أخبار مكة المكرمة وما جاء فيها من الآثار

إذا كان التاريخ جغرافية الماضي، والجغرافية تاريخ الحاضر، فإن الخطط هي همزة الوصل بينهما، وفرع منهما، لأن الخطط مزيج من التاريخ والجغرافية تبحث في تاريخ البلدان، وتطورها خلال العصور المختلفة، وقد كان ولا يزال التأليف في هذا العلم فاشياً بين الأمم والشعوب منذ أقدم العصور.
 
وقد سار المسلمون على غرار من تقدمهم في هذا النوع من التدوين فكان لهم القدح المعلى في تأليف كثير من خطط البلدان الإسلامية التي ما برحت من أوثق المصادر التي يرجع إليها في التاريخ والجغرافية فكان لها ولا ريب الفضل الأكبر في حفظ تاريخها وتتبع معالمها وآثارها.
 
خطط الأزرقي :
وكتاب (أخبار مكة المكرمة وما جاء فيها من الآثار) هو كتاب خطط أكثر منه كتاب تاريخ، فقد تتبع الأزرقي إنشاء الكعبة المعظمة، ومعاهد مكة المكرمة وما فيها من آثار وأماكن، وألم بمجمل تاريخها وجغرافيتها منذ نشأتها وأتى على صورة موضحة مما سلف لها من مجد طارف وتليد بحيث تجمعت في الكتاب ميزات خاصة قلما تجدها في كتاب غيره، وصار ما وضع بعد ذلك من الكتب التي تبحث في خطط مكة عالة على خطط الأزرقي.
 
وقد درسنا كتاب (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) درساً وافياً واستقصينا بحوثه استقصاء تاماً فألفيناه كتاباً مهماً، غزير المادة، كثير الفائدة رغم خلوه من الأبحاث السياسية والاجتماعية.
 
طريقته في التأليف:
وقد اختط الأزرقي لنفسه خطة سهلة سلسة في تدوين كتابه هذا وقسمه إلى بحوث وفصول مبوبة مستوفاة عن طريق الرواية المعنعنة التي رآها الغربيون أنها أقوم طريق فاتبعوها في مؤلفاتهم مع تبديل طفيف، وتوخى الإفاضة في ما يهم طلاب التاريخ والجغرافية والأدب، وإننا نعتقد أن الأزرقي من جهابذة المؤلفين الذين يعتز بهم العرب والمسلمون في تقييد كثير من الشوارد والأوابد، وفي تدوين طائفة كبيرة من المعلومات التي يندر أن يجدها المتتبع في كتاب آخر لذلك فإن كتابه يعد في طليعة المصادر القيمة التي لا يستغنى عنها طالب علم.
 
الطبعة الأوربية:
لقد كان كتاب الأزرقي مفقوداً، إلى أن أتيح لفردينان وستنفيلد  (1) المستشرق الألماني الوقوف على ثلاث نسخ منه في بعض مكاتب أوربا، فانكب على دراسة هذه النسخ ومقابلتها وتصحيحها، ثم باشر طبع الكتاب في ليبسك بألمانيا وانتهى من ذلك في عام 1858 ميلادية (1275 هجرية)، فجاءت الطبعة في 518 صفحة منها 14 صفحة للتصحيحات، وعلاوة على ذلك فإن الناشر صدر هذه الطبعة بمقدمة تاريخية عن المؤلف بلغ عدد صفحاتها 25 بحث فيها بحثاً مستفيضاً عن الأزرقي وخططه ووصف النسخ الخطية التي اطلع عليها وغير ذلك من المعلومات القيمة استفدنا منها أثناء البحث عن ترجمة الأزرقي كثيراً، وقد أصبحت النسخة المطبوعة من خطط الأزرقي نادرة جداً حيث مضى على طبعها 75 سنة.
 
طبعتنا الجديدة:
وقد تصفحنا الطبعة الأوربية مراراً، حين دراستنا لخطط الأزرقي فألفيناها مشحونة بالتحريف، مملوءة بالتصحيف، ونحن مع احترامنا للناشر الفاضل لعنايته بطبع العشرات من الكتب العربية، فلا يسعنا إلا إظهار الأسف لاقتصاره في الطبع على بعض النسخ الخطية منها دون أن يحمل نفسه مشاق مراجعة المصادر الأخرى لتصحيح هذا التشويه، وذاك التحريف.
 
