أهل مكة ومعايير بناء الأدوار
يكتب إليَّ بعض أهالي مكة، خاصة أولئك الذين رحلوا عن مساكنهم التي كانت بجوار الحرم، وسكنوا في مخططات بعيدة في أطراف مكة، وبما منحوه تعويضًا لهم عن مساكنهم، بنوا لهم مساكن في تلك المخططات، التي في الغالب لم يسمح بالبناء فيها أكثر من دور، أو دورين.
والمخطط اليوم إزالة ست مناطق كان فيها من السكان العدد الكبير، فارتفعت أثمان الأراضي، وارتفعت أسعار مواد البناء، ثم جاءت نظم أمانة العاصمة لتحدد الأدوار المسموح ببنائها في المساكن التي تبنى في تلك المخططات الجديدة، وبحث الناس كما هو الحال في شتى مدننا عن المعايير لهذا الأمر، التي تجعل حيًّا يسمح فيه بالبناء إلى الدور السادس، وملاصق له حي آخر لا يفصل بينها إلاّ شارع لا يتجاوز عرضه سبعين مترًا، وتصر الأمانة على ألاّ تسمح ببناء فيه إلاَّ دورين فقط، ومهما شكا سكانه من الضرر الواقع عليهم من هذا القرار لا يلتفت إليهم،
وقضية تحديد الأحياء التي تبنى فيها المساكن دورين، أو ثلاثة، أو أكثر من ذلك، فيما يظهر أنها لا في مكة فقط، بل في سائر مدننا، وهي لا تثبت على حال واحدة، فما حدد له دوران من الأحياء لا يلبث أعوامًا قليلة حتى يسمح فيه ببناء أدوار متعددة، حيث يتضرر مَن بنى فيه دورين، ولا يجد في المال ما يكفي ليُعلي مبناه كالآخرين، فيصبح بيته بين العمارات الشاهقة، في أسوأ حال، والمتضرر من البقاء على سكن ذي دورين قد لا يسمح له بتعلية مبناه إلاَّ بصعوبة، ولو كان الحال ثابتًا، فالمخطط المسموح فيه بتعلية الأدوار معروف، وذو الدورين أو الثلاثة معروف، وكلاهما ثابت على هذا الواقع لما اشتكى أحد، ولا احتج على ما يجري،
ونحن نلحظ أن الأمر غير ثابت، فلا نزال نرى في مخططات كان المسموح بالبناء فيها دورين فقط، يسمح للبعض فيها بتعلية مبانيهم لضعف هذا أو أكثر، ويمنح رخصة من يريد التعلية ويمنع جاره، وعودًا لأحوال مكة المكرمة -عمرها الله بالصالحين من أهلها- فإن الإزالات التي بدأت في الحلقة القريبة من الحرم لتوسعته مرات متعددة، ثم لا فراغ مساحات حوله، وها هي تتوالى الآن من أجل التوسعة، ومرافق للنظار المزمع إنشاء خطه بين مكة المكرمة والمدينة المنورة،
ممّا أوجد شحًا في الوحدات السكنية الكافية لسكان مكة، ممّا رفع الإيجارات في مكة ارتفاعًا كبيرًا يعجز ذوو الدخل المحدود، بل والمتوسط عنه، وقد كان الناس قبل سنوات يمكنهم زيارة مكة، وأن يجدوا سكنًا بجوار الحرم بأجرة معقولة، فبنيت في مكان مساكن أزيلت عمارات وفنادق فخمة، ولم يعد لمتوسط الدخل مطمع في أن يسكن فيها، فخدماتها تقدم للناس بأثمان مبالغ فيها جدًّا، وأصبح المكي الذي اضطرته الظروف أن يقيم خارج مكة، إذا زارها بعد هذه الإزالات فإنه يقيم عند أحد أقاربه لحين سفره، أو السكن في شقق مفروشة بعيدة عن الحرم.
وكنا نتمنى لو وضعت الحلول للسكان عبر كل مرحلة من مراحل التوسعة، وأن تكون هناك مبانٍ شاهقة بعد الجبال المحيطة بالحرم، يسكنها الحجاج، ويتوافدون إليه عبر وسائل حديثة إلى ساحاته المحيطة، وبما أن ما يتم لم يكن له غاية إلاَّ خدمة هذا البيت العتيق ومَن يحجون إليه ويفدون من كل أقطار الأرض، والذي اهتم به ولاة أمر هذه البلاد المباركة، وأعلنوا أنفسهم خدمًا للحرمين الشريفين يحظون برعايتهما، وحفظ أمنهما، وبذل النفيس لعمارتهما، وفقهم الله إلى كل خير وسداد، ويبقى أن نقول إن هذا المقال قد خصص لما يعانيه سكان البلد الحرام من مشكلات، خاصة حل مشكلة مَن يحتاجون منهم إلى سكن لأولادهم بتعلية أدوار لهم فيما يملكون من منازل إذا كان ذلك ممكنًا هندسيًّا، وأن تراعى مصالحهم، والتيسير عليهم، فهم جيران بيت الله، وهم الأحق في أن تراعى حقوقهم، ولنا في مساحات من الأراضي الحكومية المتاحة ما يجعلنا نجد لكل مواطن في مكة، وكل مدننا المسكن الملائم له ولأسرته، وأن نعينه على بنائه وفق الأسس الحديثة التي توفر له الراحة والبيئة النظيفة، فنحن لا نزال نعاني من أن النسبة الأكبر من مواطنينا لا يمتلكون مساكنهم، وتوفيرها لهم أهم المشروعات المستقبلية في هذا الوطن، فهل لدينا الخطط العلمية المدروسة التي يمكن تنفيذها، مع المباشرة السريعة للتطبيق؟ فهل نطمح إلى أن يتحقق هذا الأمر سريعًا؟ هو ما نرجوه، والله ولي التوفيق.
المدينة 1433/12/20هـ