مكة قبل الإسلام... شعر وغناء

عمل بعض أهل مكة قبل ظهور الإسلام وبعده، فيما نطلق عليه اليوم "النشاط الترفيهي". وهذا ما تؤكده الباحثة السعودية د. إلهام البابطين في دراستها عن "الحياة الاجتماعية في مكة منذ ظهور الإسلام حتى نهاية العصر الأموي". الرياض، 1998. تقول: "عرف أهل مكة الغناء منذ العهد السابق للإسلام، وكان المغنون من رجال قريش أحياناً، وأكثرهم من الموالي والإماء. وممن كان يغني من رجال قريش، النضر بن الحارث، وكان يعزف على العود، وكذلك الحكم بن أبي العاص. ولا ندري إن كان هؤلاء اتخذوا من الغناء حرفة لهم، أم أنهم كانوا يتسلون بها ويمتعون حضورهم في المجالس أو النوادي". (ص 197).

وكان تجار الرقيق كما هو معروف، يدربون حسان الإماء خاصة على فنون الغناء والعزف، ويبدو أن الغناء كان مصدر رزق لبعضهن في هذه الأوساط المترفة قبل الإسلام وبعده. وقد وصفت المصادر حياة علية القوم في العهدين بضروب النعيم والترف وفي العهد الأموي خاصة، اتخذ بعض الموالي والمماليك والجواري من الغناء حرفة يكسبون منها رزقهم. وقد قال أحد المغنين لأمير مكة خالد القسري، لما شدَّد في الغناء، "أصلح الله الأمير شيخ ذو عيال كانت له صنعة حلت بينه وبينها". وكانوا يغنون في الأفراح والختان وعند خروج القوم للنزهات. ويبدو أنه كان في مكة، تقول الباحثة، ما يشبه مدرسة للغناء تولت فيها المغنيات تعليم المبتدئات الغناء وآدابه ورواية الشعر وشيء من آداب المحادثة وكان ابن سريح يقول لإحداهن: ما أدري أيهما أحسن أدبك أم غناؤك؟ وقد نال المغنون كرم الموسرين ورجال الدولة من داخل مكة وخارجها، فكانوا يغنون لهم وينادمونهم ويعودون من عندهم وقد ملأوا حجورهم ذهباً وفضة.

وربما كانت العلاقة بين الشاعر والمطرب في الجزيرة العربية نفس هذه العلاقة اليوم، إذ تقول د. البابطين إنه "من خلال دراستنا لتلك الفترة تبين لنا أن مشاركة الصرحاء النسب من أهل مكة، اقتصرت على تقديم أشعارهم للمغنين ليتغنوا بها، وقد يكرم الشاعر المغني إذا برع في غناء شعره فيعطيه المال مكافأة، أو أن بعض الشعراء كانوا يطلبون من المغنين تلحين أشعارهم مقابل أجر معين. وقد أعطى الشاعر عمر بن أبي ربيعة ثلاثمائة دينار للمغني ابن سريج مقابل تلحينه إحدى مقطوعاته.

ومن أغرب الأمور في حياة مطربي ذلك العصر، أن بعض المغنين كان يقوم بنشاط آخر لا صلة له بالترفيه، يكسب من ورائه رزقاً، هو النواحة وراء الجنائز أو في المآتم، وذلك عن طريق إظهار الحزن على الميت وتعداد فضائله والإشادة به شعراً بطريقة بكائية. واعتاد أهل مكة منذ العهد السابق للإسلام، تضيف الباحثة، استئجار المغنين والمغنيات للنوح وراء الجنائز أو في المأتم، واشتهرت المغنية سارة، مولاة بني هاشم، وقد تشترك في النوح مجموعة من النساء يعرفن بالنائحات. وقد نهى الإسلام عن النياحة لكنها لم تختف، لا سيما في العهد الأموي.

ونعود مع الباحثة د. البابطين مرة أخرى إلى مكة، فنرى أن كبار قريش كانوا يحتفلون في مجالسهم بالغناء. ومما يوضح جانباً من وظيفة الغناء في ذلك العهد أن زعماء قريش رفضوا العودة إلى مكة بعد علمهم بسلامة قافلة أبي سفيان، وأصروا على التقدم نحو بدر قائلين: "لا والله، لا نرجع حتى نَرِدَ بدراً، تسمع بنا العرب وبمسيرنا، فنقيم ثلاثاً على بدر ننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، ونشرب الخمر، وتعزف القيان علينا، فلن تزال العرب تهابنا أبداً".

