في مدرسة الحج
إن العيش في مكة المكرمة ومجاورة بيت الله الحرام شرف كبير وخير كثير، وليس المقام هنا مقام سرد لفضائل العيش في مكة المكرمة، فالقرآن الكريم والسنة المطهرة وكتب أهل العلم قد فصلت هذا الفضل، وبينت ما يغدقه الله تبارك وتعالى على جيران بيته من نعم وخيرات، لكني أحاول في هذا المقال - من تجربة شخصية - أن أسرد بعضا من فوائد عمل الأبناء خلال فترة من السنة يأتي الناس فيها إلى مكة المكرمة من كل فج عميق.
علاقتي بالحج بدأت منذ عام 1409هـ وما زالت قائمة حتى هذه اللحظة. يمكنني أن أصفها للنشء وللآباء بأنها دورات تدريبية تعليمية «مكثفة»، الفائدة منها على المستوى الشخصي تفوق بأضعاف ما يتم تحصيله ماديا.
من مارس أعمال الحج لسنوات طويلة لا بد أن تجده قد اكتسب لغة جديدة ينطق بها، والأجمل أنك تلحظ فيه معرفة بثقافات بعض البلدان، يعرف ما يزعج أهلها وما يحبونه، وما الكلمات الممنوعة وما العبارات اللطيفة المحببة لديهم، حتى الأسماء الأكثر شهرة لديهم يعرفها. فترة الحج قصيرة وطبيعة العمل خلالها متواصلة وقاسية لدرجة ما، لذا فإن سرعة الإنجاز مطلوبة، بل وضرورية، فالمهام مرتبطة ببعضها، وأغلب أعمال الحج لا تعرف الوقت المحدد (أو دوام 8 ساعات)، فكلما اقترب يوم التاسع من ذي الحجة تزداد وتيرة الأعمال، ويصبح النوم عبارة عن «غفوات» قصيرة، إما على كنبة أو (باطرمة) أو حتى على (زولية حمراء) يلتصق لونها بالخد، وتكتمل النعمة إن كان هذا النوم بوجود مكيف أو على أقل تقدير مروحة (وإذا ما في برضو حنام).
هذا وتقل وجبات الطعام وتختزل إلى وجبة واحدة في اليوم، ويكثر «مضغ» المعمول، ويضطر الشاب - العامل في الحج - إلى مشاركة الحجاج وتجربة طعامهم وإن كان غريبا بالنسبة إليه للوهلة الأولى، وقد يصبح لاحقا مدمنا لطعامهم وحريصا عليه. ومن هنا أتت قصة (سوبر مي والتي تحولت إلى أندومي)، وهذا مجرد مثال.
فترات عصيبة يعيشها الشباب وسط الحجيج أثناء خدمتهم تصل ذروتها وأنت ترافقهم داخل الباص من عرفة إلى مزدلفة ثم إلى منى، «قمة الإرهاق» ساعات طويلة من الجلوس والانتظار، توتر وشعور عال بالمسؤولية وأنت مهتم بـ 50 حاجا في تلك اللحظات. أتذكر أنني سمعت كلمة «كل عام وأنتم بخير» لأول مرة في الحج عندما كان عمري 15 سنة، وبكل أمانة ودون مبالغة في تلك اللحظة فقط تعرفت على عيد ثان غير عيد الفطر.
هذه الصعاب، وهي غيض من فيض، لها انعكاسات إيجابية كبيرة على شخصية الفرد، فالحج مدرسة بكل ما تعنيه الكلمة، تعلمنا من خلالها أسلوب التعامل مع مجتمعات مختلفة، تذوقنا الصبر على قلة الموارد وشح الأدوات، عرفنا معنى التشغيل ومراقبة العمليات ومتابعة المهام، فهمنا أن الإخفاق هنا سوف يظهر هناك، وأن الحج عملية تكاملية يؤثر كل جزء منها على باقي الأجزاء.
ألحق ابنك بأي عمل في الحج، ولا تصدق أي شخص متذمر يقول أثناء فترة الحج «توبة ... هذه آخر سنة أشتغل فيها».
الحج عشق وإدمان.
منقول من صحيفة مكة