وقد كان هذا التحريف والتشويه في مقدمة العوامل التي حملتنا على طبع خطط الأزرقي طبعة مصححة، اعتماداً على ثلاث نسخ خطية وقد جعلنا حين الطبع نسخة الطبعة الأوربية أماً، بحيث كنا نجعلها الأساس في التصحيح، وتبويب الأبحاث والفصول إلى غير ذلك من المسائل.
 
وصف النسخ التي اعتمدنا عليها:
أ) وهذه الطبعة، كان وستنفيلد أخرجها للناس عام 1275 أي منذ 77 سنة وهي في 518 صفحة من القطع الوسط وبحرف دقيق يضاف إليها مقدمة للناشر باللغة الألمانية تقع في 25 صفحة.
 
ومن الفصول المهمة التي وضعها الناشر هو المجلد الرابع من المجموعة التاريخية لمكة المكرمة، فقد ذكر فيه المستشرق خلاصة تاريخية عما ورد في المجموعة التاريخية، مع إضافة خارطة لمكة المكرمة وضعها وفق التعريفات التي ذكرها الأزرقي في كتابه، مع فهارس أبجدية الأسماء الأعلام والقبائل والأماكن.
 
النسخ الخطية:
أما النسخ الخطية التي اعتمدنا عليها في تصحيح طبعتنا هذه فهي ثلاثة:
 
نسخة المدينة الأولى:
ب) النسخة الخطية الأولى، وهي من مخطوطات المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة (قسم التاريخ رقم 53)، ناقصة الأخير نقصاً كبيراً بحيث يحتوي الموجود أكثر من النصف، وعدد صفحاتها الخطية (278) وكل صفحة تحتوي على 23 سطراً، وطولها 24 سانتيماً وعرضها 17 سانتيماً.
وقد جاء في غلافها ما يأتي:
 
(كتاب تاريخ مكة حرسها الله تعالى. كامل ولله الحمد). وأخبارها وما جاء في ذلك تأليف أبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق ابن عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني الأزرقي رحمه الله تعالى آمين)).
 
وجاء في آخر النسخة (ما كان عليه حوض زمزم في عهد ابن عباس رضوان الله عليه ومجلسه) ولم يذكر تاريخ الكتابة ولا اسم الناسخ وإنما الأرضة أكلت بعض هذه الصفحة.
 
وهذا القسم الموجود من النسخة المذكورة فيه بياض في بعض الأماكن منها وكانت قريبة من النسخة (د) الآتي وصفها، وهي صنوتها.
ولكن هذه النسخة تمتاز عن أخواتها بأن مقدمتها تحتوي على أسماء رواة تدل على شيء من تاريخ كتابتها، وإلى القارئ ما ورد فيها:
ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء قبل أن يخلق الله تعالى السموات والأرض وما جاء في ذلك:
 
نبأ الشيخ الإمام السند الأوحد إمام مقام إبراهيم صلوات الله عليه أبو عبد الله محمد بن الشيخ الإمام السيد الأوحد الإمام بالمقام الشريف أبي بكر بن الحسن الطوسي، قال: حدثنا الشيخ الأجل أبو القاسم عبد الرحمن بن ديلم الشيبي فاتح بيت الله الحرام، والشيخ الأجل أبو موسى عيسى بن محمد البستي، قالا نبأ الشيخ العدل أبو علي الحسن بن خلف بن هبة الشامي، قال: حدثني أبي أبو القاسم خلف بن هبة الله بن قاسم الشامي في المسجد الحرام سنة سبع وخمسين وأربعمائة قال: نبأ أبو محمد الحسن بن أحمد بن نافع الخزامي، وأبو بكر أحمد بن عبد المؤمن قالا نبأ أبو محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق الخزاعي وهو عم أبي الحسن الخزاعي قال نبأ: أبو الوليد.. الخ.
 
ج) والنسخة الخطية الثانية هي من مخطوطات المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة أيضاً (تاريخ رقم 96)، وهذه النسخة كاملة غير أن فيها بياض أكثر من الأولى وتتفق والأولى نصاً في كثير من الأحايين ويكاد تاريخ روايتها أن يقارب زمن رواية النسخة الأولى، ولكنها تختلف وإياها بأن فيها تحريف، أشرنا إليه في أماكنه.
 
