إخراج زكاة الفطر نقوداً

إخراج زكاة الفطر نقوداً ( 1  )

زكاة الفطر إحدى شعائر الإسلام، تأتي ختاماً لعبادة قُصد منها تطهير النفس وتهذيبها، والارتقاء بها روحياً وسلوكياً، لفترة كافية تكفل ترويضها على الخير، والابتعاد بها عن الشر، وما يغضب الرب جل وعلا.

قصد منها الشارع الحكيم مصالح عدة دينية واجتماعية تعود على الأفراد والمجتمع كما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه أبوداود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) صححه الحاكم.

يقول الإمام الخطابي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: «قوله فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر فيه بيان أن صدقة الفطر فرض واجب كافتراض الزكاة الواجبة في الأموال، وفيه بيان أن ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما فرض الله؛ لأن طاعته صادرة عن طاعة الله.

وقد قال بفرضية زكاة الفطر ووجوبها عامة أهل العلم.

محل سائر الزكوات الأموال، ومحل زكاة الفطر الرقاب، وقد عللت بأنها طهرة للصائم من اللغو، والرفث فهي واجبة على كل صائم غني ذي جدة- بكسر الجيم- أي يسار- أو فقير يجدها فاضلة على قوته إذا كان وجوبها عليه لعلة التطهير، وكل الصائمين محتاجون إليها، فإذا اشتركوا في العلة اشتركوا في الوجوب»(1).

زكاة الفطر عبادة ملازمة لشهر الصيام، وضمان قبوله «أخرج ابن شاهين في فضائل رمضان عن جرير بن عبدالله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (صوم شهر رمضان معلق بين السماء والأرض، ولا يرفع إلا بزكاة الفطر).

إنما توقف رفع صوم رمضان على زكاة الفطر لأنها فرضت جبراً وتطهيراً لما عسى أن يصيبه الصائم من لغو أو رفث»(2).

ذكر العلامة أبوعبدالله محمد بن علي بن عمر المازري معنى بديعاً لزكاة الفطر بعد شهر الصيام، وكل عبادة تستغرق وقتاً، وأياماً عديدة في قوله: «وفي قوله الفطر في رمضان تنبيه على قول من يرى أنها لا تجب إلا على من صام ولو يوماً من رمضان»

قال الشيخ: وكأن سالك هذه الطريقة رأى أن العبادات التي تطول، ويشق التحرز فيها من أمور توقع فيها وصماً جعل الشرع فيها كفارة من المال عوضاً عن التقصير كالهدايا في الحج لمن أدخل فيه نقصاً يكفره بالهدي، وكذلك الفطرة كفارة لما يكون في الصوم، وقد وقع في بعض أحاديثها أنه صلى الله عليه وسلم قال (تطهيراً من اللغو والرفث)(3).

المقصود الشرعي من فرضية هذه الزكاة بشكل أساس هو تلبية حاجة الفقير، وإغناؤه في ذلك اليوم تنوع إخراجها حسب حاجته في الزمان والمكان منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم، ولهذا قرر الفقهاء رحمهم الله تعالى بأن تكون (من الطعام المعتاد لأهل البلاد) هذا ما ترويه الآثار الصحيحة عن الصحابة رضوان الله عليهم فقد روى الإمام البخاري في صحيحه «عن نافع بن عمر رضي الله عنهما قال: فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر، أو قال رمضان على الذكر والأنثى، والحر والمملوك صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير فعدل الناس به نصف صاع من بر فكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطي التمر، فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيراً، فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير حتى إن كان يُعطى عن بَنيّ، وكان ابن عمر رضي الله عنه يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين»(4).

وبسنده المتصل إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، قال عبدالله رضي الله عنه فجعل الناس عدله مُدَّين من حنطه»(5).

الأحاديث في هذا كثيرة ومتواترة ولا حاجة إلى سرد ما قد أصبح معلوماً من الدين بالضرورة.

