معرض الكتاب وأبحر وابن جبير
اعتدت أن أقطع خمسين كيلًا ذهابًا، حتى أحصل على كتاب أود شراءه، فأنا أسكن في ضاحية أبحر الشمالية، والمكتبة التي أقصدها تقع في وسط جدة، وربما اختلفت إلى هذه المكتبة مرتين أو ثلاثا كل أسبوع، أعبر في أثنائها شوارع وأحياء، أو أتجه، من فوري، إلى الطريق السريع، فأحسّ أنني كالمسافر الذي يذرع المسافات الطويلة، بين مدينة وأخرى.
حين أُعلِن عن معرض دولي للكتاب بجدة، فرحت، كما فرح الألوف من محبي الكتاب والثقافة في جدة وغيرها من المدن التي تحفّ بها، فالكتاب يفرح ويسر، واختلافك إلى مكتبة سلوك يبعث على البهجة والسعادة، أما أن ترتاد معرضا ضخما للكتاب، تأخذك فيه مكتبة إلى أخرى، فكأنك في حلم لذيذ، تطالعك فيه أسماء المؤلفين الذين تحبهم، وعنوانات الكتب التي تعشقها، وتشعر، عند كل زيارة، أنك تزداد فرحا وابتهاجا، وهذا يكفي!
فرحتُ بمعرض جدة الدولي للكتاب، وبت أترقب يوم حلوله، وكلما مضى يوم، أتعجَّل الذي يليه، حتى بات أوان موعده مشبهًا حلول العيد، ولم أكن، آنئذ، لأفكر في مقرّ المعرض، فالمهم أن الكتاب سيُزَفّ إلى جدة، وأنها ستصبح عروس الكتاب، كما هي عروس البحر، ولا يعنيني، ولا يعني كل من أحب الكتاب، أَوَقَع المعرض في شمالها أو جنوبها أو وسطها، لا يعنينا كل ذلك، ما دام معرض الكتاب ألقى عصاه في مدينتنا، بعد أن استيأسنا من عودته، أما وقد اختار القائمون على الأمر ضاحية أبحر الجنوبية مقرًّا لمعرض الكتاب، فإني عددْتُ ذلك فألًا سعيدًا، فأنا أسكن في ضاحية أبحر الشمالية، وبيني وبين المعرض خمس دقائق راكبًا، وساعة راجلًا! ألقاه مصبحًا حين أغدو، وممسيًا حين أروح، شاهدته يُشاد أمام عيني قطعةً قطعةً، حتى اكتمل كبيرًا مهيبًا، يُشَارِف خليج أبحر، حيث يمتدّ لسان البحر، ويجتمع الأهالي والسُّيَّاح على رصيفه، يقطعون أوقاتهم في تأمُّل زرقة الماء، ولا تكاد تهدأ فيه الرِّجْل، ليلًا ولا نهارًا.
عرف أهل جدة خليج أبحر، قبل أن يزحف إليه العمران، ويضحي حيًّا من أحياء مدينة جدة، واعتاد الناس، منذ عهد طويل، أن يختلفوا إليه، فالمكان بعيد، بل ممعن في البعد، عن صخب المدينة، ويحلو لهم أن يقضوا فيه الساعات الطوال، أما من تيسرت حاله فيكتري غرفة في واحد من المنتجعات التي تنتشر على شريط الخليج، وعادةً ما كانت تُبْنَى من الخشب، ويعرفها الناس باسمها الأعجمي «شاليه» – والشاليه هو الغرفة المبنية من الخشب – قبل أن تحل فيها اليوم منتجعات سياحية وفندقية فخمة، وكلما مررت، اليوم، بالطريق المؤدي إلى أبحر أرى مبنًى تهدَّم سوره الذي يكتنفه، وتداعت أركانه لقدمه، فأستعيد عصره الذهبي، يوم كان ذلك المبنى فندقًا من أشهر فنادق جدة، ومبعث شهرته أن الأهالي كانوا يقصدونه، ويقطعون إليه المسافات الطويلة، ليغْشَوْا قاعة للسينما في ناحية من نواحيه، ويقضون وقتًا رائعًا وهم يشاهدون فيلمًا سينمائيًّا، قبل أن يحال بين الناس وبين السينما!
وأذكر أنه حين قرأت مجموعة «مخاض الصمت والأقنعة»، للأديبة الرائدة نجاة سليم خياط، شدَّني إليها أن القصة الأولى فيها، وهي «قلب الشاعر»، إنما اتخذت من خليج أبحر مكانًا لأحداثها الرومنطيقية الماتعة، واستجلب نظري وصفها للطريق التي تؤدي إلى ذلك الخليج، فالبطل يصحب زوجته إلى «جزيرة الحب»، «وتطوي العربة الطريق الصحراوي الطويل، وتظهر لهما «أبحر»، فيهتف، بعد صمت طويل: ها هي ذي جزيرتنا قد قربت»! نشرت نجاة خياط مجموعتها القصصية الوحيدة سنة 1380هـ=1960م، وأسعدني في تلك القصة الرومنطيقية أنها تكاد تصف ماضيًا كل ما فيه على حالته الأولى، قبل أن تصيبه الحضارة، فتفسد طبيعته البكر، فالمكان رملي ساذج، ولا ضوء فيه إلا ما تبعثه «القناديل» من وهج، كلما استعرت نار الفتيل فيها، وقدْ نسي الزوجان العاشقان وقود المولِّد الكهربائي.
