عناية الملك عبدالعزيز رحمه الله بالأماكن التاريخية المأثورة في مكة المكرمة (4-1)
نتذكر المرافق الحضارية العمرانية والثقافية، نتذكر توسعة المهدي العباسي للحرم الشريف، نتذكر زبيدة زوج الرشيد وإحضار الماء لهذا البلد الطاهر، نتذكر الخيزران رحمها الله تعالى ومحافظتها على الأماكن التاريخية الإسلامية، وصيانتها فبذلت من مالها لبناء مساجد في الأماكن التي شهدت أحداثاً تاريخية غيرت مجرى التاريخ الإنساني فحفظت تاريخ الأمة المجيد المتمثل في البيت الذي ولد فيه رسول الهدى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ودار السيدة خديجة المكان الطاهر الذي نزل فيه الوحي، ودار الأرقم بن أبي الأرقم الذي اختبأ فيه المسلمون، ومنه خرج المسلمون في مظاهرة إيمانية يعلنون دينهم الحق، وإن رغمت أنوف الكفر، وغير هذا من التاريخ الحضاري المشرف الذي حافظت الدول المتعاقبة على مدى التاريخ الإسلامي عليه، وحرصت على أن تظل قائمة شاهداً للعيان تتذكر بها الأجيال تاريخاً مجيداً، وفترة عصيبة في تاريخ الأمة، تقوي في الأبناء صدق الانتماء.
الأماكن التاريخية التي شهدت أحداثاً حاسمة في تاريخ الأمة هي مكتسبات الأمة، المحافظة عليها يزود الأمة بتيار روحي يجدد حياتها، وتبعث مشاهدته الأمل في أبنائها.
نحمد الله جل وعلا أن جعل لدولتنا السعودية حظاً كبيراً في هذا المجال لا يتنكر له إلا جاحد، أو صاحب خبيئة.
يأتي من الإنجازات الحضارية التي يعتز بها تاريخنا المعاصر التقدم العلمي في مجالات العلم المختلفة، الجوائز العلمية العالمية في العلوم على اختلاف أنواعها وفي مقدمتها العلوم الإسلامية، تأسست لها المؤسسات العلمية بكافة مرافقها الحضارية.
كان جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى الرائد الأول في الأخذ بها، والعمل على انجازها، وكان له في ذلك الفضل الأكبر بعد الله ثم لمن أحاط
به منح الرجال المخلصين ذوي البصيرة النافذة، والعقلية المنفتحة.
قد سجل الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى اسمه في سجل الملوك الخالدين الغيورين على تراث الأمة، وركائز حضارتها، فكان له رعاية واهتمام بالأماكن التاريخية الإسلامية التي عاصرت أحداث تأسيس دولة الإسلام، فكان له موقف مشرف منها.
إن بلادنا اليوم وقد أخذت بأساليب الحياة العصرية، وهي تعيش انفتاحاً فكرياً، وتقارباً عالمياً، وتبصراً أوسع بأمورها الدينية والحياتية، قد اتسعت مجالات الرؤية عند أبنائها وعلمائها، ومفكريها، واختلفت نظرتها للحياة، وأساليب التفكير في أمورها. جديرة بأن تأخذ من أفعال مؤسس هذه الدولة -صانها الله- القدوة، والعبرة خصوصاً وقد أسست أركانها على دعائم الإسلام والعقيدة الصافية.
مكة المكرمة مهد الإسلام، ومبعث النور، ومنطلق خاتمة الرسالات، ولما أن الأماكن التاريخية الدليل الناطق الباقي إذا اندثرت الأجيال فإن الحرمين الشريفين لهما الحظ الأوفر من هذه الأماكن، عاصرت جيلاً أثنى المولى عز وجل عليه في كتابه الخالد }رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه|، ومن قبل هذا شرفت بولادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، واحتضنت كبار صحابته الكرام على أرضهما المباركة، شهدت عرصاتهما، ومرابعها ملحمة الصراع بين الحق والباطل، وزكت تربتهما بالدماء الزكية، دماء الشهداء.
