قدسية مكة وتراثها ومنافع أهلها بين يدي خادم الحرمين
شهدت المقدسة مكة - شرفها الله - في عهد هذه الدولة المباركة -وما زالت- العديد من مشاريع التوسعة للمسجد الحرام وتطوير الطرق والبنى التحتية والفوقية في المشاعر المقدسة خدمة للإسلام والمسلمين..
ولا شك أن الأهداف الحاكمة والمهيمنة على هذه العناية بالحرمين الشريفين والمدينتين المقدستين أهداف نبيلة تتساوق مع أمر الله لسيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام بتطهير البيت للطائفين والعاكفين والركع السجود (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود).. فجزى الله الملك المؤسس وأبناءه من بعده خيرا، جزاء ما قدموا للحرمين الشريفين وأهلهما وزوارهما..
ولا يخفى أنه كان للتوسعات السعودية المتتابعة للمسجد الحرام تبعات غير مقصودة على الآثار النبوية والمعالم التاريخية، وعلى النسيج العمراني والاجتماعي والتجاري المحيط بالمسجد الحرام.. امتدت آثارها لحياة ومعيشة الأهالي في المكرمة حرسها الله..
إذ جاءت أعمال الهدم على جملة من المواضع النبوية والمعالم التاريخية، وكذلك أدت الهدميات التي شملت أحياء بأكملها إلى تفكيك النسيج الاجتماعي الذي كان موجودا في الأحياء القديمة والتاريخية، فتفرق سكان محيط الحرم في أنحاء مكة وبعضهم انتقل إلى مدينة جدة، فاضمحلت قيم الجيرة والتعاون والتكافل والتراحم التي كانت تسود تلك الأحياء والمجتمع المكي بشكل عام..
وتفكك كذلك نسيج الأسواق التجارية الشهيرة في مكة (سويقة وسوق الليل والقشاشية وشارع فيصل وزقاق الصوغ والغزة والمدعى والجودرية وغيرها) التي كان يتاجر فيها أهالي مكة بأنفسهم ويكتسبون لقمة عيشهم منها، وتشتت محلاتهم في الأحياء البعيدة عن المسجد الحرام فضعفت تجارة بعضهم وأفلست تجارة البعض الآخر فضاقت بهم سبل المعيشة.. وذهب جل التجارة المحيطة بالمسجد الحرام لاحقا للمتسترين والمتستر عليهم..
واجتهد بعض المصممين لمشاريع التوسعة أو مشاريع التطوير العقاري فأحسنوا في جوانب وجانبوا الواجب تجاه قدسية مكة المكرمة وكعبتها الشريفة في جوانب أخرى.. فلم يميزوا على سبيل المثال بين تصاميم مبنى المسجد الحرام ومحيطه من أسواق ودورات مياه ـ أكرمكم الله- فاختلط بذلك المقدس بالمدنس – بالتأكيد دون قصد - وهو ما لا يليق ولا ينبغي استمراره، لأنه لا ينسجم مع الأهداف النبيلة التي تسعى لها هذه الدولة المباركة..
وأما في التطوير العقاري والاستثمار الذي قدم مهرولا إلى مكة فقد ذهب إلى تصوير الأمر وكأنه تسليع للمقدسة والمشرفة مكة، إذ لم يراع المصممون ما يجب في سياق تعظيم بيت الله الحرام وتقديسه، فتطاول بنيانهم حتى أشغل الطائفين عما يجب عليهم من إخبات وخشوع وهم بجوار الكعبة الشريفة، وكثفوا أعداد السكان في محيط الحرم للحد الذي بات ـ في ظني - يمس بصفة من أهم صفات البيت ألا وهو الشعور بالأمن (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا)، إذ غدت الحشود حول المسجد الحرام عظيمة ومهيبة خاصة عقب الصلوات..
لذلك أتمنى على خادم الحرمين الشريفين وهو في رحاب بيت الله هذه الأيام في أول قدوم بعد توليه عرش المملكة التوجيه بإصدار أوامر كريمة واضحة تحمي قدسية مكة وتحفظ روحانيتها، وتوقف هجمة التسليع لها، وترعى مصالح أهلها الذين هم في الأصل في خدمة أهداف الدولة وخدمة مكة وزوارها، وتعيد لهم ولأجيالهم المقبلة فرص الكسب والعيش الكريم التي تأثرت بمشاريع التوسعة المتتابعة للمسجد الحرام..
ويشرفني ومجموعة من المجتمع المكي أن نضع جملة من الأفكار التي تم تطويرها خدمة لهوية مكة وقدسيتها وروحانيتها وآثارها النبوية ومعالمها التاريخية واقتصادها ومجتمعها في مبادرة أسميناها مبادرة معاد لتعزيز الهوية المكية والعناية بالآثار والمعالم التاريخية؛ تحت أنظار ومسامع المقام الكريم.
صحيفة مكة 1436/8/8هـ