عمر عبدالله كامل أوفى الأصدقاء
في زماننا كنا نبحث عن الأوفياء لنصادقهم، ويعز علينا ذلك لندرتهم، ومن توفيق الله عز وجل أن وفقت لثلة من الأصدقاء النبلاء، منهم أخي وشقيق روحي الدكتور عمر عبدالله كامل، الذي وافته المنية يوم الأربعاء 4/11/1436هـ عن عمر ناهز الخامسة والستين، وهو من أسرة مكية عريقة، فوالده عبدالله كامل، كان يعمل في مكتب الملك فيصل بن عبدالعزيز -يرحمهما الله معًا-، وكانت أسرته من كبار الأسر التي تستقبل حجاج بيت الله، وتعتنى بهم، ممن نسميهم المطوّفين.
عرفته من زمن طويل، وكان بيننا مودة راسخة على مر الأيام، عاشرته وسافرت معه، وعرفت عنه ما قد لا يعرفه أقرباؤه، هو منذ أكثر من عقدين من الزمان لا يهتم إلاّ بالعلم والعمل، هو صاحب فكر مستنير، وَجَلَدٍ على القراءة والتأليف، يقرأ كتبًا متخصصة في الشريعة، والاقتصاد، وأصول الفقه، ويختصر بعضها ويهذبه، كتب ما قارب 47 كتابًا، في مجالات مختلفة في العقيدة والفقه وأصوله، والتصوف، وعموم الفكر الإسلامي، يدافع فيها عن الدِّين، ويبسط مسائله، وهو أول من تنبّه إلى التطرّف وآثاره المدمرة، فكان كتابه (المتطرّفون خوارج العصر)، ثم أردفه بكتاب (التحذير من المجازفة في التكفير)، ثم ألّف كتابًا عن (ظاهرة الغلو وانعكاساتها على المناهج التعليمية)، ثم ألّف رسالة بعنوان (مبدعان هامّان) تحدّث فيها عن منهج الجماعات المتطرّفة في وصف المجتمع بالجاهلي، وهجر المخالف، ثم كتب (مبادئ التطرّف الهدّامة)، ودعا إلى الحوار وكتب عنه مؤلفًا بعنوان (آداب الحوار والاختلاف)، ثم مؤلفًا آخر بعنوان (فريضة الحوار). وكان -يرحمه الله- ما حضر مؤتمرًا أو ندوة هنا أو في الخارج إلاّ وكان لسان صدق يدافع عن الدِّين، وينهى عن الغلوّ والتطرّف، ويسعى إلى تعايش المختلفين، ويدعو إلى نبذ العنف. أمضى السنوات الأخيرة من عمره معتكفًا في داره يقرأ ويؤلّف ويتعبّد، لا يهمّه من أمر الدنيا شيء، وكان يعاني من أمراض اشتدّت عليه في الآونة الأخيرة، تدخله المستشفى مرات عديدة، فما رأيت صابرًا مثله على الابتلاء، يتبع السنّة يتداوى ثم يخضع لأقدار الله، رأيته عطوفًا رحيمًا بأهله زوجتيه وابنه محمد، وبناته الثلاث. يسعى لإسعادهم، فنعم الزوج هو، والأب، كان -يرحمه الله- عفيف اللسان عند الاتفاق والاختلاف، لا يهتم لمن يشغب في الحوار، ويطلق لسانه في أعراض مخالفيه، وكان يؤمن أن مَن هذا شأنه حتمًا سيؤول جهده إلى خسران، صادقته زمنًا ليس باليسير، فكان لي أوفى الأصدقاء، لا أزال أتذكّر جليل مواقفه، وعظيم تقديره لأصدقائه وعنايته بهم، عرفته ذا خلق فاضل، يصاحب العلماء والصالحين، ويقدّم لمَن لجأ إليه العون ما استطاع وفاءً لمودة، هو أول مَن يرعاها، لا يسمع منه الصديق كلمة قد تسيء إليه، وحتى أولئك الذين أساءوا إليه منحهم عفوه، وإذا عادوا وتواصلوا معه لم يثرب عليهم، ما رأيته يقتص من أحد، يترك المسيء لإساءته، وله يقين أن الله عادل لا يرضى الظلم، هو من صفوة أصدقائي الذين أعتز بهم، وأكاد أقول إن الدكتور عمر كامل كان لي بمثابة الأخ الشقيق الذي يحرص على شقيقه، وكنت أبادله المودة بمثلها، كنا لا يغيب أحدنا عن الآخر إلاّ وبحث عنه حتى يلقاه.
وعندما اتصل أحد الإخوة بي لينقل خبر وفاة الصديق الصدوق الدكتور عمر عبدالله كامل، لم أستطع أن أتكلم معه، ورجوته أن يترك لي رقم هاتفه حتى أتمكّن من استرجاع حضور ذهني، فقد كان الخبر صدمة عنيفة لي، استدعت شريطًا زاهيًا من صداقة امتدت عبر الزمن، فأنا اليوم أعزي في أخي وصديق عمري كما يعزى أهله وذووه.
رحم الله أخي عمر، فإنه ممّن قال عنهم ربنا: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا). ألحقه الله بهم، ورضي عنه، وأسكنه الجنة مع من أحب سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
المدينة 1436/11/7هـ