مكة المكرمة في الموضع الأساس للهوية الوطنية
ذكرني تحليل المقال في هذه الصحيفة المنشور يوم الأحد بتاريخ 10 /8 /1435هـ تحت عنوان كيف أيقظ "الإخوان" و"اليسار" الهوية المناطقية لدى "صوفية الحجاز"؟ بمثل "سمك لبن تمر هندي" لما احتواه من خلط متعمد من أجل الخلوص إلى محاكمة من اعتبرهم خصوما دون اعتبار لآثار بث الفرقة بين فئات المجتمع وبلغة مكارثية وسلوك ميكيافيلي.
والتحليل في فهمي هو تفكيك وتبسيط لشيء ما من أجل فهمه وتحسين فرص التعاطي معه، أما ما جاء في المقال فهو أقرب إلى التركيب والتخليط الذي يصعّب الفهم ويُبعد عن التعاطي الصحيح مع ما تم طرحه في المقال.
وكنت أنوي تتبع ما جاء في المقال، لكنني تنبهت إلى أنني سأقع في نفس ما وقع فيه المقال من التخليط، فقررت أن أقتصر على إيراد بعض النقاط وبالقدر الذي يحتاج إليه التوضيح للقارئ الكريم، وأركز على لب الموضوع المتمثل في نهاية المقال.
ففي بداية المقال جاءت إشارة إلى المراجعة الجادة لحقبة زمنية في تاريخ "السعودية" الحديث بكل مكوناته الثقافية والاجتماعية والتعليمية والدينية والسياسية، وجاء ذكر الحوار الفكري الأول الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين عندما كان ولياً للعهد، ولحسن الحظ أنني ممن شهد هذا التحوّل ضمن المجموعة التي تم اختيارها للمشاركة فيه، وشهدت وشاركت في التحاور مع كل المذاهب وكل التصنيفات الدارجة دون أن أحسب على أيٍ منها لأنني بطبعي لا أنحاز بعد إيماني بمقتضيات الإيمان بالله إلاّ إلى ما أعتقد أنه الحق.
ويلاحظ أن المقال حفل بالعديد من المصطلحات والتصنيفات مثل بقايا اليسار والناشطين الجدد والربيع العربي، وظاهرة الدعاة الجدد، والخطاب الديني الحداثي، والروحانية الحركية، التجليات الدعوية، المظلوميات الهوياتية، الصوفية الحجازية؛ إذ جاء: "كانت بيوتات وجهاء حاضرة الحجاز مفتوحة على مصراعيها للخطاب "الديني" الحداثي الجديد، خصوصاً في ظل خصومتها التقليدية مع السلفية التقليدية القادمة من شرق الحجاز" ونسي أو بالأحرى تناسى أن الحجاز بتكوينه هو موطن التسامح والتعايش وقبول الآخر، وأفضل مكان لاستيعاب حقيقة الاختلاف وأنه لا يُفسد للود قضية.
تحدث المقال عما سماه "التجليات الدعوية" وإحيائها "المظلوميات الهوياتية" وبدأ بعدها في حشد مجموعة من خيوط العنكبوت ليمرق من خلالها بسهامه إلى لب موضوعه، فجاء بالموجة الثانية للربيع العربي، وهي موجة "الإخوان المسلمين" وشبّكها مع "الصوفية الحجازية" وتلحف "اليسار" بعمامتها وجاء على غيرها في كلامه.
وانطلق بعدها لشخصي الضعيف لينسج حوله خيوطه الواهية .. فقدم بالحديث عن البيانات السياسية وأنها هذه المرة كانت مطعمة بأسماء حجازية لطالما تبنت الدفاع عن "الآثار المكية" لينفذ فوراً إلى إشهار فزّاعة "الإخوان المسلمين" حيث قال: "الدكتور فائز صالح جمال بجانب الدكتور مازن مطبقاني كانا من أبرز الشخصيات المكية التي وقعت على بيان "المثقفين السعوديين" الذي يدافعون فيه عن شرعية حكم الإخوان المسلمين في مصر وضد خلع الرئيس السابق الدكتور محمد مرسي".
وبصنعة لطافة - وهذه من اللجهة الحجازية الدارجة - بدأ بالإشارة إلى مقال مزعوم في مجلة الحجاز التي يعلم يقيناً - باعتباره في الوسط الصحافي- أنها تجمع تغريدات ومشاركات من مصادر مختلفة وتصفها مع بعض وتوهم القارئ بأنه مقال.
وكل ذلك تمهيد للهجوم المباشر على كل من يدافع عن الآثار والهوية المكية، وربط حراكهم بشكل مباشر بوصول الإخوان للحكم في دول الربيع العربي في ربط مدهش في فراغه من أي مصداقية؛ إذ ما علاقة وصول الإخوان للحكم في دول الربيع العربي بحراك يطالب بتعزيز الهوية المكية والحفاظ على الآثار والمعالم التاريخية في مكة المكرمة؟
وتكرر في المقال وبشكل متعمد - فيما يُعرف بالإلحاح الإعلامي- الجمع بين "الإخوان" و"الصوفية" و"اليسار" (سمك .. لبن .. تمر هندي) .. وترديد أوهام الربط المدهش بين حراك الهوية المكية في مكة والإخوان في مصر: "حالة التشظي التي أصابت حكم الإخوان في مصر بعد سقوطه وإدراجه على قوائم الإرهاب في مصر والسعودية ألقت بظلالها على كل حراك فكري متصل به، بدوره خَفَتَ الحراك الذي وصل في أوجه إلى دعم شركات إنتاج برامج "يوتيوب"، هذا التوجه الذي يعلي الهوية الفرعية على الهوية الوطنية الجامعة".
وهنا أسفر المقال عن تعمد التقليل من شأن الهوية في اختلال واضح في التراتبية الواجبة عند الحديث عن مكة المكرمة، فمكة المكرمة -شرّفها الله- هي مهوى الأفئدة وقبلة قلوب جميع المسلمين، ومكانتها في نفوس المسلمين تعلو ولا يُعلى عليها، حتى حكّام المسلمين عبر التاريخ يتشرفون بحكمها وخدمتها، وحكّام هذه الدولة السعودية التي باركها الله بخدمة مكة والمدينة اختاروا أن يلقبوا بخدّام الحرمين الشريفين، لذلك فإن هويتها في موضع الأساس للهوية الوطنية.
بقي أن أقول: إن المقال حشد الكثير من المصطلحات، واعتمد الإسهاب والتخليط بين المتناقضات ليخلص إلى توجيه سهامه تجاه أهل الحجاز تحت عناوين مثل اليسار والصوفية الحجازية والهوية المكية؛ والتحريض عليهم بربط حراك بعضهم بفزاعة الإخوان، ولم ينس المن على من وصفهم بالأقليات من أبناء الوطن، بلغة لا تتناسب وفئات المجتمع وتخالف توجه رأس الدولة المعلن تجاه الحوار والإصلاح والحفاظ على الوحدة الوطنية والعناية بالآثار والتراث الحضاري في المملكة وفي المكتين على وجه الخصوص.
الاقتصادية 1435/8/17هـ