هل الهجرة من أم القرى سبب في تراجعها إدارياً وخدماتياً ؟
إن صدور الأمر الملكي الكريم قبل عدة أشهر بعودة الإدارات العامة للمنطقة إلى مكة المكرمة، يُعد تصحيحاً تاريخياً، وأرجو أن يكون تنفيذه بنقلها إلى داخل حدود مدينة مكة، وليس خارجها
اليوم أود أن استعرض مع القارئ الكريم ما أراه، وأعيشه، في قراءة سريعة لواقع الهجرة من أم القرى، ومن ثم أترك الحكم، والتفكير فيما يجب على الجميع تجاه أم القرى زادها الله تشريفاً وتعظيماً ومهابة ورفعة، وذلك في سياق البحث عن أسباب ضعف مستويات الأداء الإداري، والخدماتي، والاقتصادي، ومؤسسات المجتمع المدني بها.
فمنذ بداية هذا القرن، الذي شارف عقده الثالث على نهايته، وأنا ألاحظ هجرة العديد من أبناء مكة المكرمة وعائلاتها إلى مدن المملكة الأخرى وعلى الأخص جدة والرياض والدمام..
والسبب الرئيس هو البحث عن فرص العمل والتجارة، والطموح إلى الفرص الأفضل.
وهذا الأمر بدأ في القرن الماضي عندما قررت الدولة نقل الحكومة ومقرات الوزارات، من مكة المكرمة إلى الرياض وجدة -و الطائف صيفاً-، ولكنني أركز على ما عشته شخصياً، فأذكر -على سبيل المثال فقط- أن أشقائي عندما عادوا من بعثاتهم لدراسة الطب، كانوا يرغبون في العودة إلى المكرمة مكة والإقامة فيها والعمل في جامعتها، ولكن لعدم وجود كلية طب آنذاك في جامعة أم القرى اضطروا للعمل في كلية طب جامعة الملك عبد العزيز، ولطبيعة عملهم اضطر اثنان منهم إلى نقل سكناهم إلى جدة، وبقي الشقيق الأكبر يعمل في جدة ويسكن في مكة وينتقل يومياً بينهما على مدى أكثر من عقدين حتى الآن.
وهذا ينطبق على الآلاف من أبناء مكة، وهو مستمر على مدى العقود الماضية، وأعرف أن كثيراً من عائلات مكة اضطروا إلى الانتقال إلى جدة بعد أن التحق أبناؤهم بالجامعة هناك، بسبب تخصصات غير متوفرة في جامعة مكة.
وهذه الأيام أعيش تجربة خاصة، وهي أن ابني البكر صالح تخرج لتوه من جامعة الملك عبد العزيز في تخصص الهندسة الصناعية، وبدأ رحلة البحث عن عمل، فلم يجد فرصاً إلاّ في الرياض وجدة والشرقية، وهذا برغم طرقه أبواباً عديدة ومن بينها يوم المهنة الذي نظمته جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في المنطقة الشرقية، فلم يجد للأسف أي شركة تعرض فرصاً في أم القرى، وعليه جاءته عدة عروض بعد الاختبارات والمقابلات في جدة والرياض والشرقية.
وهذه التجربة جددت في نفسي الحزن على مكة وأهلها، وكيف أن هناك أفواجاً تلو الأفواج من أبنائها انتقلوا منها عبر العقود الماضية، لعدم توافر فرص كافية للعمل وللترقية بل وحتى التجارة، كما هي في الرياض وجدة والشرقية. ويحضرني هنا ما نُقل عن معالي أمين العاصمة الأسبق السيد المهندس عبد القادر كوشك، يرحمه الله، وتعبيره عن سروره بنجاح سعيه في اعتماد الوظيفة الأولى والوحيدة على المرتبة الممتازة، في مكة المكرمة، وهي وظيفة أمين العاصمة المقدسة، وعندها كانت جامعة أم القرى لا تزال فرعاً لجامعة الملك عبد العزيز، والتي أصبحت وظيفة مديرها فيما بعد الوظيفة الثانية على المرتبة الممتازة، ولا أعرف وظيفة ثالثة لهما، بينما تعج الرياض ومن بعدها جدة بمثل هذه الوظائف، لانتقال الوزارات والإدارات العامة والإدارات الإقليمية للبنوك إليهما. بل حتى وظائف المراتب 14 و15 لا تزال محدودة جداً في مكة المكرمة، وهذا في رأيي من الأسباب الرئيسية للهجرة من أم القرى، وتفكك نسيجها الاجتماعي، وبالتالي ضعف حراكها الثقافي والأدبي، والاقتصادي والتجاري، وضعف معظم إن لم أقل كل مؤسساتها المدنية الأهلية.
والشيء بالشيء يُذكر، فقد سُر الشيخ عبد الرحمن فقيه بتأسيس أول شركة مساهمة مركزها مكة المكرمة، هي شركة مكة للإنشاء والتعمير في عام 1409هـ، ومن بعدها بعقدين ثاني شركة مساهمة وهي شركة جبل عمر، وأيضاً لا أعرف حتى كتابة هذا المقال ثالثة لهما..
هذا هو الواقع، في حين أن التاريخ، ومن قبله القرآن الكريم، يذكر أن مكة المكرمة ظلت لقرون مركزاً للتجارة العالمية، بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وكان حجم أسواقها واقتصادها كما يذكر ابن جبير في رحلته، مما لو وُزّع على أسواق الأرض لأنعشها.. وكلامه هذا كان –حسب ما أتذكر- في أواخر القرن السادس الهجري.
إذن مكة منذ ما قبل الإسلام وهي مركز للتجارة، والعلاقات بين شعوب الأرض، وهي في نفس الوقت تستقبل الحجاج، وتكرمهم وتُحسن وفادتهم وسقايتهم، وليس كما يريد وينادي البعض بإخراج أهلها منها، وتحويلها إلى مركز للعبادة والخشوع كما يزعمون!
إن صدور الأمر الملكي الكريم قبل عدة أشهر بعودة الإدارات العامة للمنطقة إلى مكة المكرمة، يُعد تصحيحاً تاريخياً، وأرجو أن يكون تنفيذه بنقلها إلى داخل حدود مدينة مكة، وليس خارجها، كما شاع بين الناس بأنها ستكون في موقع مشروع وزارة المالية على طريق جدة مكة السريع، وعلى بعد حوالى 30 كم من مكة، وخارج حدود الحرم، لأن هذا الموقع من وجهة نظري لن يخدم لا أهدافاً تنموية، ولا أهدافاً إدارية، وقد أعود للحديث عن هذا الموضوع في المستقبل إن صح ما أُشيع.
جريدة المدينة / الاثنين 18/7/1429هـ