في رحاب مكة !

سؤال داهمني عند اللحظة التي عبرت فيها الطريق بعد غيبة طويلة عن مكة المكرمة، في اتجاهي إلى الحرم الشريف: هل ينبغي أن تكون مكة المكرمة مدينة عصرية جديدة متطورة تشبه المدن العصرية الحديثة؟! هل التحديث في مكة (أم القرى) وتأهيلها لتدخل قائمة أكثر المدن تطورا وحداثة يعد واجبا؟!. قبل أن تتحقق هذه الزيارة إلى البيت المعمور كان الشوق قد استعمر كل حواسي، وكانت اللهفة قد بلغت مداها.. فمدة الغيبة طويلة طويلة أخجل ذكرها من باب إذا ابتليتم فاستتروا!

كان الخيال يحلق بي متسائلا كيف صارت هذه الطاهرة بعد كل هذه السنين! كيف تغيرت؟ كنت أتأرجح في تلك اللحظات الفاصلة بين البعد واللقاء على حبال التأمل والتخيل والتوقع، كأنني للتو خرجت من سرداب مظلم إلى النور وعيناي لا تستطيعان احتمال قوة النهار بعد أن أمضيت ردحا من العمر في الكهوف!

وأخيرا هذه (مكة) يا أنا! وجهها ليس غريبا وحضنها -كعادته- يتسع لكل الألوان البشرية والفئات والأنواع والجنسيات! أخيرا يا الله هذه مكة! طافت بي الذكرى وشدتني إلى الوراء «أنا بنت مكة»؛ ولدت فيها كما يقولون، ورضعت فيها أول رشفة حليب! وبها تفتحت عيناي على الدنيا وأبصرت الكون الفسيح، وفيها أول خروج من رحم أم تتلقفني أرض وأصبح إنسانا! واليوم أنا فيها مشتاق عابر، يتعلق بصره في الموجودات كلها أرض وسماء وشارع وسكة وزقاق وحارة ووجوه ومنعطفات ومعلقات! يا زمان الحب القديم لمدينة مكرمة جوفها ناصع وعنقها للسماء.. الليلة اللقاء الجديد ترقبت حلوله وانتظرت ساعته في عمر جديد، بحب جديد يتجدد بمرور الوقت والأيام! هل حقا هذه مكة وقد أمسيت فيها.. أهلا باللحظة الحلوة.. وبالمكان الأثيرأ وبالطهر العفيف.، وبذلك الشموخ لمآذن ليس كمثلها في الكون كله! هنا تحتضن الأرض أطيب بقعة وأطهر بقعة.. وأكثر البقاع تميزا وامتيازا وميزة لا تعلو عليها ميزات في الدنيا كلها!

هذه مكة، وفيها البدايات وجئت استمد القوة منها إلى النهايات!
فهل ينبغي أن نخطط لتغيير «قدمها» و«عراقتها» و«أزقتها» التي كانت وحدها أزقة في مقابل مدننا الأخرى التي كلها شوارع؟! والسؤال الأرجح ما الذي ينبغي أن يتغير في مكة وماذا يجب أن يبقى؟ طالعت عيناي طريق أم القرى؛ وهو الطريق الوحيد للحرم الشريف كما كان عليه من زمان الزمان! ذات الأبنية المائلة إلى الأمام وكأنها آيلة للسقوط في أية لحظة! ذات الطريق الضيق الذي تسير عليه مختلف ذوات الأربع من الإنسان والحيوان وعجلات السيارات الكبيرة والصغيرة!.

والشاحنات تعبر الطريق وقت الذورة وكأنها تعبر في الصحراء ليس معها أحد! إنه اللقاء الجديد بعد زمن بعيد يثير في النفس حبا يتجسد لغير البشر من جدار وحجر، ومكة نحبها بحجرها وجبالها وأحجارها فماذا بعد؟!

عكاظ 6/11/1431هـ