لعلهم يشكرون!!
قال تعالي في محكمِ كتابِهِ: «ربنا إني أسْكَنتُ مِن ذُرِيتي بوادٍ غَيِر ذِي زَرعٍ عِندَ بَيتِكَ المحرم رَبنَا ليقيموا الصلاةَ فاجعل أفئِدةً من الناس تَهوِي إليهمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الثمرات لعلهم يَشْكُرونَ».
العجيبُ حقاً أنَّه ليس فيها مما يطلبُهُ أهلُ الدنيا شيء! فلا بساتينَ ولا أنهارَ ولا أجواءَ ساحرةً ولا متعَ من مُتعِ الدنيا الزائلة! ومع ذلك تَقْصِدُها القلوبُ والأبدانُ. إنَّهُ السرُّ الربانيُّ الذي لا يفهمُهُ إلا مَنْ آمَنَ باللهِ رباً وبمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
وصدق الشاعرُ إذْ يقولُ:
يا مكةَ اللهِ قد مَكَّنْتِ لي حَرَماً... مُؤَمَّناً لستُ أشكو فيه مِنْ داءِ
شوقُ الفؤادِ إلى مَغْنَاكِ متَّصِلٌ... شوقَ الرياضِ إلى طَلٍّ وأَنْداءِ
لستُ بصددِ استقصاءِ فضائلِ هذه الأرض الطيبةِ المقدَّسةِ فقد كُتِبَت فيها أوراقِ وكتب ومجلدات وأشعار وأبيات ما فيه غُنيةٌ وكفايةٌ، ولكنني أحبُّ أنْ أشيرَ إلى معنى ضروريٍّ هو معنى (النقاءِ) فقد أراد الله لهذه الأرضِ المقدسةِ أنْ تكونَ نقيةً! نقيةً من العصيانِ، ونقيةً من العُدوانِ، ونقية من الأضغان!
أمَّا العصيانُ فقد قال سبحانه: (ومَنْ يُردْ فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقْهُ من عذابٍ أليمٍ)، والإلحادُ معناه الشركُ واستحلالُ الحرامِ وسائر المنكراتِ. بل قال بعضُ أهل العلمِ: «من همَّ بسيئةٍ في مكةَ أذاقه الله العذابَ الأليمَ وإنْ لم يفعلْها»!. [انظر: تفسير ابن كثير]
وأما العدوانُ فقد جعلها ربنا حرَماً حراماً، (عندَ بيتِكَ المحرَّمِ)، فحرَّم القتالَ فيها، وحرَّم حمل السلاحِ فيها لغير ضرورةٍ، وحرَّم صَيْدَها، وحرَّم نباتَها، وحرَّم لُقَطَتها، وحرَّم على الدجَّال أن يدخلَها ويؤذِيَ أهلَها.
وأما الأضغانُ فقد كان قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم دخولِهِ مكةَ: (اذهبوا فأنتم الطلقاءُ)، مؤذناً بأنَّ مكةَ ليستْ للأحقادِ، ولا لتصفيةِ الحساباتِ، ثمَّ إنَّ الله شرَعَ اجتماعَ المسلمينَ فيها من الآفاقِ إخوةً متساوينَ، ليملأ قلوبَهم حباً، ويطهِّرَها من الحقدِ والكُرْهِ.
إنَّه النقاءُ التامُّ الذي لاتشابهُها فيه مدينةٌ أخرى، فالحمدُللهِ الذي كتبَنا من جيرانِهِ، وجعلَنا جميعاً أبناء هذه البلاد المباركة من خُدَّامِهِ.
نقلا عن صحيغة المدينة