فقيه مكة خرّيج الحرم نجم الجنادرية
نشأ يتيماً ربّته أمٌ صالحة أفنى جزءً كبيراً من حياته في ملازمتها حتى وفاتها ، وبرّها براً انعكس توفيقاً وتنويراً في حياته العلمية والعملية حتى وصل إلى أعلى الدرجات العلمية والمراتب الأكاديمية ، خدم العلم الشرعي والتاريخ المكي خدمات جليلة تأليفاً وتحقيقاً علمياً فريداً ، شارك ومثّل المملكة خير تمثيل في كثير من المحافل الدولية .. ذلك هو شيخنا الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان فقيه مكة خرّيج الحرم ، الذي ملأ الدنيا بمؤلفاته ودراساته العلمية القيمة ، وشغل الناس بكرمه وتواضعه الجمّ في تباعدٍ عن الأضواء وبهرجة الإعلام لمن يعتلون مناصبه .
لم يخطر ببالي في يوم من الأيام ولو للحظات أن أحظى بلقاء أحد كبار علماء المملكة ، وكبير سدنة التعليم العالي بالجامعة ، وأحد فقهاء مكة البارزين في التأليف والدراسات المعاصرة .. ففي فترة كتابتي لخطة رسالة الماجستير حول حلقات العلم بالحرم المكي الشريف ، أرشدني مشرفي إلى ضرورة زيارة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والاستفادة من توجيهاته في هذا الموضوع الذي عاش فيه معظم تفاصيل حياته العلمية ، وقد تمّ تحديد موعد المقابلة بكل يسر وسهولة ، فزرته بمنزله وكانت المفاجأة حينما استقبلني بنفسه من الباب حتى أجلسني في صالونه ، وكان يلبس ثوباً وطاقية بلا غترة ولا عقال ، وكان يسألني عن الحال والأحوال والجامعة والدراسة وكأن بيننا معرفة قديمة ! ولا أنسى تلك الابتسامة التي ارتسمت على محيّاه حينما قرأ خطة بحثي عن علماء الحرم المكي ، وكيف وجّهني إلى تقليص فترتها الزمنية واختصار بعض محاورها والتوسع في بعضها ، وأرشدني إلى المصادر والمراجع المهمة في ذلك ، بل أخذ الورقة وأخذ يكتب ويرسم بقلمه هيكلاً للدراسة مقترحاً تفاصيله التي أثرت وأنارت لي الطريق ، وقد أعظم في إكرامي حينما أصرّ على تقديم الضيافة بنفسه من قهوة وحلوى أبى إلا أن يكون حاملها ومقدّمها وحده ، فلله ذاك الجبل الأشم في تواضعه الجم . إ
ن ما ذكر أعلاه ليس خاصاً بشخصي البسيط بل هو أسلوب تعامل وأخلاق نبيلة لا تغيب عن الدكتور أبو سليمان مع كل طالب للعلم وباحث في المعرفة يقصد بابه المفتوح وصدره المشروح ، بل إنه لا يترك طلابه بعد توجيههم فهو دائم الدعم جزيل العطاء ؛ فلا أنسى كرمه حينما حمل رسالتي للماجستير - بنفسه - بعد مناقشتها وطباعتها إلى أحد أشهر مراكز النشر العلمي وزكاها لكي تكون من إحدى مطبوعاتها .
فما أحوج العلماء إلى التواضع والقرب من الناس وتلمّس حاجاتهم ومشاركتهم همومهم ؛ فخير الناس أنفعهم للناس ، وهكذا كان ديدنُ العلماء الربانيين العارفين في مدرسة الحرم المكي الشريف والذين كانوا أساتذة الدكتور أبو سليمان ، فلا تعجّب ولا غرابة في استقامة أخلاقه ورقي أدبه النقي معينه ومنهله . وما تكريم الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في مهرجان الجنادرية لهذا العام إلا تقديرٌ وإجلال لعلماء مكة والحرم المكي الشريف الذي خرّج الفضلاء والمبرزين علماً وخلقاً ، وفي ذلك لفتة كريمة للدور العلمي الذي اضطلعت به الثقافة المكية في أحد أبرز رجالها علماً ومعرفةً ، احتفاءً مستحقاً يفتح الباب لتسليط الضوء على كثير من العلماء المكيين الراحلين الذين أثروا الساحة العلمية وغادرونا تاركين الذكر الحسن والنفع العام بعلومهم التي نفع الله بها المسلمين بالداخل والخارج ولا أقلّ من تكريمهم وتعريف الأجيال بدورهم المميز .
المدينة 1432/5/19هـ