بعض ما كشفته كارثة «جسر مكة»

اليوم ومع نشر هذا المقال يكون قد مضى 12 يوماً على حادثة الجسر الأليمة في مكة المكرمة والتي أدت إلى وفاة 6 عمال قضوا نحبهم تحت أطنان من الكتل الخرسانية التي انهارت فوقهم فجأة، وهي الحادثة التي وعد الدفاع المدني يوم الحادثة بإصدار بيان لاحق يوضح المسببات والتفاصيل ولم يصدر ذلك البيان الموعود حتى اليوم.


عبثاً حاولت البحث في مواقع الصحف والمواقع الرسمية عن أي خبر أو بيان أو تغطية صحفية أو حتى مجرد إشارة لأسماء الضحايا وجنسياتهم فلم أجد شيئاً. وباستثناء الأخبار الفورية وقت الحادثة التي حملت روح الإثارة والحماسة التي يحملها أي خبر عاجل، باستثناء تلك الأخبار الفورية فقد تم تجاهل الموضوع تماماً ودفنه تحت طبقة كثيفة من التعتيم.


ترى لماذا يتم تجاهل حادثة بهذا الحجم من الخسائر في الأرواح وبهذا الحجم من الدلالات المرعبة؟ ألا ينبغي أن تكون لنا وقفة مراجعة مع ما حدث؟ وكيف وصلنا لما وصلنا إليه؟ ألا يثير قلق المسؤولين مدى التردي الخطير في مقاييس السلامة لدى شركة المقاولات العملاقة التي تحتكر معظم مشاريعنا؟ أليس من الممكن أن يكون ذلك التردي قد أثر على جودة التنفيذ وليس السلامة فقط؟
ثم أين غابت أنياب الإعلام؟ أين اختفت تلك الأقلام الحادة والتحقيقات الفضولية والعناوين المثيرة التي تُصعد قضايا أقل خطورة بكثير لتحولها لقضايا رأي عام؟ ألم تُكتب عشرات التحقيقات عن طفل ذهب ضحية إهمال طبي في مستشفى خاص قبل فترة؟ ألم تُسود عشرات الصفحات في الحديث عن أسرته ومعاناتها وألم والده ووالدته وذويه؟ لماذا لا يحدث شيء مثل هذا الآن؟ ألا يوجد صحفي واحد استفزته المأساة لينقب عن القصص المعجونة بالدم والأسى لدى أسر وعائلات الضحايا الذين فقدوا عائلهم في غمضة عين؟


ترى لماذا تواطأنا جميعاً كمسؤولين وإعلاميين ومواطنين على هذا التجاهل والبرود في التعاطي مع الحادثة؟ هل لأن الضحايا عمال أجانب وضعفاء لا سند لهم؟ هل لأن جنسياتهم لا تنتمي لدول العالم الأول؟ أم لأن المتسبب في الكارثة شركة كبيرة لها نفوذ؟


ترى هل تردى حسنا الإنساني إلى هذا الحد الذي نقيس فيه ردود أفعالنا تجاه القتل بحسب أهمية الشخص وجنسيته ومركزه في المجتمع؟


إن حادثة الجسر لم تكشف تردي مقاييس السلامة في الشركة فحسب بل كشفت مدى التصدع الكبير في منظومة القيم لدينا كمجتمع، كشفت مدى نفاقنا وعنصريتنا الكامنة التي تتحكم حتى في ردود أفعالنا تجاه الموت نفسه.


كان يفترض بكارثة الجسر أن تكون حدثاً تاريخياً يهز كيان أي مجتمع، أن يؤرخ لها كنقطة سوداء، أن يتلوها حراك مجتمعي لتغيير الأسباب التي أدت لفقد الأرواح، أن يكرّم الضحايا وتخلد أسماؤهم على معالم المدينة كي تبقى ذكرى الكارثة جرس إنذار يحذّر من تكرارها. لكن يبدو أننا رسبنا في الامتحان بجدارة وأن سنوات ضوئية طويلة مازالت تفصلنا عن قيم الحضارة الحقيقية مهما ادعينا خلاف ذلك!

صحيفة الشرق 1435/11/27هـ