في كل شعب منهما، وزاوية، وبقعة أثر خالد، ومنار مضيء يحكي قصصاً من جهادهم، وأمثلة من كفاحهم، تظل وقائعه حية في نفوس الأجيال المسلمة سماعاً، ومشاهدة ما دامت قائمة، ماثلة للعيان، تكتحل بها نواظرهم، وتتردد على أسماعهم مآثرهم، تترسخ بها معاني الإيمان، فتقوى عزائمهم، وتتجدد بها هممهم لنشر العقيدة السليمة، والمبادئ، والقيم الصحيحة، واستعادة مكانتهم بين الأمم يستنطقون التاريخ الإسلامي مراحله المبكرة ليبعث حياً في النفوس من خلال السيرة النبوية، والمسيرة المباركة مشاهدة في آثارهم، القائمة.
مكة المكرمة قد ضمت الكثير من تلك الأماكن التاريخية المهمة في تاريخ الإسلام حظيت بعناية المسلمين واهتمامهم منذ العصور الإسلامية المبكرة، تأليفاً، وتدويناً، وتوقيعاً، وتوثيقاً، ورواية متواترة، أرضها سجل تاريخي، وصفحات موثقة، يتوارث معرفتها الخلف عن السلف في تسلسل تاريخي منتظم، منذ ظهور الرسالة المحمدية، حتى الوقت الحاضر.
حرص السلف الصالح: فقهاء، ومؤرخين، وأدباء موثوقين منذ القرن الأول الهجري على ترسيم تلك الأماكن، وتوقيعها، وتحديدها ونفي الزائف منها، تخليداً للحدث، مرتبطاً بمشاهدة المكان، فللمكان إيحاءاته، وإشعاعاته.
ظهرت العناية بهذه الأماكن التاريخية في مكة المكرمة توثيقاً في مدونات متعددة كثيرة، ومن لدن جهات علمية متنوعة: فقهاء، ومؤرخين، ومؤلفين في السيرة النبوية، والمدونات التاريخية بكل أمانة وصدق، حرصاً ألا يطويها النسيان، فللمكان إيحاءاته، وإشعاعاته الإيمانية، واستذكار أشخاصه الذين أدوا دوراً مهماً في الحفاظ عليها، ومراعاة حرمتها.
بهذا المفهوم التربوي الراقي، البعيد عن الغلو، والمجافاة استحوذ موضوع الأماكن التاريخية المأثورة في المدينتين المقدستين، وبخاصة المكية على اهتمام فقهاء الإسلام، ومؤرخيه من عصر التابعين حتى العصر الحاضر، فقاموا برصدها تحديداً، وتعييناً، وتاريخاً لما حدث عليها من إحداثات، يدعمهم النقل المتواتر بين الأجيال: السماع، والمشاهدة جيلاً بعد جيل في حرص وأمانة علمية شديدة، تجلى هذا الاهتمام في الآتي:
أولاً: المصادر التاريخية العامة، والأخرى المتخصصة في التاريخ المكي.
ثانياً: مدونات السيرة النبوية، وسير الصحابة رضوان الله عليهم.
ثالثاً: كتب المناسك ومدوناتها المطولة والمختصرة، فقد أصبح ذكر هذه الأماكن موضوعاً ثابتاً، وباباً مهماً مستقلاً في معظم كتب المناسك تحت عناوين مختلفة، قل أن يخلو منها كتاب من تلك الكتب، بل إن بعض العلماء أفردها بكتابات مستقلة، ورسائل مفردة زيادة في العناية والاهتمام.
الكثير من هذه الآثار قد اختفى عن الأنظار لغرض توسعة المسجد الحرام، وإعادة تخطيط المدينة المقدسة، مكة المكرمة بحسب ما جد فيها من طرق، وزيادة عدد السكان، وتزايد أعداد الحجاج الذين بلغ إحصاؤهم إلى ما يزيد على المليونين، والمستقبل ينبئ بزيادات مضاعفة في السكان، والحجاج، أدى كل هذا وأكثر منه إلى غياب بعض تلك الأماكن من الوجود ضرورة، وحتى لا تضيع تلك المعالم، وتصبح في طي النسيان ترصد هذه المقالات مآثر جلالة الملك عبدالعزيز يرحمه الله في توظيفها توظيفاً عصرياً عقلانياً، لاشك أنها حلقة مهمة في التاريخ المكي حيث حرص السلف الصالح من علماء مكة المكرمة ومؤرخيها على رصد، كل ما يحدث على هذه البقعة الطاهرة وتدوينه تدويناً أميناً.
عكاظ/السبت 03/03/1427هـ