فصْل الحكم الشرعي عن واقع الحالة، ومقصده الشرعي قصور وبتر له من أهم مستلزماته، المحيط الاجتماعي له دور كبير في توجيه الحكم، من أجل أن يكتمل العمل بهذه الشعيرة (زكاة الفطر)، موافقة للشرع من جميع جوانبه ينبغي أن يقدم للفقير حاجاته، وليس في ما هو في غنى عنه، حينئذ يتآخى العمل مع مقصد الشارع، وتكتمل للحكم الشرعي ركائزه الأساسية، ولو قدر فصل التشريع في هذه الفريضة عن الواقع لتخلف عن مراعاة المقصد لشرعي وهو حاجة الفقير.

قد راعى الصحابة رضوان الله عليهم هذا الانسجام التشريعي بين المقصد والواقع المعاش.

لننظر إلى واقعنا المعاصر في شهر رمضان بالذات حيث منَّ الله على هذه البلاد بالأمن والرخاء أصبح السائل يرفض الطعام صدقة يعطاه سواء كانت نافلة، أو واجبة، لأنه أصبح مبذولاً مجاناً، وفي مستوى عال من الجودة والتنويع، يتطوع به المحسنون بإعداد وتنسيق هُيئت له المطابخ الكبيرة، والتجهيزات الفنية والإدارية بحيث تضمن سلامة التوزيع، وحسنه في الأحياء الفقيرة..


لنطل بمنظار الواقع على هذا الجانب في بلادنا المملكة العربية السعودية لتمام تصور المشكلة:

توفر الطعام بشكل كبير جداً حتى حد التخيير بين ما يقدم من أنواع الطعام من أهل الخير، إلى جانب المناظر المعتادة المتكررة في العشر الأواخر من رمضان بما نشاهده من بروز بسطات الحبوب العالية، تتصدر أرصفة البقالات، يجهز أربابها مقدار زكاة الفطر في أكياس مغلقة زكاة الفرد الواحد يتقاضون عليها من المشتري السعر المعتاد، يتجمع الفقراء حولهم، يعطيها المتصدق لأحدهم زكاة الفطر عنه وعن من تلزمه نفقته بعد دفع ثمنها كاملاً للبائع، فيأخذ الفقير ذلك المقدار من الحبوب يعيده حالاً للبائع بثمن أقل، وهكذا دواليك. (هذا التصرف من الفقراء يعطي دلالته الصريحة على ما يحتاجه في الحقيقة، ذلك هو النقود وليست الحبوب).

أصبح هذا المنظر مألوفاً يمثل ظاهرة في نهاية كل شهر رمضان، أساليب تكشف المقصد الشرعي من هذه الشعيرة، ينتقدها كل مسلم؛ لأنها أعادت العبادة إلى شكليات مكشوفة ألغت منها مقصودها التعبدي، وقد أدت هذه الظاهرة إلى إعلان وزارة الشؤون الاجتماعية في جريدة عكاظ الغراء بالعدد 15528 السنة الحادية والسبعون بتاريخ الجمعة 25 رمضان 1426هـ الموافق 28 أكتوبر 2005م تحذيراً بعنوان: (الشؤون الاجتماعية تحذر من التلاعب في زكاة الفطر) قدمت تحته صورة واحدة من صور هذا التلاعب بهذه الفريضة في العبارة التالية:

«قال مصدر مسؤول في الوزارة إن بعض هؤلاء يقومون ببيع زكاة الفطر ويتركون أولادهم بجوارهم ويوهمون المشتري بأنهم فقراء يحتاجون الزكاة فيقوم المشتري بمنحهم ما قام بشرائه، وبعد ذلك يقوم الباعة ببيعها إلى مشتر آخر، وأضاف: إن الوزارة وكافة فروعها في المناطق تشدد على مثل هذه الحالات والقبض على من يزاول هذه المهنة ونصح جميع المواطنين والمقيمين بوضع الزكاة في محلها الحقيقي والانتباه من هذه الأساليب الجديدة التي تحاول استنزاف الجيوب والإبلاغ عن أية حالة يكون فيها اشتباه».