وأغلب الظن أن خليج أبحر له عند أهل جدة تاريخ قديم، منذ اتخذوا شاطئه الجميل منتجعا ينسون فيه الهم والحزن، ومع ذلك لم أظفر بشيء عنه ذي بال، إلا اتخاذه مكانًا دارت فيه قصة نجاة خياط، وإلا حلمنتيشية للشاعر الساخر أحمد قنديل، وإلماحة إليه في مقالة من مقالاته، وعلى كثرة الرحالين الذين ألمّوا بجدة، من الحجاج والمستشرقين، لم نقع على ذكر لهذا الشاطئ الجميل الذي شِيدَ إلى جانبه، اليوم، معرض جدة الدولي للكتاب، مع أن الرحالة العظيم ابن جبير الأندلسي، المتوفى سنة 614 هـ، قد رست فيه سفينته حين قصد بندر جدة، في طريقه إلى مكة المكرمة، في عشيّ يوم الأحد الثاني من شهر ربيع الآخر من سنة تسع وسبعين وخمسمئة للهجرة.
يقول ابن جبير في نصّ نادر فريد: «وفي عشي يوم الأحد ثانيه أرسينا بمرسى يعرف بأبحر، وهو على بعض يوم من جدة، وهو من أعجب المراسي وضعا، وذلك أن خليجا من البحر يدخل إلى البر، والبر مطيف به من كلتا حافتيه، فتُرسَى الجِلَاب منه في قرارة مُكِنَّة هادئة»، ثم يخوض ابن جبير، بعد ذلك، في حديث آخر.
كانت تلك الأسطر القليلة هي كل ما دُوِّن في التاريخ القديم عن الموقع الذي يحتله اليوم معرض جدة الدولي للكتاب، ثم لا شيء بعد ذلك عن «أبحر»، ولولا كلام ابن جبير، لظُنَّ أن اسم «أبحر» وتاريخه من مستحدثات عصرنا الحاضر.
ويُفْهَم من كلام ابن جبير أن «مرسى أبحر» له تاريخ في جدة، فهو «يُعْرَف بأبحر»، وفيه «مُرْسًى» هو من «أعجب المراسي وضعا»، ويدلنا نصه على أن مجتمعا إنسانيا كان في ذلك المكان، وأن إدارة للمرسى تدبر شؤونه، وأن سفنا ترسو فيه، وأخرى تقلع، وأن العبور إلى جدة كان يمر به، وإن كنا لم نقرأ أي إشارة إليه، بعد نص ابن جبير الفريد واليتيم.
أمَّا عبد القدوس الأنصاري فقد ورد اسم «أبحر» في مَعْلمته الواسعة «موسوعة تاريخ مدينة جدة» في أربعة مواضع، أشار فيهن إلى نص ابن جبير الفريد اليتيم، وأسى المؤرخ الجليل لأن الرحالة ابن جبير، وهو الأديب الأريب، لم يَجُدْ على عشاق «أبحر» بغير تلك الكلمات اليسيرات، وقد كان هم الشيخ تقييد أي نص قديم فيه إشارة إلى مدينة جدة، فيقول، بعد أن ساق بين يدي القارئ نص ابن جبير: «ولكن ابن جبير لم يذكر لنا شيئا عن عمران هذا المرسى، ولا ما قد يكون فيه من صهاريج الماء أو من الآبار، ولا ما قد يكون به من الماء المجلوب من بعيد، ووصْفه بأنه مُرْسًى يدل على أنه كان عامرا، وإن لم يذكر لنا شيئا عن هذا العمران، وكان المنتظر من مثل ابن جبير أن يصف لنا كل ذلك أو بعضه، لأنه أديب ورحالة ذو شم وحاسة أدبية خامسة»!
وأنا أشارك العلامة عبد القدوس الأنصاري حزنه وأساه، وكنت أتمنى أن يزيد ابن جبير، رحمه الله، من حديثه الماتع الشائق؛ تمنيت أن أعرف شيئا من أحداث ليلته التي قضاها في «مرسى أبحر»، تُرى أقضاها على متن الجلاب، حتى أقلعت إلى جدة؟ أم إنه قصد نُزُلًا فبات فيه؟ وهل كان ذلك «النُّزُل» عُشَّة أو غرفة، وما الطعام الذي طعمه؟ لكن رحم الله ذلك الرحالة الأندلسي العظيم، فلولا رحلته ما عرفنا شيئا عن «أبحر» ولاستغلق علينا أمره واستبهم.
لكنني سأمعن في التخيل والتصور، وسأفترض أن السفينة التي أقلت ابن جبير، إنما ألقت مرساها في الناحية المقابلة للخيمة الضخمة التي هي معرض جدة الدولي للكتاب، فهل كان ابن جبير الأندلسي سيحكّ في صدره أن ذلك المكان النائي القصي الذي استجلب مرساه دهشته وإعجابه، سيصبح، بلسان عصره، «سوقًا للكتبيين»، وبلسان عصرنا «معرضًا للكتاب»؟!
صحيفة مكة 1437/2/22هـ