ويقول د. شوقي ضيف في كتابه "الشعر والغناء في المدينة ومكة"، وكتابه أهم المراجع في هذا المجال، إن من يعنى بدرس الحياة العربية في العصر الجاهلي يلاحظ كثرة النصوص التي تدل على انتشار الغناء وذيوعه في كل مكان من الجزيرة العربية. وينقل عن المؤرخ المسعودي قوله، "لم تكن أمة من الأمم بعد فارس والروم أولع بالملاهي والطرب من العرب". ويكاد الإنسان لا يقرأ ديوان شعر جاهلي لشاعر مهم إلا ويجد فيه ذكر الشراب والغناء، ويظهر أن الشعراء أنفسهم كانوا يغنون أشعارهم، وفي كتاب "الأغاني" أن "المهلهل" تغنى ببعض شعره، وكذلك "السُلَيْك بن السُّلَكَة". فالشعر والغناء كانا مرتبطين في العصر الجاهلي، وكانا يتخللان حياة العرب في سلمهم وحربهم، وربما كان المكّيون يرتلون وينشدون بعض الأناشيد أثناء حجهم وإفاضتهم، وكانوا يصفقون ويصفرون. وكانت النساء يتمتعن بما يتمتع به الرجال، وكن يشتركن في الغناء على شكل جوقات وخاصة في الأعراس، وينشدون الأناشيد الحربية لتحميس الجيش في الحروب ويضربن على الدفوف كما في غزوة أحد.

وكانت القيان المغنيات في مكة قبل الإسلام إما فارسيات وإما يونانيات من سوريا، كما يقول د. ضيف مستنتجاً، "إن موجة حادة من الغناء اكتسحت مكة في العصر الجاهلي، حتى بلغ من بعض القوم هناك أن يرتحل إلى العراق، فيطلب تعلم الغناء ثم يعود فيعلمه قومه".

ومعلوماتنا عن الغناء في الفترة الواقعة بين فتح مكة وبين نهاية العهد الراشدي شحيحة للغاية، ولا شك أن هذا يعود إلى ظروف مكة خلال السنوات الأولى للدعوة الإسلامية. أما في العهد الأموي، تقول د. البابطين، فقد خف نزوح المكيين إلى الخارج وأخذ يتزايد قدوم المسلمين الجدد إما بصفة رقيق أو راغبين في الإقامة بمكة طلباً للعيش. وأخذت تتوافر موارد مالية جيدة لكثير من أهل مكة، فمال بعضهم إلى حياة الترف.

وعُرف من مطربي ذلك العصر "سعيد بن مِسْجَح" مولى بني جمح، وكان مكياً أسود البشرة من فحول المغنين وأكابرهم، كما يقول عنه الأصفهاني في كتاب الأغاني. وابن مسجح أول من صنع الغناء منهم، إذ نقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام، وأخذ ألحان الروم وانقلب إلى فارس وتعلم الضرب ثم قدم إلى الحجاز، وقد أخذ محاسن تلك الأنغام وتخلص من كل ما هو خارج عن غناء العرب.

والأخبار الواردة عن وجود الغناء الفارسي والرومي في مكة، ترجع إلى زمن خلافة معاوية، عندما قام عمال من الفرس ببناء دور معاوية بمكة، وكانوا يغنون فسمعهم المكيون وأعجبوا باللحن والإيقاع. على أن بعض الروايات، تضيف د. البابطين، ترجع ذلك إلى عهد ابن الزبير، عندما شرع في إعادة بناء الكعبة، واستقدم عمالاً من الفرس لهذه المهمة، وقام مولى بن جمح المغني المكي سعيد بن مسجح بنقل ألحانهم وتطبيقها على الأغاني العربية واشتهر بها، ولاقت استحسان المكيين.

وممن ساهم في نقل الألحان الأجنبية إلى الغناء العربي، تضيف الباحثة، المغني المكي "مسلم بن محرز"، وكان فارسي الأصل، "وهذا ساعده على السفر إلى بلاد فارس ليتدرب على الألحان الفارسية، وعندما حذقها لم يكتف بها بل ذهب إلى بلاد الشام وأخذ غناءهم وأتى المدينة من أجل لقاء المغنية "عزة الميلاء"، وعاد بعد ذلك إلى مكة لتنفيذ مشروعه، وهو محاولة الاستفادة مما تعلمه، وإدخاله إلى الغناء العربي فصادف توفيقاً كبيراً في هذا المجال".

وكان البعض يبادر بفتح داره للاحتفاء بالمطربين وتشجيعهم وربما الاستفادة منهم. وقد ألحق المغني المكي "الفريض" بمنزله في نواحي مكة داراً كان يقيم فيها مجالس للغناء يغني فيها هو نفسه أو جواريه، فمن يأتيه سامعاً أمر إحدى جواريه بالغناء..

ويبدو أن الجمهور كان يجلس على الكراسي في بعض الأحيان، ففي مجالس الغناء في بيت بـ"قعيقعان" كان المغنون من أهل مكة يجتمعون بالوافدين عليهم ممن يرغب في سماع الغناء. وثمة دار أخرى في أطراف مكة فيها من الكراسي ما يتسع لعدد كبير من الناس.

جريدة الاتحاد 1432/9/14هـ