الناس في الماضي بحاجة إلى البر، وليست هذه الفترة منا ببعيد، كان الفقير في المدن فضلاً عن البادية يفرح بالحنطة يحملها أبناؤه إلى بابور الطحين لصنعه فيما بعد خبزاً تطعمه العائلة، أما اليوم فقد أغنت المخابز الكبيرة منها، والمتوسطة المنتشرة في طول البلد وعرضها الناس عن هذه الكلفة، وأصبح الخبز في بلادنا والحمد لله مبذولاً للجميع، يباع ناضجاً من دون كلفة أو مشقة، وبأرخص الأسعار.. إضافة إلى الجمعيات الخيرية التي تهيئ وجبات الطعام للفقراء والمعوزين على مدار العام، وبخاصة في المواسم الدينية كرمضان والحج، هكذا يتبين أن الفقراء في بلادنا في الوقت الحاضر اختلفت حاجاتهم عنها في الزمن الماضي.


فما الذي يحتاجه الفقير حقيقة؟

إنه يحتاج إلى النقد الذي يسد به متطلبات عائلته وأبنائه أمام أعباء الحياة المتكاثرة الثقيلة، يحتاج إلى كثير من الأشياء الضرورية التي ترهقه، ولا يستطيع تلبيتها من دون عون من الله ثم بما يقدمه له إخوانه المسلمون من زكاتهم المفروضة، إنه يفكر في سداد فاتورة الكهرباء التي لا يقوم بها أحد سواه، وكذلك سقيا الماء لأبنائه وعائلته، ولوازمهم المدرسية التي تكلفه الكثير الكثير من المال عدا الأشياء الضرورية التي لا يستطيع التخلي عنها.

هذا هو الواقع الذي يعيشه الفقير.

انفصال المقصد الشرعي من هذه الفريضة والتجاهل للواقع انحراف عن مقاصد الشرع، وتنزيل للأحكام في غير موقعها، فقد تغيرت حاجة الفقراء في عصر الصحابة رضوان الله عليهم فلجأوا إلى ما يحقق مقصد الشريعة، ولم يكن ثمة اعتراض على ذلك، وفي الوقت الحاضر تغيرت حاجة الفقراء، وأصبح ما هو مشروع أصلاً -إلى جانب أنه لا يسد حاجة الفقير- هدفاً للتحايل والتلاعب لسد حاجاته الحقيقية.

النظر الفقهي السليم هو الذي يؤاخي بين الأحكام الشرعية، وتأمل للواقع لتحقيق المقصد الشرعي.

يقول العلامة شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى:

«الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي به من استقام فقد استقام على سواء السبيل»(6).
...................................

(1) معالم السنن، الطبعة الأولى، تصحيح محمد راغب الطباخ، (حلب: المطبعة العلمية، عام 1352/ 1933)، ج2، ص47، وانظر: الغماري، عبدالله محمد بن الصديق، غاية الإحسان، ص66.
(2) الغماري، عبدالله محمد بن الصديق، غاية الإحسان في فضل زكاة الفطر وفضل رمضان، الطبعة الثانية، (بيروت: عالم الكتب، عام 1405/ 1985)، ص65.
(3) المعلم بفوائد مسلم، الطبعة الثانية، تقديم وتحقيق محمد الشاذلي النيفر، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1992)، ج2، ص10.
(4) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري، إشراف الشيخ عبدالعزيز بن باز، (مصر المطبعة السلفية)، ج3، ص375.
(5) صحيح البخاري (باب صدقة الفطر صاعاً من تمر)، ج3، ص375.
(6) إعلام الموقعين عن رب العالمين، الطبعة الأولى تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، (مصر: المكتبة التجارية الكبرى، عام 1374/ 1955)، ج3، ص14.

إخراج زكاة الفطر نقوداً ( 2 )

من نعم الله جل وعلا على هذه الأمة أن هيأ لها في العصر الحديث من الفقهاء الذين ينظرون بعين بصيرتهم إلى مقصد الشارع، ألا وهو جلب المصالح للمجتمع والأفراد، ودرء المفاسد عنهم في كل زمان ومكان في ضوء الواقع المعاش، دون توقف عند ظاهر النصوص، وتجاهل للواقع المتآخي ومقاصد الشرع الشريف، فمن المسائل الشرعية الآنية الكثيرة التي نظر فيها هؤلاء الفقهاء، وأشبعوها دراسة وبحثاً هو: (إخراج زكاة الفطر بالمال) وهو عنوان لرسالة مهمة مفيدة في هذا الموضوع من تأليف الفقيه المحدث العلامة الشيخ أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني رحمه الله تعالى، درس فيها هذا الموضوع من جوانبه المتعددة حديثاً، وفقهاً، ومقصداً شرعياً، واضعاً نصب عينيه، ومحور تأمله مقاصد الشريعة في ضوء الواقع، في دراسة علمية موضوعية تحليلية.

