نزع ملكية أناس و تمليكها لآخرين ليس مصلحة عامة!!
ما أراه من توسع في نزع الملكيات لصالح شركات التطوير، إنما يسير عكس توجهات الدولة، و ما التزمت به من عدم النزع إلاّ للمصلحة العامة، و التطوير العقاري لا يدخل ضمن المصلحة العامة.
أعلنت أمانة مدينة جدة عن نزع ملكيات بمنطقة قصر خزام ، و ذلك (لصالح) إحدى شركاتها. لاحظوا معي كلمة (لصالح)، لأنها هي مدار فكرة هذا المقال.
و لقد تتبعت ما كتب حول هذا الموضوع فوجدته شحيحاً جداً، و ليس هناك إيضاح ما إذا كان الملاّك مخيرين بين البقاء كشركاء بقيمة تقديرات أملاكهم التي بلغ مجموعها 25 مليار ريال، أو استلام تعويضاتهم؟؟ بمعنى هل هو نزع ملكيات أم دمجها بهدف التطوير، كما جرى في شركتي مكة و جبل عمر في مكة المكرمة.
إن ما جرى في شركة مكة، وما تم تطويره عند تنفيذ جبل عمر، يُعتبر نموذجاً للتطوير العمراني، الذي يحفظ الحقوق، و يحمي الملكيات، و يهدف إلى تنميتها.
و برغم ذلك علينا أن لا ننسى أنه جاء كحل مبتكر لمعالجة واقع معقد، و ظروف خاصة للمنطقة المحيطة بالمسجد الحرام، و استحالة تحقيق التطوير بدونه، سواء من جهة توافر الموارد المالية لدى الدولة في تلك الفترة للقيام بواجبها في شق الطرق، و تأسيس البنية التحتية، و توفير المرافق العامة، أو من جهة صغر مساحات الملكيات بما يستحيل معه إيجاد مساكن تتوافر على مواصفات ضرورية لبيئة السكن و سلامة السكّان. و بالتالي ينبغي أن لا يُصبح بمثابة قاعدة للتطوير العمراني.
و علينا أن نتذكر أن هذا النموذج ينطوي على تعدٍ على الملكيات الفردية، بتحويلها إلى ملكيات جماعية قسراً، و فيه فرض لإدارة الأقلية لأملاك الأغلبية، و فيه تغييب للدور و الإسهام الفردي في التطوير العمراني، الذي يتميز بالتنوع، و يحوي إبداعات متعددة، تتطور مع الوقت، و مع التطور الطبيعي لاحتياجات سكان أي حي و أي مدينة.
إن الأصل هو أن الملكية الفردية محمية و مصونة بحكم الشرع، الذي نحتكم إليه جميعاً في هذه الدولة المباركة، ما لم تتعارض مع مصلحة عامة، و قد نص نظام الحكم على ذلك في إحدى مواده بوضوح.
و الأصل في تطوير المدن و الأحياء هو أن تقوم الدولة بنزع الملكيات، بمقدار الحاجة لشق الطرق، و توفير المرافق، و أن تترك لسكانها التطوير العمراني وفق احتياجاتهم و احتياجات المدينة و زوارها، لأن بذلك -فقط- تحيا المدن، و تكتسب روحها، و تكتب تاريخها، و تنسج حكاياتها، و تشكل ملامحها.
أما نزع ملكيات أناس تحت عنوان الحاجة للتطوير، أو للقضاء على العشوائيات، و من ثم تملكيها لآخرين، أو حتى لمؤسسات الدولة، فإنني أرى فيه إجحافاً في حقوق المواطنين، التي أخذت الدولة على نفسها حماية حقوقهم و صيانة أموالهم و ملكياتهم..
و في مرة ذكّرني أحد قرائي الكرام بموقف للملك المؤسس عبد العزيز طيّب الله ثراه، عندما رفض الاقتراح المقدم لبناء مساكن للحجاج على نفقة الدولة، ورد حينه حسبما نُقل أن مصالح أهل مكة ومنافعهم قائمة على الحج ويجب أن تيسر لهم الدولة ذلك، لا أن تزاحمهم في أرزاقهم.
و خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز سدده الله يقول في خطابه الأخير أمام مجلس الشورى : “إن الحديث عن شأننا الداخلي من أقرب الحديث على نفسي -كما تعلمون- فالشأن الداخلي في بلادنا له مرتكزات وثوابت أساسية محورها المواطن والموارد، فالمواطن هو المستهدف في كل ما تتخذه الدولة من إجراءات وسياسات باعتباره هدف التنمية ووسيلتها، أما الموارد الاقتصادية فهي المحرك الذي من خلاله تقوم الدولة بالوفاء بالتزاماتها بما يحقق طموحات المواطن و رفاهه في إطار تنمية مستدامة».
و ما أراه من توسع في نزع الملكيات لصالح شركات التطوير ، إنما يسير عكس توجهات الدولة و حرصها على عدالة توزيع ما أفاءه الله به عليها من ثروات، و ما التزمت به من عدم النزع إلاّ للمصلحة العامة، و التطوير العقاري لا يدخل ضمن المصلحة العامة، و إنما هو مصالح خاصة للمستثمرين و المطورين، و المصلحة العامة تنحصر في واجبات الدولة تجاه شق الطرق و تأسيس البنى التحتية.
إن نزع ملكيات آلاف العقارات من آلاف الملاّك، و من ثم تمكين شركات يملكها عدد محدود من أصحاب الثراء من تطويرها و تحقيق مكاسب طائلة من ورائها، و حرمان الملاك الأصليين، هو شكل من أشكال تركيز الثروة وجعلها دولة بين الأغنياء منا، و تكريس للفقر و توسيع لدائرته لتشمل المزيد من المواطنين.
إن نشوء الأحياء العشوائية، و ما ترتب عليها من إشكالات، تتحمل مسؤوليته الجهات المعنية بمراقبة المدن و أحيائها، و لا يجوز أن يدفع المواطن الثمن مرتين، الأولى عند تقصير تلك الجهات و عدم نجاحها في منع نشوء العشوائيات، و الثانية عندما تقرر ذات الجهات نزع ملكياتهم و تحويلها لغيرهم بحجة التطوير.
و خلاصة القول بأنه يجب اقتصار نزع الملكيات على قدر الحاجة لشق الطرق و توفير المرافق العامة و في أضيق الحدود، و التزام الدولة بتأسيس البنى التحتية في جميع الأحياء، إفساح المجال للمواطنين للقيام بدورهم في التطوير، و أن لا يكون نزع الملكيات، أو حتى تجميعها، إلاّ عندما يبلغ الأمر درجة الضرورة، و تعجز الحلول الأخرى عن تحقيق المصلحة العامة إلاّ به.
و من المهم أيضاً التنبه إلى التعارض الذي يحدث أحياناً ما بين التوجهات الخيرة المعلنة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز تجاه المواطنين، و بين ما يجري على أرض الواقع و آثاره البعيدة عليهم..
المدينة / 2/8/1429هـ