وهذه النسخة تقع في 407 صفحات، وفي عدد أشطر صفحاتها اختلاف.
وقد ذكر على غلافها ما يلي:
أحمد حمالى سنة 1141
كتاب أخبار مكة حرسها الله تأليف أبي الوليد الأزرقي رحمة الله عليه وأول سيدنا الفقيه الإمام العالم العامل الصدر الكبير الر.... وحد المحترم.
جمال العلما سيد الفضلا مفتي المسلمين بقية السلف جمال الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد المجيد بن حفص الصقراوي أبقاه الله تعالى ونفع به، تأليف أبي الوليد الأزرقي في أخبار مكة والكعبة للطواشي الأجل الكبير المحترم الرئيس الأخص الأوحـ... تقى الدين جوم المسعودي أدام الله سعادته وتوفيقه وأجاز له أن يرويه عنه مناوله بروايته عن الفقيه الإمام الحافظ أبي الطاهر أحمد ابن محمد السلفي الأصبهاني رضي الله عنه عن أبي الحسن علي بن المشرف الأنماطي قال أخبرنا: أبو علي الحسين بن محمد بن عيسى القيسي قراءة عليه في شهور سنة سبع وخمسين وأربع ماية عن أبي جهضم الصمداني عن أبي إسحاق أحمد الخزاعي عن أبي الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي المصنف ورواه أيضاً سيدنا الفقيه الإمام العالم جمال الدين أبقاه الله عن الشريف أبي محمد عبد الله بن يحيي بن إسماعيل العثماني الديباجي عن أبي مشرف المذكور وذلك بتاريخ السادس عشر من ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وستمائة بثغر الإسكندرية المحروس".
وتنتهي النسخة بما يلي:
((آخر كتاب مكة حرسها الله تعالى نسخة جمعه الفقير إلى ربه نصر بن عبد المنعم بن أبي الوقار السرخي عفى الله عنه وغفر له ولوا...)) ا هـ.
أما الصفحة الأولى من هذه النسخة فهي تبدأ:
"بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
ذكر ما كانت الكعبة عليه فوق الماء
قبل أن يخلق الله السموات والأرض وما جاء في ذلك

حدّثنا أبو محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي قال: حدثنا أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد بن أحمد الأزرقي الخ.."
النسخة الثالثة:
د) ووقعنا على نسخة خطية ثالثة في مكتبة الأستاذ الشيخ عبد الستار الدهلوي من علماء مكة المكرمة، يقول صاحبها أنه نسخها بقلمه عن النسخة الخطية الموجودة في دار الكتب بمصر القاهرة.
 
وهذه النسخة كاملة وهي في جزئين وتمتاز عن النسخ الأخرى أنه مضاف إليها فهرساً للمواضيع العمومية.
والجزء الأول يحتوي على 285 صفحة من القطع الكبير، في كل صفحة 23 سطراً، وينتهي بفصل (ذرع المقام).
والجزء الثاني يحتوي على 233 صفحة من القطع الكبير، في كل صفحة منه 23 سطراً أيضاً: وقد كتبت عناوين هذه النسخة بالحبر الأحمر.
وهذه النسخة قريبة الشبه من المطبوعة في ليبسك، حتى يكاد الإنسان أن يقول بأنها منسوخة عنها، وفي بعض الأماكن منها بياض قليل.

وقد جاء في غلاف الجزئين:
"كتاب أخبار مكة المشرفة وما جاء فيها من الآثار
تأليف العلامة المؤرخ أبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي المكي رواية أبي محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق بن نافع الخزاعي المكي.
الوقف لله عز وجل بالمكتبة الفيضية المباركشاهوية البكرية المكية حرسها رب البرية عن كل آفة وبلية آمين".

وجاء في الصفحة الأخيرة من الجزء الأول:
((إلى هنا انتهى النصف الأول من تاريخ مكة للإمام المؤرخ أبي الوليد محمد ابن عبد الله بن أحمد الأزرقي من رواية أبي محمد إسحاق بن أحمد بن إسحاق ابن نافع الخزاعي.
ويتلوه النصف الثاني أوله باب ما جاء في إخراج جبريل زمزم لأم إسماعيل عليهما السلام".