تعرض أول ما تعرض للأحاديث المروية وطرقها ثم ذكر اثنين وثلاثين دليلاً ووجهاً لمشروعية إخراج زكاة الفطر نقوداً، وجواز ذلك ولا يتسع المجال لذكرها كاملة في صحيفة يومية، ويجمل هنا التعرض لأهمها ملخصاً ليحصل بها الاقتناع :

1- اقتضت حكمة الشرع البالغة أمر الناس في عهد النبوة بإخراج الطعام ليتمكن جميعهم من أداء ما فرض عليهم، ولا يحصل لهم فيه عسر، ولا مشقة؛ وذلك لأن النقود كانت نادرة الوجود في تلك الأزمان ببلاد العرب ولاسيما البوادي منها، وخصوصاً الفقراء، فلو أمر بإعطاء النقود في الزكاة المفروضة على الرؤوس لتعذر إخراجها على الفقراء بالكلية، ولتعسر على كثير من الأغنياء الذين كان غناهم بالمواشي والرقيق، والطعام، أما الطعام فإنه متيسر للجميع، ولا يخلو منه منزل إلا من بلغ به الفقر منتهاه، فكان من أعظم المصالح، وأبلغ الحكم العدول عن المال النادر العسر إخراجه إلى الطعام المتيسر وجوده، وإخراجه لكل الناس.

2- أن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة في عصره وبعد عصره، فقد جاء في حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أنه قال له صلى الله عليه وسلم (خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر)، ومع هذا التعيين الصريح قال معاذ لأهل اليمن (ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم، وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة).

3- إخراج المال قول جماعة من الصحابة والتابعين منهم: الحسن البصري، وعمر بن عبدالعزيز، وهو مذهب الثوري، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، واختاره من الحنفية الفقيه أبوجعفر وبه العمل والفتوى عندهم في كل زكاة، وفي الكفارات، والنذر والخراج وغيرها وهو أيضاً مذهب الإمام الناصر، والمؤيد بالله من أئمة أهل البيت الزيدية، وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبوثور...

4- أن النبي صلى الله عليه وسلم غاير بين القدر الواجب من الأعيان المنصوص عليها، مع تساويها في كفاية الحاجة، وسد الخلة فأوجب من التمر والشعير صاعاً، ومن البر نصف صاع؛ وذلك لكونه أعلى ثمناً لقلته بالمدينة في عصره، فدل على أنه اعتبر القيمة، ولم يعتبر الأعيان إذ لو اعتبرها لسوى بينها في المقدار.. وقد عرض فضيلة الشيخ الغماري رحمه الله أثناء هذا الأحاديث المرفوعة والموقوفة والمرسلة، والآثار المروية عن التابعين بالتفصيل سنداً ومتناً.

5- أنه ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم التصرف في القدر الواجب في الفطرة على سبيل الاجتهاد منهم، وهو دليل على أنهم فهموا من النبي صلى الله عليه وسلم اعتبار القيمة ومراعاة المصلحة، أيد هذا بأحاديث صحيحة تؤكد هذه المقولة.

6- استدل البخاري أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء يوم عيد الفطر كما ورد مصرحاً به في مسند أحمد (تصدقن ولو من حليكن) فجعلت المرأة تلقي الخرص، والخاتم، والشيء. قال البخاري: فلم يستثن صدقة الفرض من غيرها.

7- أن النبي صلى الله عليه وسلم عين الطعام في زكاة الفطر لندرته بالأسواق في تلك الأزمان، وشدة احتياج الفقراء إليه لا إلى المال، فإن غالب المتصدقين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ماكانوا يتصدقون إلا بالطعام...؛ ولهذا كان الفقراء يفرحون بمن يأتيهم بطعام، أو يدعوهم إليه كما يحكيه أبوهريرة رضي الله عنه من أهل الصفة وغيرهم، ومن أجل هذا تجد الحق سبحانه وتعالى يمدح بإطعام الطعام، ويتوعد من يبخل به، ولا يحض عليه.

