منى .. أضحت التحدي الأكبر أمام التميز في خدمة الحجاج
«الخيام كبديل إسكان يظل بديلاً قاصراً ولا يمكنه مواكبة الزيادة المطردة في أعداد الحجاج عاماً بعد عام ، لأن الخيام غير قابلة لتعدد الأدوار ، وهذا يجعل مساحة الإسكان -والمحدودة بمساحة منى شرعاً- ثابتة في حين أن عدد السكان في تزايد مستمر ، وهذه الزيادة في أعداد السكان وثبات مساحات الإسكان ، سيعزز استمرار أم المشاكل -الافتراش- واستشراءها ... و ظاهرة افتراش الحجاج لشوارع وطرقات منى ، وعلى الأخص منطقة الجمرات ، أدت إلى إعاقة شاملة لجميع الخدمات ، النقل ، و النظافة ، و الإسعاف ، و الدفاع المدني ، وغيرها هذا ناهيك عن الضيق الذي يسببه الافتراش للمشاة القاصدين منطقة الجمرات لأداء شعيرة الرجم ..»
الكلام بين القوسين أعلاه نُشر بتاريخ 2/11/1418هـ أي قبل خمسة عشر عاماً في مقال بصحيفة الندوة كتبته محذراً تحت عنوان الخيام المقاومة للحريق .. هل هي البديل الأمثل ؟! ، و كل ما حذّرت منه حاصل وتفاقمه أيضاً حاصل بمرور السنوات ، إلى أن أصبحت نتائج استمرار بديل الخيام للاسكان في منى و برغم كل المحاولات التي تقوم بمعالجات جزئية مثل تمديد الخيام إلى مزدلفة ، و إخراج بعض الجهات الحكومية من المشعر -أصبحت- تشكل تحدياً حقيقياً هو الأكبر ضمن منظومة خدمات الحج بشكل عام ؛ يصل إلى إحباط جهود الكثير من الجهات الحكومية و الأهلية المبذولة من أجل راحة و اطمئنان الحجاج و إكرامهم و تمكينهم من أداء مناسكهم براحة و اطمئنان.
ولو تأملنا إشكالات مشعر منى سنجدها تتمثل في إفتراش الشوارع خصوصاً في الليل ، وفي اختناق الحركة المرورية ، و بالتالي صعوبة حركة ووصول الحجاج ومن يقوم على خدمتهم إلى داخل المشعر ، و تأخر وأحياناً عدم وصول المركبات التي تنقل الأغذية للحجاج إلى مخيماتهم ، و تأخر نقل المرضى إلى المراكز الصحية و المستشفيات ، و صعوبة تحرك معدات الدفاع المدني و الإسعافات في حالات الطوارىء ، و صعوبة حركة جمع و نقل المخلفات وهو ما بدا واضحاً في السنوات الماضية من خلال تكدسها أمام المخيمات و تزايد كمياتها عاماً بعد عام.
باختصار نحن في مشعر منى أمام مساحات سكن غير كافية و هي تضيق عاماً بعد عام و تؤدي إلى المزيد من افتراش الشوارع ، و أمام نقص في التغذية ، و بيئة غير نظيفة ، و حركة مخنوقة ، وكل هذا مما يبدد جهود الدولة بأجهزتها الحكومية و الأهلية و يُحبط ما تسعى إليه و تُجند من أجله مئات الآلاف من مواردها البشرية و المليارات من مواردها المادية وهو إكرام الحجاج و تمكينهم من أداء مناسكهم براحة و اطمئنان.
ولو تأملنا كل ذلك سنجد أن التمسك ببديل الخيام برغم الفتيا بجواز بناء السفوح منذ أكثر من ثلاثين سنة هو من وراء كل هذه المشاكل التي يرقى بعضها إلى معضلات تتوقف أمامها الجهات المعنية عاجزة عن فعل أي شيء سوى ترك الأمور تجري في أعنتها .. فتراجع مساحات الإسكان في الخيام من 1.6م مربع إلى أقل من متر مربع دفع في السنوات الأخيرة بالحجاج النظاميين للافتراش ، والإفتراش خنق الحركة في المشعر فأدى إلى المزيد من الافتراش لصعوبة الوصول للجمرات و للمشعر لمن يريد أن يبقى طرفاً من الليل فيه ، و صعوبة الحركة أدت إلى إعاقة نقل المخلفات فتلوثت البيئة بصرياً و صحياً ، وأعاقت حركة نقل المرضى فتعرضت حياتهم للخطر ، و أخّرت وصول الأغذية و المشروبات للمخيمات فتلف بعضها رغم حاجة الحجاج اليه و أيام منى هي أيام أكل و شرب كما جاء في الأثر ..
لذلك علينا المبادرة وعاجلاً إلى بناء السفوح ببنايات متعددة الطوابق -عشرة مثلاً- وتوفير مساحات مفتوحة على اسطحها وغيرها ؛ لاستيعاب الراغبين في تحقيق المبيت في منى بالبقاء طرفاً من الليل و تسهيل و تفويج وصولهم وانصرافهم منها وهو ما سوف يمكن من تدوير تلك المساحات بعدد ساعات الليل وهو ما سوف يمكن أعدادا مضاعفة من أداء المبيت في منى، وهو ما سيُنهي في نظري معظم التحديات التي تعيق تقدمنا وتميزنا في خدمتنا لضيوف الرحمن.
بقي أن أقول بأنني وقعت على مقال للوالد يرحمه الله نُشر في جريدة الندوة بعددها رقم 567 وتاريخ 5/6/1380ﻫ أي قبل أكثر من نصف قرن وكان بعنوان (ما رأى سماحة المفتى الأكبر؟) قدم فيه مقترحاً لبناء منى يحقق مقولة (منى مناخ لمن سبق) ، من أجل مواجهة تزايد أعداد الحجاج و اضطرار بعضهم للسكن خارج حدود المشعر .. و من اللطائف ورود مفهوم لم يسبق لي الاطلاع عليه وهو (بيع هواء منى). و المقال موجود على موقع الوالد على شبكة الانترنت www.salehjamal.com و به المقترح بالتفصيل.
وعليه أتساءل كم ضاع من عمر تجربتنا في خدمة ضيوف الرحمن و كم أعاق تقدمها و تطورها توقفنا كل هذه العقود من السنوات دون بناء منى ؟
المدينة 1433/11/27هـ