وجاء في الصفحة الأخيرة من الجزء الثاني:
"إلى هنا تم كتاب تاريخ مكة للأزرقي برواية أبي محمد الخزاعي المكي والحمد لله كما هو أهله وصلواته على نبيه محمد سيد الأولين والآخرين وآله وصحبه وسلامه وحسبنا اله ونعم الوكيل.

وكان الفراغ من النسخ بحمد الله وعونه وحسن توفيقه على يد كاتبه لنفسه ولمن شاء الله من بعده أبي الفيض عبد الستار بمكة المشرفة والحمد لله وحده.
ونقلت من نسخة نقلت خلف المقام في المسجد الحرام تجاه الكعبة المعظمة في شعبان سنة تسع وثمانين وسبعمائة من الهجرة".
وقد أغفل الأستاذ تاريخ النسخ فلم يرد ذكر لذلك في هذه النسخة.
 
وقد أضاف الأستاذ الناسخ في آخر الجزء الثاني ترجمة للأزرقي الجد والحفيد والخزاعي الراوية نقلاً عن العقد الثمين وغيره، وأشار إلى مختصري الأزرقي وانتهى بحثه في ذكر بعض تواريخ مكة التي وضعت بعد الأزرقي.
 
رموز النسخ:
وقد رمزنا لهذه النسخ في هوامش الكتاب بالإشارات التالية:
أ - الطبعة الأوربية.
ب - نسخة المدينة الأولي.
جـ - نسخة مكة.
د - نسخة المدينة الثانية.
طج - طبعتنا الجديدة هذه.
 
طريقتنا في التصحيح:
وكنا نرجع إلى النسخ الخطية الثلاثة، لتصحيح المتن في الطبعة الأوربية، وقد كانت هذه الأصول كثيرة التحريف والتشويه، لذلك كنا نرجع في المسائل التي لا نطمئن إلى صحتها، إلى مصادر أخرى من دينية وتاريخية وبوجه خاص خطط مكة المكرمة، فجاءت طبعتنا الجديدة كما يراها القارئ خلوة من التحريف إلا ما ندر.
 
وقد أردنا أن نضيف إلى كل بحث من بحوث الأزرقي تعليقات تتضمن ما وقع بعد المؤلف على التفصيل والتقصي، ولكننا أحجمنا فيما بعد فاكتفينا بالتعليقات المختصرة، اللهم إلا في الأبحاث التي لا غنى عن ذكرها، فعلقنا عليها تعليقات مطولة. ومن الأبحاث المهمة التي أضفناها إلى هذه الطبعة بحث (في بناية الكعبة الأخيرة) وآخر في (تاريخ كسوتها) ثم بحث تحليلي عن (ذي الخلصة) يراه القارئ في الصفحة 256 من هذه الطبعة، وهذا البحث كان مجهولاً فأجلينا غامضه، وبينا حقيقته. ويقيننا أن هذا الفصل يسر رجال العلم والتحقيق.
 
أما الأعلام من الأماكن فقد علقنا على بعضها وأشرنا إلى جهاتها وتحديداتها، وأغفلنا ذلك في القسم الآخر نظراً لورود ذكرها في القسم الجغرافي من خطط الأزرقي - وهو يقع في الجزء الثاني من طبعتنا هذه - وسنحلى هذا القسم بالشروح الوافية إن شاء الله تعالى.
 
خاتمة البحث:
وقد قسمنا الكتاب إلى جزئين تسهيلاً للمراجعة، وعنينا بإخراج الطبعة نظيفة، ووضعنا لها فهارس ليسهل على القارئ مراجعة الأبحاث التي يريدها بدون عناء ولا مشقة.
 
ولا نحب الإطالة في بيان محاسن هذه الطبعة، فهي تدل على نفسها بنفسها، وجل ما نبتغيه أن يكون طبع خطط الأزرقي مقدمة لطبع خطط البلاد العربية السعودية وتواريخها التي حفظتها لنا المكاتب العامة والخاصة وهي كثيرة ولله الحمد لا سيما في هذا العهد الزاهر الذي يمكن أن نسميه عهد (النهضة العلمية) الحقة، نظراً لما نراه من عناية:

حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود المعظم

بنشر العلم والثقافة بمختلف الوسائل وشتى الأساليب، خلد الله ملكه وأطال عمر جلالته ذخراً للمسلمين والعرب وركناً للعلم والأدب آمين.
 مكة المكرمة، غرة شوال سنة 1352هـ .
توقيع/ رشدي الصالح ملحس