعل واتسع المجال لأن يفعله النبي ومع ذلك ترك فعله، ومثال ذلك تركه النداء لصلاة العيدين، وفي مثل هذه الحالة يكون القيام بذلك الفعل من قِبلنا إحداث وابتداع، وهذا هو معنى قوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منا فهو ردّ». وأوضح الغامدي أن جواز نقل المقام هو الراجح حيث كان في عهد النبي هو الأولى، وإلصاقه بالكعبة إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب، وذلك لما فيه من العمل بإقرار النبي له في هذا الموضع، ولقوله في الصحيحين لعائشة: «ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم»، فقالت لـه: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت». وفي هذا ندب لإعادة بناء الكعبة على ما كانت عليه في عهد إبراهيم متى زال المانع، وإبقاء المقام في موضعه الأول عملًا بالأصل في إقرار النبي لـه في مكانه يجري على المعنى المندوب إليه في إعادة بناء الكعبة على بنائها الأول. وأكد الغامدي أن ما ذكر من مخافة فتنة الناس اليوم بنقل المقام إلى مكانه الأول يزول بتبصير الناس بالحق، فنقله لموضعه الأصلي هو الأولى وهو الأنسب لما فيه من فسحة للطائفين، كما أشار الغامدي إلى أن من قال بجواز نقله جماعة من العلماء منهم المعلمي في رسالته: (مقام إبراهيم) ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالته: (الجواب المستقيم في جواز نقل مقام إبراهيم) وعلي الصالحي في رسالته: (التنبيهات حول المقام).


السدلان: نقل «المقام» من مكانه للمصلحة أولى لما يسببه من عرقلة للطائفين
وفي ذات السياق قال أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية صالح السدلان إن هناك حاجة لنقل وتغيير المقام لما يسببه من عرقلة للطائفين، موضحًا أن هذا أمر محسوس وملموس على أرض الواقع. وأضاف السدلان أن هذه القضية بحثت وعرضت على العلماء ولم يبت فيها بشيء إلى الآن، وعن وجود مانع شرعي من نقل المقام وتغييره أجاب السدلان بأن هناك مانع شرعي، لأن بعض المعرضين يحتجون بأن هذا المقام من عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ولم يتغير أو ينقل، لكن السدلان أكد المصلحة فوق كل ذلك.


مشيرة إلى إمكانية استيعاب الأعداد المتزايدة بتنظيم المداخل والمخارج
أبحاث الحج: زيادة 60 متراً مربعاً تؤدي إلى زيادة في معدلات الطواف بحوالى 34%
عرض: غازي كشميم
في دراسة قديمة أصدرها مركز أبحاث مركز الحج عام 1408 بعنوان (دراسة الحركة بالمطاف) حصلت «المدينة» على نسخة منها، أوضحت أن مقام إبراهيم في حد ذاته لا يشكل عقبة هامة في حركة الطائفين وإنما سلوكيات بعضهم وإصرارهم على الصلاة في منطقة قريبة منه. وكشفت الدراسة أن عدد الساعات التي تتمثل فيها ذروة المشكلة كاملة هي فترة زمنية في حدود حوالى خمس ساعات طوال العام، وهي الساعات التي تكون فيها دائرة الطائفين في أكبر انتشار لها ملامسة لجدار المسجد القديم، والكثافة في أعلى حدود لها عند أطراف الدائرة (7-8 أشخاص/للمتر المربع)، ويصل مجموع الفترات الزمنية لملامسة الجدار الجدار الشمالي والجنوبي للمسجد القديم حوالى 15 ساعة عند كثافة متوسطة وقليلة عند الجدار (3-4 أشخاص/للمتر المربع)، وهذا يعني بحسب الدراسة أن الحاجة لتوسعة المطاف ليست بقصد استيعاب أعداد أكبر من الطائفين وإنما بهدف توفير منطقة أمان لانتشار الطائفين، وصمام أمان في فترة الذروة فقط. وأظهرت الدراسة أنه بزيادة نصف قطر دائرة المطاف من 45متر مربع إلى 60 متر مربع فإن هذه الزيادة في مساحة المطاف هي في حدود 77% بينما تؤدي هذه الزيادة إلى زيادة في معدلات الطواف بحوالى 34% فقط.


وأوضحت الدراسة أنه يمكن استيعاب الأعداد المتزايدة للطائفين بتنظيم الدخول والخروج من خلال مداخل الحرم المختلفة والتي أشارت إليها الدراسة بالتفصيل، وباتخاذ أساليب تنظيمية للاستفادة من عنصر الزمن في أوقات الطواف. يذكر أن مركز أبحاث الحج قام بهذه الدراسة الشاملة للتعرف على أوضاع الحركة بالحرم المكي الشريف وفي المطاف بصفة خاصة مع التركيز على فترات الازدحام الشديد. وقد تمت الدراسة على مرحلتين: الأولى: خلال النصف الثاني من شهر رمضان المبارك لعام 1407هـ، والمرحلة الثانية خلال النصف الأول من شهر ذي الحجة لنسف العام. وهدفت الدراسة إلى الإجابة عن عدة أسئلة أهمها: هل هناك حاجة إلى توسعة مساحة المطاف؟ وما مدى هذه الحاجة؟ وما المعوقات التي تؤثر على سيولة الحركة أثناء الطواف؟ وكيف يمكن تنفيذ التوسعة هندسيًا في حالة الحاجة إليها؟ وما مدى التحسن الذي سيطرأ على حركة الطواف نتيجة التوسعة؟ وتشير الدراسة التي قام بها أعضاء الفريق البحثي بمركز أبحاث الحج في تلك الفترة إلى أن مؤسسة بن لادن والمنفذة للمشروعات العمرانية في الحرم المكي قد ساهمت في تلك الدراسة. وقسِم الفريق البحثي إلى عدد من المجموعات بحيث اختصت إحدى المجموعات بدراسة الحركة أثناء الطواف مع التركيز على الكثافات المختلفة للطائفين وأثرها على سرعة الطواف. والمجموعة الثانية مخصصة لدراسة العناصر التي قد تعيق سيولة الحركة أثناء الطواف مثل مقام إبراهيم والحجر الأسود وخط البداية ومداخل زمزم وغيرها.

الرسالة 1435/3/2هـ