عبدالإله باناجة.. وصاحب الحاجة
يوم أن أنهيت مرحلة البكالوريس؛ حملت ملفي لاتجه إلى مكتب الخدمة المدنية لتعييني مدرساً في المدينة المنورة، وأنا خارج من باب الكلية سمعت صوتاً خافتاً ينادي: صالح صالح، وإذا هو رئيس قسم علوم الأحياء الدكتور عبدالإله باناجة يقول لي: فينك؟ تيجي اليوم إن شاء الله تحضر المقابلة الشخصية، لتتعيَّن معيداً عندنا في القسم، وفعلاً حضرت، وكان رئيس اللجنة أستاذنا الأستاذ الدكتور أحمد محمد آشي عميد الكلية، وبوجود وكيل الكلية للدراسات العليا الأستاذ الدكتور جلال الصياد، وحضور رئيس القسم (عبدالإله باناجة)، فتم اختياري، فذهبت بخطاب التعيين إلى مكتب الخدمة المدنية في شارع المكرونة، وتعيَّنت في نفس اليوم، فجزاه الله عني خير الجزاء.
طبعاً معرفتي به تمتد إلى ما قبل تعييني معيداً، حيث كنت طالبا عنده، فقد درَّسني مادتين، هما: اللافقاريات والطفيليات، ولأن عدد الطلاب في تلك الأيام كان محدودا، فقد كانت تربطنا بأساتذتنا رابطة قوية من خلال الرحلات العلمية الميدانية واللقاءات الاجتماعية داخل الجامعة وخارجها، ويتصف الدكتور عبدالإله -رحمه الله- أنه قمة في تواضعه، وسلسل في تعامله، ومؤدب في تصرفاته، وإنساني في أخلاقه، لا يمكن أن يتعدَّى على أحد، أو يُخطئ في حق أحد، وكانت فيه صفة قلَّما تجدها في مسؤول، وهو حرصه الدائم أن تحل المشكلات بين الأساتذة بعضهم البعض، أو بينهم وبين الطلاب بالمحبة والأخوة والتراضي وطيبة النفس، وكان حتى في بعض القضايا الاجتماعية خير عون لبعض الزملاء، فهو وسيط خير ورسول محبة وسبب لتلاقي القلوب، وكان ما يقصده أحد «صاحب حاجة»، إلا ويسعى جهده لتحقيقها له، ولو على حساب وقته، وشيء من ماله، وقد حدَّثني أحد أصحاب الحاجة، وهو موظف في الجامعة، لقيته بعد وفاة الدكتور، فقال لي أنا معروف عنده من أصحاب الحاجة، ووالله يا دكتور صالح يبحث عني لتوفير حاجتي دون أن أسأله إياها، ومع سنوات مديدة خدم فيها الوطن خاصة كوكيل لجامعة الملك عبدالعزيز، وقبلها أميناً للجامعة، وقبلها عميداً، وقبلها رئيساً للقسم، وبعد ذلك عيّن عضواً في مجلس الشورى، ومنها مديراً لجامعة الطائف لمدة اثنى عشر عاما، كلها كانت تُحسب له كإنجاز، ورائد عمل إداري، ولعل جهده في إنشاء جامعة من الصفر (جامعة الطائف) أكبر دليل على أنه يملك خبرة إدارية عالية الجودة، وكان إلى جانب ذلك -رحمه الله- هيِّنًا ليِّنًا بسيطاً، وزرته قبل مرضه بفترةٍ طويلة لتناول الفطور معه في منزله، بعد أن حط الرحال وتنفس الصعداء من العمل الإداري، أنا وأستاذي الدكتور عبدالإله الوسية الذي يعتبره -رحمه الله- الصديق الأول له، وكان على سجيّته وطبعه المتناهي في التناول للموضوعات، وسؤاله عن الزملاء، فقد كان يسأل عنهم فرداً فرداً، بالإضافة إلى ذلك كله حباه الله له من سمعة عائلته (آل باناجة) ماجعله علماً في جدة، فهو ربيب أسرة وعائلة من أشهر العوائل في مدينة جدة من أيّام الملك عبدالعزيز، ولهم بيت مشهور في البلد، مما رشَّحه أن يكتب كتاباً جميلاً عن مدينة جدة تحت عنوان: «تاريخ جدة»، فرحم الله نفساً طيبة كانت بيننا لأعوامٍ مديدة، وجعل مثواها الجنة بما صبرت ولاقت من عنت المرض وآلامه، وقد زرته بعد إجراء العملية، فوجدته صابراً، نِعم العبد، إنه أوَّاب، ثم انقطعت أخباره حتى تفاجأنا بخبر وفاته -رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته.. و(إنا لله وإنا إليه راجعون).
المصدر : صحيفة المدينة