رحيلُ الأكاديميّ محمود أسد الله وأوراقٌ من تاريخِ العلمِ والمعرفةِ

* ضمن ما تنشره صحفنا من أخبار عن الراحلين، قرأتُ خبرًا موجزًا عن رحيل أستاذ الأجيال الدكتور محمود أسد الله الكاظمي، وكنتُ قبل مدة وجيزة سألتُ ابن أخيه الزميل الدكتور زهير الكاظمي عن أحواله، فأجابني بأنه لا يغادر منزله. وتأتي معرفتي بالفقيد عندما كنتُ أدرسُ بكلية الشريعة بمكة المكرمة، والتي تحوَّلت فيما بعد، مع نظيرتها كلية التربية إلى شطر لجامعة الملك عبدالعزيز. وكان ذلك في حقبة الدكتور محمد عبده يماني -رحمه الله- ومسؤوليته الإدارية عن شطري الجامعة بمكة المكرمة وجدة، وتم تعيين معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة مشرفًا على شطر الجامعة بمكة، والذي تحوَّل فيما بعد إلى جامعة مستقلة بمبادرة من الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله- وكنّا كطلبة في تلك الحقبة نتعامل بين الحين والآخر مع عمادة شؤون الطلاب، والتي أُوكِلت مسؤوليتها للدكتور محمود، وكان -رحمه الله- في غاية التهذيب عند تعامله مع الطلاب والقادمين من أماكن مختلفة من بلادنا العزيزة، وكان -رحمه الله- يسعى لحل مشكلات الطلاب، ويشعرهم بقربه منهم، وحرصه عليهم، ولم يكن غريبًا ذلك التعامل الإنساني الرفيع الذي كان يبديه المرحوم إزاء الطلاب في المناصب التي شغلها رئيسًا لقسم الجغرافيا، وعميدًا لشؤون الطلاب، ووكيلاً لجامعة أم القرى. ولعلّه كان أول وكيل لها بعدما أضحت جامعة مستقلة.


* نعم تنتفي الغرابة عندما نعرف أنه ينتسب لأسرة علم وأدب، فعمّه هو الأستاذ المربّي والمؤرّخ أحمد علي أسد الله 1325-1413هـ، وكان من بين المراكز العلمية التي تبوّأها هذا الأخير هو عمادة كلية الشريعة بمكة المكرمة بين عامي: 1377-1385هـ، ومن أهم المصادر التاريخية الهامّة التي عمل على إخراجها، وتحقيقها مع الأديب والمؤرّخ الرائد محمد سعيد العامودي هو كتاب الشيخ عبدالله مرداد أبو الخير، والموسوم (نشر النور والزهر في تراجم أفاضل مكة، وقد قام نادي الطائف الأدبي بإخراجه، ثم طبعته دار المعرفة في مجلد تصل صفحاته إلى 600 صفحة، وهو مصدر لا يستغني عنه أيُّ باحث في تاريخ العلم بالبلد الحرام، ولعلّ أستاذنا فضيلة الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان يعرف أكثر عن هذا المصدر الهام، وعن أسرة الكاظمي العلمية في البلد الحرام، فلقد نشأت أجيال -ولسياقات اجتماعية خاصة بها- بعيدة كل البُعد عن هذا التراث العلمي والفكري، والذي يفترض أن يكون بوقائعه ورجالاته الروّاد ماثلاً أمامها قريبًا من تصوّراتها، فلا يمكن لهذه الأجيال أن تنهض حضاريًّا وفكريًّا دون معرفة بجذورها، أو أن تنبتَّ -على مرأى منَّا- عن ماضيها الحافل بصور التسامح والاعتدال والوسطية، وهو ما اتّسمت به دوائر العلم في بلاد الحرمين الشريفين، ولابُدَّ من الاعتراف بأن من انشق من تلك الأجيال، وارتمى في مِهاد الغلوّ والتشدّد، إلاَّ لأننا غفلنا عنه، فنهل من موارد يمكن وصفها -من دون مجانبة أو مجافاة للحقيقة- بأنها آسنة، أو غير عذبة وصافية.
فتلظَّى بسبب كدر ما ارتوى منه بتلك النهايات المؤلمة.


* رحم الله أستاذنا الدكتور محمود، ومَن رحل من رجالات العلم، والحقيقة فلقد قادنا رحيله لهذا الشجن الممتزج بشيء من الأسى والحزن.

المدينة 1436/5/5هـ