سيرة عالم.. السيد محمد أمين كتبي الحسني
عندما قدمت إلى البلد الحرام دارسًا في مطلع التسعينيات الهجرية من القرن الماضي، كان الحرم المكّي الشريف يعجّ بحلقات عدد من العلماء، الذين عرفوا بتقواهم وورعهم وسعة علمهم، وفي نفس الوقت بعطفهم ومودتهم ومحبّتهم لطلاب العلم ومريديه، ومنهم مشايخنا الأجلاء: حسن المشّاط، عبدالله بن حميد، السيد علوي المالكي، عبدالله بن دهيش، محمّد نور سيف، عبدالله الخليفي، عبدالله اللحجي، وسواهم. وكان شيخنا السيد محمّد أمين كتبي الحسني قد اعتزل التدريس لظروف خاصة به، ولكن سيرته الحسنة كانت تملأ المكان والزمان، مما يعرفه عنه مريدوه وطلبته في مدرسة الفلاح العريقة بمكة المكرمة. وكان هو وزميلاه علوي المالكي ومحمد نور سيف من طلاب فضيلة الشيخ محمد العربي التبّاني رحمهم الله جميعًا وأسكنهم فسيح جناته.
كان السيد محمد أمين كتبي من الورع بحيث أصبح مثالاً عند طلبة العلم آنذاك، فيخرج من داره في حي المصافي في جياد؛ فإذا ما أوقف سيارة لتقلَّه لسوق المنشية فإنه يكرم صاحب المركبة بضعف الأجر المخصص، والحال نفسه عن ما يبتاع ما يحتاجه من السوق، فإنه يقرض صاحب السلعة ضعف ما تستحقه، تورعًا منه واحترازًا من أن يكون صاحب السلعة مجاملاً له بتقدير مكانته وسلطان علمه، وكان بهذا الصنيع يرتفع مكانة عالية في النفوس، ويحتل منها ذروة سنام المحبة والإيلاف.
وقد روى عنه فضيلة الشيخ عبدالوهّاب أبوسليمان في ترجمته التي ضمنها كتاب الشيخ زكريا بيلا الموسوم «الجواهر الحسان»؛ حيث يذكر الشيخ أبوسليمان، الذي حقق هذا الكتاب «الجواهر» مع زميله المرحوم الدكتور محمّد إبراهيم علي، بأن المسؤولين عن إدارة الحرم المكي الشريف آنذاك بعثوا بطلبه -أي السيد محمد أمين- وذكر له أحدهم، ولعله الأستاذ المنصوري، بأن له مبالغ مستحقة على تدريسه في الحرم المكي الشريف، وكانت إجابة السيد الكتبي بأنه أخذ على نفسه وعدًا بأن لا يأخذ أجرًا على تدريسه في الحرم المكي الشريف.
وقد عرف فضيلته بفتح داره كبقية العلماء آنذاك، أمام طلاب العلم، يفيدون من علمه، وينهلون من معينه الثر، وكانت له حولية يمدح فيها الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وقد ضمّ ديوانه الذي طبع بعد وفاته، والموسوم «نفح الطِّيب في مدح الحبيب صلّى الله عليه وسلّم» عددًا من تلك الحوليات، ومن أجواء تلك الحوليات في الديوان نقرأ قوله:
وسَلِ الأباطِحَ والمُحصَّب والصَّفا
والمُنْحنى ومَضارِبَ الفُصَحاءِ
واسْألْ ببابِ الباسطيَّةِ شاعرًا
غَرِدًا يُجِبْكَ بأصدقِ الأنباءِ
المُصطفى روحُ الوجودِ وسرُّهُ
وسراجُهُ في اللّيلةِ الظَّلماءِ
وكمالُهُ وجمالُهُ وقوامُهُ
ونظامُهُ في البدءْ والإنشاءِ
أنوارُهُ ذاتيّةٌ، وصفاتُهُ
قدسيَّةٌ فاضَتْ على الفُضَلاءِ
ولعله من باب إسناد الفضل لأهله أن نشيد بالسِّفْر الجليل الذي أخرجه صديقنا فضيلة الشيخ صالح بن عبدالله بن حميد، سليل أسرة العلم والفضل، في تراجم علماء مكة المكرمة على مختلف منازعهم ومشاربهم مما يعد إضافة مهمة في تاريخ العلم وسير العلماء في البلد الحرام.