8- أن الله تعالى يقول: }لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون| والمال هو المحبوب إليه؛ فإن كثيراً من الناس يهون عليه إطعام الطعام، وإعمال الولائم، ويصعب عليه دفع ثمن ذلك للفقراء، بل ونصفه، وربعه، وعشره كما أنه يهون عليه دفع خبزة، ولا يدفع ثمنها كما هو مشاهد في كثير من الناس، والحال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كان بخلاف ذلك، ولذلك كان إخراج الطعام في حقهم أفضل لأنه أحب، وإخراج المال في عصرنا أفضل؛ لأنه إلينا أحب.

9- أنه عليه الصلاة والسلام قال (اغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) فقيد الإغناء بيوم العيد ليعم السرور جميع المؤمنين، ويستوي فيه الغني والفقير،... وهذا المعنى لا يحصل اليوم بإخراج الحب الذي ليس هو طعام الفقراء والناس كافة، ولا في إمكانهم الانتفاع به ذلك اليوم حتى لو أرادوا اقتياته على خلاف العادة.

10- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أغنوهم) والغنى وجود ما يتوصل به الإنسان إلى حاجته، والحاجة كما تكون إلى الطعام تكون إلى اللباس وغيره من لوازم الحياة، فقد يكون الفقير عنده قوت يوم العيد، ولكنه محتاج إلى الملابس، أو غيرها من الضروريات، فإخراج المال الذي يسد الخلل من جميع الوجوه هو الذي يتحقق به الغنى المقصود للشارع فهو المتعين والأفضل.

11- أن الفقهاء قالوا يجوز الانتقال في الزكاة الواجبة إلى ما هو أفضل للآية، والأحاديث الواردة في ذلك، والمال في وقتنا أفضل من الحب، فيجوز الانتقال إليه على قولهم، ويكون مع مراعاة المصلحة هو الأفضل.

12- من المعلوم أن انتفاع الفقير بالمد من الطعام قبل الصلاة مساو له إذا أخذه بعدها بدون فارق أصلاً، وهذا القصد لا يحصل اليوم للفقراء بالحب فإنهم محتاجون إلى غيره مما يؤتدم به من لحم وإدام، وخضر وغيرها مما يشتد حزنهم من فقدانها يوم العيد ما لا يشتد -بل ولا يحصل- في سائر الأيام حيث جرت العادة بالتوسع في الطعام يوم العيد ولهذا نوّع النبي صلى الله عليه وسلم الفطرة إلى ما هو طعام مجرد، كالبر، وإلى ما هو طعام وحلواء كالتمر والزبيب؛ لأن هذه الأشياء كانت طعام جميع الطبقات ذلك العصر، فيستوي في تناولها الغني والفقير يوم العيد. أما في عصرنا فقد اختلفت الأطعمة، وتغيرت الحاجيات، وإذا انتقلت الحاجة جاز إخراجه، أو إخراج القيمة التي يتوصل بها إليها كما جوز الفقهاء إخراج الأرز، والذرة، والجبن، والخبز، واللحم وغيرها مما لا ذكر له في الحديث لكونها طعاماً للناس.

13- أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يحصر الواجب في المنصوص عليه ويقل: لا يجوز لكم إخراج غيره، بل صرح بالعلة التي تشمل المال بطريق الأولى، ولذلك أخرج الصحابة في حياته أنواعاً أخرى فقبل منهم، ولم يرده عليهم، فكان أعظم دليل على عدم الحصر في الأنواع المذكورة.

14- أن الأصل في الأحكام المعقولية لا التعبد؛ لأنه أقرب إلى القبول، والبعد عن الحرج(1).

15- أن كثرة الثواب تتبع كثرة المصلحة، ولذا كانت القربة المتعدية أفضل؛ لأن مصلحتها أكثر، قال القرافي: إنما الفضل على قدر المصالح الناشئة عن القربات، ومصالح التقرب بالمال أكثر، فالقربة به أفضل.

