مشاريع مكة المكرمة وسلسلة الإمداد

تشهد مكة المكرمة عاصمة بلادنا والعالم الإسلامي المقدسة حركة تنموية نشطة هذه الأيام وفق مخطط كبير يحتوي على 21 خطة ويمتد إلى أكثر من 30 عاما ويكلف ما لا يقل عن 100 مليار ريال خصص منها 62 لمشروع النقل المتكامل والباقي لتطوير العشوائيات وتنفيذ الطرق الدائرية والمساندة.


إن ما يتم تنفيذه من مشاريع تنموية في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة الآن هو ما وصفه صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل في اللقاء التعريفي بمشاريع مكة المكرمة في مقر شركة الشامية بجدة «ليست مشاريع في الأحلام وليست طموحات بل أفعال على أرض الواقع».


ولا شك بأن هذا التوسع الكبير والسريع في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة والمناطق المحيطة بها مساحة وخدمات وانتشارا سكانيا يتطلب التنبه لمسألة مهمة لا بد من التخطيط لها في وقت مبكر من خلال شركة أو تنظيم مركزي. وأعني بذلك (إمدادات الأعمال business logistics). وإمدادات الأعمال مفهوم مستمد من علم الإمداد العسكري وتم تداوله ابتداء من فترة الخمسينيات من القرن الماضي نتيجة لتزايد التعقيدات في إمداد شركات الأعمال بالمواد الخام والمنتجات نتيجة للتوسع العالمي في التبادل التجاري وتوطين الصناعات. وهو الآن تخصص جامعي مهم تفتقر إليه جامعاتنا السعودية وما يتوفر من أقسامه في بعض الجامعات والكليات الأهلية ضعيف وهزيل ولا يرقى لمستوى التحديات التي تواجهها بلادنا في مسألة الإمدادات خاصة في مدينة ومنطقة مكة المكرمة.. أما أفضل تعريف لإمدادات الأعمال أراه ينطبق على حالة مكة المكرمة فهو (توفير المادة المناسبة بالكمية المناسبة وبالسعر المناسب وفي الحالة المناسبة للمستهلك المناسب). ويرتبط هذا التعريف بإدارة سلسلة الإمداد من المنتج إلى المستهلك وإدارة المخزون والمستودعات والشراء والنقل.


ولعل من قاموا برسم الخطة الاستراتيجية لمكة المكرمة قد تنبهوا لأهمية المواصلات في إدارة الحشود والإمدادات في العاصمة المقدسة خاصة في مواسم الحج والعمرة وذلك بتخصيص أكثر من ثلثي الإنفاق على المشاريع التنموية لمشروع النقل المتكامل لخدمة ما يزيد على 7 ملايين مستخدم ما بين مواطن وضيف. وهذا وعي مبكر بخطورة المسألة ومجهود تخطيطي رائع يشكرون عليه. ولكن مشروع النقل المتكامل لا يمثل سوى جانب واحد من عدة جوانب من إمدادات الأعمال وهناك جوانب أخرى كثيرة تحتاج إلى تنظيم وإشراف مركزي موحد. فمشروع النقل المتكامل لا بد أن يرتبط بشكل واضح بشبكة المستودعات والإمداد بالأغذية والمواد الأخرى والمرافق الخدمية التي تساند السكان المحليين وضيوف المشاعر من الحجاج والمعتمرين. ولا بد بالتالي أن تؤخذ سلسلة الإمداد وسهولة توزيع المواد في الوقت المناسب وللمكان المناسب بالاعتبار وذلك بتوطين نقاط التوزيع والخدمة الجزئية على مسارات النقل وانتهاء المسارات إلى مراكز الإمداد الكبرى خارج النطاق العمراني مثل المستودعات والمستشفيات الكبيرة ومواقف السيارات والصيانة..


وفي هذا السياق أذكر أنني ابتسمت عند قراءة تعليقات وسائل الإعلام الأمريكية على كتاب (تحريك الجبال) الذي كتبه الجنرال الأمريكي وليام باجونيس عن تجربته في قيادة نشاطات الإمداد العسكري في حرب تحرير الكويت والتي وصفت بأنها «أكبر حركة إمداد عسكري عرفها التاريخ» قدم خلالها 122 مليون وجبة غذاء و1.3 مليار جالون من الوقود واستخدمت خلالها 12.575 طائرة ونقل خلالها 550 ألف جندي وشحنت خلالها 7 ملايين طن من الإمدادات.


فماذا نقول عن مدينة وليست منطقة تستقبل 5.5 ملايين معتمر في العام الواحد إضافة إلى ما لا يقل عن مليوني حاج من الخارج ومثلهم من الداخل وفي أوقات محددة ومواسم متكررة. كم حجم الأساطيل الجوية التي تنقلهم؟ وكم عدد الوجبات التي يتناولون؟ وكم طنا من الإمدادات يستهلكون؟ وكم عدد الوحدات السكنية اللازمة لإيوائهم؟ وما حجم شبكة المواصلات والاتصالات ووسائل النقل التي يحتاجونها في حلهم وترحالهم بين المشاعر؟ وما حجم الرعاية الصحية التي يحتاجون خاصة أنهم ليسوا من الجنود ولكنهم في معظمهم من الشيوخ والنساء والمرضى والعجزة والأطفال؟


ولذلك أرى أن مقارنة الإمدادات بمكة المكرمة بأية إمدادات مدنية أو عسكرية أخرى عبر التاريخ فيه إجحاف كبير في حق هذه البلاد والقائمين على إمدادات الحج والعمرة فيها.


وفي الختام لا يسعني سوى أن أعلن اعتزازي وتقديري لجهود وزارة الداخلية بكافة فروعها، ولجهود أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل في إدارة الحشود والكتل البشرية الهائلة في مواسم الحج والعمرة، ولجهود وزارة الحج في تنظيم شركات الطوافة. ولكن تبقى هناك جوانب أخرى كثيرة في مسألة الإمداد موزعة بين جهات أخرى منها الحكومية ومنها الأهلية تحتاج إلى هيئة مركزية أو شركة مخصصة لإمدادات الأعمال في مكة المكرمة حتى لا نضطر يوما ما لتحريك الجبال..

عكاظ 1433/10/25 هـ