العلم بين زمانين
منذ أن طلبت العلم في الصغر، وحتى هذا اليوم وأنا شيخ أتجاوز السبعين وأنا اعتبر نفسي طالب علم، أضيف إلى ما علمت علمًا جديدًا، لا أنقطع عن القراءة والبحث بل والاستماع لكل من له علم أظنه يفوق ما عندي من علم، وما تطلعت دومًا إلى لقب، وهذا حتمًا ليس شيئًا ابتدعته لنفسي، ولكني طلبت العلم في زمن كان فيه من العلماء ما فاضت شهرتهم على الآفاق، وما كان أحد منهم يسمى نفسه عالمًا، بل وهو وجلُّ تلاميذه، كبارًا استقلوا عنه وأصبحوا مثله يعلّمون الخلق العلم، وصغارًا لا يزالون يلتفون حوله في حلقة الدرس يتلقون عنه، وكلهم لو سألته لقال لك: إنه طالب علم، لقينا من هؤلاء الجمع في حلقات الدروس في المسجدين العامرين، المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ثم رأينا مثلهم في مدن أخرى في نجد والحجاز في المساجد يحرصون على أن ينقلوا العلم لمن بعدهم، وكلهم طالب علم، وعاصرنا وأخذنا علمًا عن بعض علماء الدعوة الإصلاحية خاصة من نسل الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب، وعلى رأسهم الشيخ المفتي محمد بن إبراهيم -رحمه الله- وإخوانه وأبناء عمومته، وكان -رحمه الله- دومًا يحرص على أن يذّكر من يتلقون العلم عنه أنه طالب علم، ويغضب لمن يبالغ في الثناء على علمه أو شخصه وعرفنا الشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ رئيس القضاة في الحجاز، ومعه الشيخ عبدالله بن حميد -رحمهما الله-، وكلهم يذّكر تلاميذه أنه طالب علم، وما كان أحد منهم يسمح لأحد أن يكون تبعًا له، لا يقول إلا بقوله، ويتتبع خطاه من مسجد إلى آخر، وكانوا يزرعون في نفوس تلاميذهم، ألا أحد معصوم يجب تقليده، بل يرددون دومًا، كلٌ يؤخذ من قوله ويترك إلا من بعث إلينا بالهدى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المعصوم عن الخطأ في نقل ما شرع الله لنا في كتاب ربنا وجاء على لسانه -عليه الصلاة والسلام من- سنته قولًا أو كان فعلًا له أو تقريرًا، وما سواه من العلماء المجتهدين بشر يستنبطون الحكم من دليله، وهم عرضة للصواب حينًا والخطأ حينًا آخر لهذا فقد اتفق العلماء أنه يؤخذ من قوله ما وافق الدليل والأصول، ويترك من قوله ما أخطأ فيه، وهو مأجور في الحالين إن أصاب حاز أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن أخطأ حاز أجر الاجتهاد فقط، وما سمعت قط من كل هؤلاء الذين تلقيت العلم على أيديهم من علماء بلادنا، ومن علماء الأزهر الذين لهم نصيب كبير في تعليمنا في دار التوحيد ثم كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وحتى الدراسات العليا، أنه يقول لا تخرج عما علمتك أنا ومن قلدته، بل إن الواحد يتلقى العلم ممن هو مخالف له في المذهب الفقهي، وكلاهما يعلم ولا خصومة بينهما، بل يراعي كل منهما مذهب الآخر، وكان شيوخنا -أحسن الله إليهم كما أحسنوا إلينا-، يزرعون في أذهاننا أن كل عالم مهما بلغ شأوه في العلم قد يخطئ في مسألة ويرد عليه حتى كانوا يقولون: ما منا إلا راد ومردود عليه، ولكنهم يتوقون الخصومة في العلم، ويلتزمون في ردودهم خطة واضحة يستجلون فيها أولًا قول المخالف وأدلته، ثم يذكرون أقوالهم وما يستدلون به عليها، وقد سمعنا من شيوخ الحرم المكي وهم يعرضون الخلاف أن يقول الحنفي قال سادتنا المالكية ويذكر قولهم الذي يخالف مذهبه وأدلتهم عليه، ثم يقول ولنا ويذكر قول مذهبه والدليل عليه، وبهذا الأسلوب الراقي يتجنبون ما نراه أحيانًا في زماننا اليوم من الغلظة في القول واللجاجة في الحوار، والفجور عند الخصومة وكأن ساحة العلم، الذي هو نور وهدى ساحة معركة أول ضحاياها أخلاق أهل العلم، وإن كنا نرى أن من يفعل هذا، ليس من العلم أصلًا، وإن كان له بعض العلم فالجهل الذي معه أغلب، وكان أولئك الأفاضل ينفرون من الثناء عليهم ويفرون منه، وينهون عن تقديس العلماء، وما ظهرت هذه العبارات التي فيها من المبالغات ما الله به عليم، رغم إضافة القول: (نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله) ونعت هذا بالرباني ولسانه يفيض على الخلق بألوان من السباب واللعن والشتم، وهذا العالم الحافظ وهو لم يجاوز من العمر العشرين وما يحفظه من السنة لا يزيد عن عدد قليل من الأحاديث، وتسمع ممن يحب هذا العالم أو ذاك يهاجم من رد عليه بأسوأ أساليب الحوار، لأنه لا يحتمل أن يقال إن شيخه أخطأ، وتسمع وتقرأ لمن تنتفخ أوداجه إن قرأ رأيًا مخالفًا لرأي من يقلده من العلماء ويثق به، سبابًا من نوع يترفع عنه العامة ذوو الأخلاق الكريمة، فما بالك بالعلماء الذين يخشون ربهم، فإن عودة الساحة العلمية الشرعية إلى سابق عهدها، والذي له جذور في تاريخ العلم الإسلامي، من لدن خير العهود عهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضي الله عنهم، هو عودة إلى الحق فلنسع كذلك، ولنسمع من العلماء ما يؤيد هذا ليرتدع الجاهل الغر، الذي جعل من العلم سيفًا يسلطه على رقاب الخلق، بما يوجهه إليهم من تهم لمجرد أنهم لا يتفقون معه على قول في مسألة خلافية، أو مع من يقلده من علماء العصر، وما أسهل تهم التجهيل على مثل هؤلاء، وهم يظنون أنهم العلماء، أحسن الله لمن علّمنا وأحسن إلينا حين طلبنا العلم وألحقنا بالصالحين منهم إنه السميع المجيب.
المدينة 1434/5/4هـ