16- أن مراعاة حق الفقراء مقدم عند الإمام مالك رحمه الله تعالى ويؤيد هذا في مسألتنا كون الشارع فرض زكاة الفطر حتى على الصغار الذين لم يبلغوا الحلم، بل وعلى الذي لم يخلق بعد على مذهب بعض الأئمة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم علل وجوبها بكونها طهرة للصائم من اللغو والرفث، ومعلوم أن الأولاد الصغار لم يصوموا، ولم يحصل منهم لغو ولا رفث، وما ذاك إلا لتوسيع كمية الزكاة مراعاة لحق الفقراء..، وإذا ثبت هذا لم يبق شك في أن العدول عن المنصوص عليه إلى مما فيه نفع الفقراء ومصلحتهم أولى.

17- أن إخراج المال في هذا العصر يجتمع فيه جلب مصلحة، ودفع مفسدة فيقدم على إخراج الحب الذي فيه مصلحة مقرونة بمفسدة إضاعة المال؛ لأن الفقراء يبيعونه بأبخس الأثمان، فيضيع بسبب ذلك مال كثير بين مشتريه للزكاة، وبين بائعه الفقير.

18- أن مراعاة المصالح من أعظم أصول الشريعة، وحيثما دارت تدور معها، فالشريعة كلها مبنية على المصالح ودرء المفاسد(2).

أخيراً وبعد عرض الأدلة والوجوه على جواز إخراج زكاة الفطر نقوداً توصل العلامة الشيخ أحمد بن محمد الصديق الغماري إلى تفصيل حالات المتلقين لزكاة الفطر، وبيان ما هو الأفضل لكل مجتمع حضري، أو بدوي قائلاً :
«فمراعاة لهذه المقاصد نقول: إن الواجب على أهل البادية البعيدة من المدن إخراج الطعام المقتات عندهم لا التمر ولا المال؛ لأن حالهم مشابه لحال أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم في كون طعامهم الحب، مع وجود الأرحاء في بيوتهم التي تمكنهم من الانتفاع به، بخلاف المال فإن الفقير لو أخذه في البادية لاضطر معه إلى السؤال حيث لا توجد أسواق، ولا دكاكين لبيع الطعام المهيأ المطبوخ، لا خبز، ولا غيره، كما كان في عصر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكذلك لو تغير الحال في المدن، وانقطعت هذه الآلات، وعادت المياه إلى مجاريها الأصلية فإن الحكم يكون كذلك، أما اليوم فالمال في الحواضر أنفع للفقراء، وإخراجه هو الأفضل والأولى»(3).

هذا وإن بعض إدارات الإفتاء في البلاد الإسلامية تتفق مع هذا الرأي، وكذلك الكثير من الفقهاء المعاصرين تمشياً مع مقاصد الشريعة الإسلامية المتآخية مع الواقع حسبما عرضها العلامة الغماري رحمه الله تعالى.

في الختام يجدر التنبيه بأن، اختلاف الفقهاء في هذه المسألة هو من الاختلاف الجائز المحمود الذي عناه الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله في مقالة القاسم بن محمد (أحد الفقهاء السبعة) البليغة:
«لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيراً منه قد عمله، وعنه أيضاً أيّ ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء، ومثل معناه مروي عن عمر بن عبدالعزيز قال: ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم، قال القاسم، لقد أعجبني قول عمر بن عبدالعزيز، ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة، وقال بمثل ذلك جماعة من العلماء»(4).

والله أسأل أن يتقبل صيام الجميع، ويهدينا إلى أحسن السبل إنه سميع مجيب.
حرر يوم الأربعاء 12/9/1427هـ بمكة المكرمة


(1) المقري، أبوعبدالله محمد بن محمد بن أحمد، القواعد، الطبعة الأولى، تحقيق ودراسة أحمد بن عبدالله بن حميد، (مكة المكرمة: معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، بجامعة أم القرى، ت.د.)، ج1، ص296، القاعدة الثالثة والسبعون.
(2) النظر الغماري، أحمد، تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال، ص48- 112.
(3) تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال، ص112.
(4) الشاطبي، أبوإسحق إبراهيم بن موسى الغرناطي المالكي، الموافقات في أصول الشريعة، الطبعة الأولى، بشرح عبدالله دراز، (مصر: المكتبة التجارية الكبرى، ت.د.)، ج4، 125.

 

نشر بجريدة عكاظ بتاريخ الاحد 8 أكتوبر   2006